الفصل التاسع عشر
قالت نفيسة لصديقتها زبيدة وهي تواسيها بين نوحتين، حين انقطع فجأة تعديد المعددة، وسكت المأتم ودارت عليهن قهوة يشربنها في صمت عميق ودموع منها ما لا يزال يسَّاقط قطرات متقطعة، ومنها ما لا يزال ينهل وابلًا غزيرًا، ومنها ما يريد أن يجف لولا قطرة تمده بين حين وحين — قالت نفيسة لصديقتها زبيدة هامسة كأنما تسر إليها شيئًا: لو تعلمين أني لا أحزن على فقد أُمِّي بمقدار ما أحزن على دفنها في هذه المدينة من وراء النهر بعيدة عن أبي وأخويَّ، أولئك الذين دُفنوا في القاهرة، فهم لم يفترقوا في الحياة قط إلا هذه الأسفار التي كان يعمد إليها أبي لتجارته، وكانت أمي إذا حدثته عن كثرة هذه الأسفار وما تقتضيه من فراق، سمعته يقول لها في أناة: إنما نحن في هذه الدار على سفر، وسيكون بيننا جوار متصل في الدار الآخرة إن شاء الله لا تَشكين معه بينًا ولا فراقًا.
قالت زبيدة: وما يحزنك من ذلك؟ لقد التقيا منذ يومين وهما يسعدان الآن بهذا الجوار المتصل الذي طالما تمنياه.
قالت نفيسة وهي تكفكف عبرة أخذت تنهل: قد التقيا! وأنَّى يكون لهما اللقاء! بل أنَّى يكون لهما التزاور وأحدهما في القاهرة والأخرى في هذه المدينة من وراء النهر، والأمد بينهما بعيد!
قالت زبيدة: قد افترق جسماهما، رقد أحدهما في القاهرة، ورقد الآخر هنا، ولكن روحيهما قد التقيا في رضوان الله؛ حتى إذا كان يوم القيامة التقى الروحان والجسمان جميعًا في الجنة، بذلك حدثنا شيوخنا، وبذلك يحدثني سليم كلما ذكرنا الموت، وما أكثر ما نذكره!
قالت نفيسة: افترق جسماهما والتقى روحاهما! هذا كلام لا أفهمه ولا أصدقه، ولو كان حقًّا لما رأيت أبي في الليلة الأولى لوفاة أمي وهو يلقي إلي من بعيد هذا الأمر: قولي لهم يدفنوها معي فإني إليها مشوق، وقد وعدتها بذلك قبل أن أموت؛ ولو كان هذا حقًّا لما رأيت أمي في الليلة الثانية تلقي إليَّ هذا الأمر من بعيد: قولي لهم يدفنوني معه فإني مشوقة إليه، وقد وعدني بذلك قبل أن يموت، أترين لو أن روحيهما التقيا أكانا يطلبان إليَّ هذا الذي تواعدا عليه قبل أن يموتا؟!
قالت زبيدة: وقد أخذ شيء من الخوف الخفي يتسرب إلى قلبها فتسري له في جسمها كله رعدة خفيفة — قالت زبيدة: أفتصدقين الأحلام وتكذبين مقالة الشيخ؟! إن الأحلام كثيرًا ما تَكْذِبُنا، ولكن الشيخ لا يقول إلا الحق.
قالت نفيسة: أما إني لا أدري أيهما يلم بي الليلة إذا غفوت فيُلقي إلي هذا الأمر الذي لا أستطيع له تنفيذًا، فكيف لي بنقل أمي إلى القاهرة وأنا لا أقدر على شيء! وكيف لي بالتحدث إليه أو إلى أبيه في شيء من ذلك وقد فعلا أكثر مما كان ينبغي أن يفعلا. قالت زبيدة: إليه! إلى من؟ قالت نفيسة: إليه! إنك لتعرفينه. ففطنت زبيدة إلى أنها إنما تشير إلى خالد، وكانت لا تسميه إذا تحدثت عنه، وإنما تشير إليه دائمًا بالضمير. قالت زبيدة: قد فهمت، سأتحدث إليه وإلى أبيه وإلى سليم.
واستأنفت المعددة غناءها الذي كان يمزق القلوب، واستأنف المأتم الرد عليها والبكاء معها، وانهلت الدموع غزارًا، واضطربت الأصوات في الحلوق، وألمت النوبات العصبية ببعض النائحات فأسرع إليهن سائر نساء المأتم، يهدئنهن بالقول والعمل، وينضحن على وجوههن الماء. وانصرفت زبيدة من ذلك اليوم وهي تُشفق على نفيسة من خطر جديد، وتزمع أن تتحدث إلى زوجها في نقل هذه المتوفاة إلى القاهرة، ولست أدري أتحدثت في ذلك أم لم تجد إلى الحديث فيه سبيلًا، ولكن الشيء المحقق هو أن الليل جعل يُخيف نفيسة أشد الخوف كلما مالت الشمس إلى الغروب، وكان هذا الخوف يزداد قوة وعنفًا كلما تقدم الليل، وكان أبغض شيء إلى نفيسة أن تأوي إلى مضجعها مخافة أن يزورها النوم، فيزورها معه طيف هذا أو تلك من أبويها، فكانت تدافع النومَ بالقهوة تُسرف في شربها إذا أظلم الليل، لا تكاد تفرغ من كأس حتى تعمد إلى كأس أخرى، ثم أشفقت من العزلة التي كان الليل يضطرها إليها إذا هدأ من حولها كل شيء ونام من حولها كل إنسان، فكانت تستبقي ابنتيها معها حتى يتقدم الليل، فإذا عبث النعاس بالصبيتين ووضع رأس كل واحدة منهما على إحدى فخذيها، أدركها شيء من الجزع وهمَّت أن توقظهما، لولا أن نسيمًا كانت تسرع إلى الصبيتين فتحملهما إلى مضجعهما، ثم تعود إلى مولاتها فتسليها بالقصص والحديث، وما تزال بها حتى تسلمها إلى نوم مضطرب ثقيل، وقد اشتد هذا الأمر مع الأيام، حتى اضطرت الخادم إلى أن تنام في غرفة سيدتها، تُلقي لنفسها وسادة على الأرض، وما تزال بسيدتها في حديث وقصص، حتى إذا أحست منها استسلامًا للراحة أو إذعانًا لشيء يشبه النوم استلقت هي على وسادتها فنامت إحدى عينيها وظلت الأخرى مستيقظة لحراسة سيدتها من هذا الطائف المزعج الذي كان يُلم بها كلما اطمأنت أو كادت تطمئن إلى النعاس.
وقد عاشت نفيسة ما شاء الله لها أن تعيش، وعمَّرت ما أذن الله لها أن تعمر دون أن تطمئن إلى النوم ليلة كاملة، إنما كانت تهبُّ من نومها أثناء الليل فزعة جزعة؛ لأنها رأت أمها أو أباها، وسمعتهما يُلقيان إليها هذا الأمر دائمًا: قولي لهم يدفنوها معي فأنا إليها مشوق، وقد وعدتُها بذلك قبل أن أموت. أو قولي لهم يدفنوني معه فأنا إليه مشوقة، وقد وعدني بذلك قبل أن يموت. وكثيرًا ما رئيت شفتاها أثناء النهار تتحركان دون أن يصدر عنهما صوت؛ فلم يشك من كان حولها في أنها تردد هذا الأمر الذي صدر إليها من أحد أبويها أثناء الليل.
وقد قصَّت نسيم بعض هذا على سيدها خالد، فاستمع له ثم انصرف عن مولاته وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ. وقصَّ خالد ما سمع من مولاته على أبيه، فقال: يرحم الله عبد الرحمن! ويرحم الله امرأته! ويلطف الله بنفيسة! هون عليك يا بني وارفق بها؛ فإنما طائف الليل هذا الذي يزورها كجنية البيت التي تراءت لها ذات مساء، وأنبأتها بأنك تريد أن تُدخل عليها ضرة في بيتها، أتذكر جنية البيت؟! ثم سكت علي لحظة، ثم استأنف حديثه قائلًا: ومع ذلك فيحسن أن نُعيد هذا الحديث على الشيخ، فلعله أن يرى لنا في الأمر رأيًا. وأعاد علي بمحضر ابنه على الشيخ حديث نفيسة؛ فابتسم الشيخ ابتسامة حزينة وقال: يلطف الله بها، إنما هو طائف من الشيطان قد أولع بها فصرفها عن الحياة وصرف عنها الحياة؛ ومع ذلك فارفقوا بها وجنبوها العزلة ما وجدتم إلى ذلك سبيلًا. ونظر الشيخ إلى علي فإذا دمعتان تترقرقان في عينيه ثم لا تلبثان أن تنحدرا على خديه لتضيعا في لحيته الكثة، وإذا هو يقول: اللهم ارحم أم خالد، واغفر لي وللشيخ الكبير ولعبد الرحمن، فقد أنبأتني أنِّي حين أزوج هذين الشابين لا أزيد على أن أغرس في بيتي شجرة البؤس، لقد والله غرستها، فثبتت أصولها في الأرض، وارتفعت أغصانها في السماء، وأخذت تُؤتي ثمرها خبيثًا مُرًّا. قال الشيخ وهو يضحك: ما أشدُّ ما تعبث الأوهام بعقول العقلاء! وانصرف خالد إلى أهله وهو يطيل التفكير في شجرة البؤس هذه، يسأل نفسه عن أُصولها التي رسخت في الأرض، وفروعها التي ارتفعت في السماء، ولكنه لا يسأل نفسه عن ثمراتها المرة الخبيثة؛ فقد ذاق بعضها ووجد طعمها المر الخبيث حين كُشف له الغطاء عن قبح زوجه، وحين أُلزم المضاهاة بين وجهي الصبيتين ووجه أمهما، وحين لعب الشيطان بنفسه فوسوس له ما وسوس، بل زيَّن له ما زين، بل لقد كانت شجرة البؤس هذه مُبكرة في إيتاء أُكُلها، فقد ذاق أول ثمرها ولما يمض على زواجه إلا وقت قصير. رحم الله أمه! لقد كانت كارهة إذًا لهذا الزواج نابية عنه، وأكبر الظن أنَّه هو الذي قتلها.