الفصل الحادي والعشرون
قال سليم وهو مغرق في الضحك — وكان قد جاء زائرًا لخالد وأسرته: ماذا تريد؟ لقد أصبحت تلك الناحية من دار أبيك بيمارستانًا، وأصبحت زبيدة ممرضة لإحدى المجانين، فأما نسيم فقد أمرتها أن تعزل الصبيتين وأن تُعنى بهما، وألا تجعل بينهما وبين أمهما سببًا حتى تنجاب عنها هذه المحنة، وأظنك توافقني على أن الدُّور لم تقم ليمرَّض فيها المجانين؛ فللمجانين دارهم الخاصة في القاهرة، وأظنُّك توافقني أيضًا على أن زبيدة ليست هي التي تحسن رعاية المجانين والقيام عليهم، فأطعني يا بني، ولنرسل نفيسة إلى حيث ينبغي أن تقيم.
قال خالد وفي عينيه دمعتان تريدان أن تسقطا ولكنه يعلقهما بين جفونه في شيءٍ من الجهد: حاشَ لله! لن يكون هذا وأنا حي، ماذا أقول لعبد الرحمن وزوجه إذا التقينا في الآخرة؟! وماذا أقول للشيخ إذا سألني عن العهد الذي أعطيته على نفسي؟ وكيف أرضى لابنتيَّ أن يُقالَ إنَّ أمهما قد اضطرت إلى مستشفى المجانين؟!
قال سليم في شيءٍ من الجد: وماذا تريد أن تصنع إذًا؟ فإنَّ حال نفيسة لا تطاق، ولا سبيل إلى تمريضها حيث هي الآن. وهمَّ خالد أن يجيب، ولكن «مُنى» سبقته إلى الحديث، فقالت: إنَّما مكان نفيسة هنا في هذه الدار، أقومُ عليها أنا ومن معي، ويرعاها أبو ابنتيها من قريب كَمَا كان يرعاها قبل أن ينتقل إلى هذه المدينة. قال الرجلان معًا: أوَتفعلين؟ قالت مني: ولِمَ لا؟ سأتخذ ابنتيها ابنتين لي، وقد رزقني الله أربعة غلمان ولم يرزقني بنتًا واحدة. قال سليم وعلى ثغره ابتسامة راضية وفي صوته حنان لم يُعرف منه: بل تتخذين ابنتيها أُختين لك، فما أرى أن الفرق بينك وبين سميحة عظيم. أما خالد فقد عجز عن ضبط نفسه فأرسلها على سجيتها، وعن إمساك دموعه ففرق ما بين جفونه، وإذا هو ينتحب، وإذا دُمُوعه تنهمل على خديه انهمالًا.
فلما رأى سليم ذلك من أمره عاد إلى المألوف من عُنفه الظاهر وجفوته البادية، فأغرق في الضحك وهو يقول: ما رأيت كاليوم رجلًا يشبه النساء وامرأة تشبه الرجال، انظر أيها الأحمق إلى امرأتك وتعلَّم منها كيف يكون لقاء المحن؟! وكيف يكون الثبات للخطوب؟! ألا تستحيي أن يدخل بنوك وأن يروك في هذه الحال! ثم التفت إلى «مُنى» وهو يقول: جفِّفي له دموعه أو ابغيه منديلًا يجفف به هذه الدموع، ولكنكما لما تسألاني كيف كان بدء هذه القصة التي انتهت بنفيسة إلى ما هي فيه؛ فإنَّ هذه القصة مؤلمة حقًّا، ولكن فيها مع ذلك كثيرًا من الغرابة وكثيرًا من الفكاهة أيضًا. قالت منى: من الفكاهة؟! قال سليم: نعم من الفكاهة. أتعرفين من دفع نفيسة إلى هذه الحال؟ قالت منى: من دفعها إلى هذه الحال؟ قال سليم: أتذكرين أم رضوان أم لعلك نسيتها؟ قالت منى: أم رضوان! وكيف أنساها، ولم يبعد عهدي بها بعد. قال سليم: فهي التي فتحت لنفيسة هذا الباب المُنكر الذي لا نعرف كيف نخرجها منه. قالت منى: وكيف ذاك؟
قال سليم وهو يلتفت إلى خالد: إنك لتعرف دار أبيك في ذلك اليوم من الشهر حين يُهيأ الخبز، وإن أم رضوان هي التي تخبز لهم، فتذكر إن كنت ناسيًا، كيف يكون الاستعداد لهذا اليوم: لا تكاد الشمس تجنح إلى مغربها حتى تكون إحدى نساء الدار مَشغولة بإعداد الخميرة، فإذا تقدَّم الليل شيئًا تعجل النساء نومهن ونامت في الدار أم رضوان، فلم يذقن النوم إلا غرارًا؛ فهن ينهضن إذا انتصف الليل أو قارب ثلثيه، وهنَّ يسرعن إلى عجينهن يُنفقن فيه الساعة أو أكثر من الساعة، يتنافسن فيما يبذلن من جهد، لكل واحدة منهن وعاؤُها الذي تعجن فيه، حتى إذا أتممن ذلك وفرغن من تنافسهن وما يكون بينهن من حديث يهمسنه همسًا أو غناء يُخافتن به مَخافة أن يصل إلى آذان الرجال، والجاهلات مع ذلك لا يلحظن أن ما يُحدثن من الصوت في أوعيتهن كاف لإيقاظ المغرقين في النوم العميق، ولكنهن لا يتحدثن إلا همسًا، ولا يتغنين إلا إسرارًا، فإذا فرغن من عملهن ثبن إلى مضاجعهن يلتمسن فيها علالة من نوم ريثما يرتفع العجين، وتنهض إحداهن قبل صاحباتها لتُحمي التنور، فتمتلئ القاعة وهجًا، وتمتلئ الدار دُخانًا، ويهبُّ أهل الدار مع الفجر: فأمَّا الرجال فيُصَلُّون ويتعجلون قهوتهم، ويغدون مع الطير، وأمَّا النساء فيسرعن أو يبطئن إلى قاعة التنور؛ فَهُنَّ قد اتخذنها موعدًا للقاء. هنالك تجلس أم رضوان إلى جانب الفرن لتُنضج الخبر ترقصه على مطرحتها حينًا ثُمَّ تدفعه إلى التنور دفعًا، ثمَّ لا تلبث أن تُخرجه بغصنها ذاك اليابس من سعف النخل، وما تزال ترقص رغيفًا وتخرج رغيفًا حتى يرتفع الضحى والنساء من حولها يداعبنها ويتلاغطن بأحاديث مختلفة، فيها الجد وفيها الهزل وفيها الشكوى وفيها المؤاساة.
قال خالد وقد كاد يُرَدُّ إلى صباه: فما شأن هذا كله وما نحن فيه؟ قال سليم: شأن هذا كله وما نحن فيه، أنَّ نفيسة كانت بين النساء في قاعة التنور، فقصَّت أم رضوان قصة سمعتها نفيسة فصدقتها وهمَّت أن تحققها، فلما رُدَّت عن ذلك بعد جهد أصابها ما هي فيه الآن. قال خالد: وما قصة أم رضوان هذه؟ قال سليم: كان النساء يتجاذبن أحاديث الجن وأحاديث الجنيَّات خاصة حين يظهرن إذا تقدم الليل ويرقصن في ضوء القمر. فقالت أم رضوان: لقد رأيت في قريتنا أمرًا عجبًا، رأيته بنفسي فلا أستطيع أن أكذبه، ولو حدثني به أحد غيري لرفضته كل الرفض. قال النسوة: وماذا رأيت يا أم رضوان؟ قالت: إني أخاف أن أقصَّ عليكن ما رأيت. قال النسوة: بل قصيه علينا. وألححن في ذلك وفي نفوسهن ثقة بأنَّ أم رضوان لم ترَ شيئًا، ولكنه الشوق إلى القصص والرغبة في الشعور بالخوف وهذه اللذة الغريبة التي يجدنها في إثارة الفزع في نفوسهن.
قالت أم رضوان: كنت أخبز في قريتنا لجارة لنا ذات مساء كما أخبز الآن، وكانت صاحبة الدَّار أم عثمان جالسة معي بين أتراب لها وجارات، وكنَّا نتحدث كما نتحدث الآن، وإذا امرأة من أهل القرية تدخل علينا متفزعة متفجعة، فإذا سألناها عمَّا بها زعمت لنا أنها خرجت مع صاحباتها من آخر الليل يملأن جرارهن، وإنهن لعائدات يُغنين في صوت خافت يستأنسن بالغناء من وحشة الليل، وإذا هُنَّ يسمعن أصواتًا لا يكدن يَتَبَيَنَّهَا، فيصغين ويمددن أبصارهن فيرين نساء يلطمن وجوههن وهن يتغنين بمثل ما تتغنى به النادبات، فيقلن:
قالت أم رضوان: ولم تكد هذه المرأة تتم حديثها حتى رأينا أم عثمان قد ثارت مولولة، فنقضت شعرها، ومزَّقت ثيابها، وجعلت تلطم وجهها، وتضرب صدرها، ونحن نحاول أن نردها إلى الهدوء ونسألها عن أمرها، ولكنها بعد حين تثوب إلى نفسها قليلًا وتقول لنا في صوت يقطعه الشهيق، أنا نشر الزهر وعمر أبو يحيى هو أخي! اقرأن تحيتي على زوجي واستوصين بعثمان خيرًا؛ فلا بُدَّ من أن أرى أخي قبل أن يموت، وما أراني أُدركه، ولعلي أعود إليكن وإلى زوجي وابني إذا انقضت أعوام العزاء؛ فالعزاء عندنا لا يكون في الأيام ولا في الأشهر، وإنما يكون في الأعوام الطوال. قالت أم رضوان: وكدنا نَظُن بصاحبتنا الجنون، ولكن ما راعنا إلا أن رأيناها تقذف نفسها في التنور، فلا نرى لها أثرًا ولا نسمع لَهَا حسًّا، كانت جنية تمثلت لأبي عثمان امرأة فتزوجها وولدت له ابنه عثمان، ثُمَّ جاءها النبأ أنَّ أخاها يحتضر فأسرعت للقائه قبل أن يموت، وسلكت إليه أقرب الطرق وهو التنور حين يكون ملتهبًا، والجنيات يألفن التنور؛ ولذلك لا ينبغي أن يُحمى التنور دُون أن يُذكر اسم الله عند إشعال النار، فإنَّ ذلك يطرد منه الشياطين، ويؤذن المسلمات بأنه سيُحمى فيخرجن منه قبل أن يدركهن شيء من النار.
ولم تكد أم رضوان تبلغ هذا الموضع من حديثها والنساء يسمعن لها مرتاعات ملتاعات، منهن من تمسك الشهيق ومنهن من تدفعه، حتى ثارت نفيسة كأنها الجنية قد نثرت شعرها وقدت ثوبها وأخذت تعول إعوالًا متصلًا، وتلطم وجهها، وتضرب صدرها، وهي تصيح وا أبتاه وا أماه! ثمَّ تدفع نفسها إلى التنور تُريد أن تدخل فيه لتسلك أقرب طريق إلى أبويها، كما دخلت فيه أم عثمان لتسلك أقرب طريق إلى أخيها. هنالك يفيق النساء من خوفهن المتكلف وفزعهن المصطنع ويتكاثرن على نفيسة فيرددنها عن التنور بعد جهد، ثم يحملنها في مشقة شاقة إلى حجرتها، وهي تضطرب بين أيديهن، تلطم هذه وتخمش تلك، وهن على ذلك جاهدات في حملها حتى يبلغن حجرتها، وقد سبقت إحداهن إلى أبيك وهو ذلك الصباح في غرفة أم خالد مُغرق في صلاته ودعائه، فإذا دخلت عليه وأنبأته النبأ، أسرع ساخطًا إلى حجر نفيسة. حتى إذا رآها ثائرة فاترة لا تستقر ولا تدع من حولها يستقر، دنا منها يريد أن يضع يده على رأسها وهو يقرأ في صوت مرتفع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، ولكنه لا يكاد يبلغها حتى تهُبُّ كأنها الشيطان مندفعة إليه في عنف آخذة بلحيته أخذًا شديدًا والشيخ يتراجع فَزِعًا جزعًا، وهو يلعن الجن والإنس جميعًا. حتى إذا بلغ باب الغرفة قرأ آية الكرسي واستغفر الله العظيم، ثم التفت إلى النساء وقال أوثقنها إن استطعتنَ ودعنها حتى تهدأ، فلا بد من أن يُدركها الإعياء بعد حين.
وقد وُفِّقَ النساء لإنفاذ أمر الشيخ، ثم تركن نفيسة موثقة في حجرتها معولة تدعو أباها وأمها، وتلعن الذين منعوها من أن تسلك إليهما طريق التنور، وامرأة قائمة مِنَ الغرفة غير بعيد تلحظها خائفة وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي الأمر إلى زبيدة فتسرع إليها، وما تزال بها حتى تَرُدَّ إليها شيئًا من هدوء بعد أن رَدَّت إليها حريتها داخل الحجرة، وهي منذ ذلك اليوم تلزمها لا تكاد تُفَارقها إلا ريثما تعود إليها بعد أن تُعْنَى بما يُمكن أن تُعنى به من شئون البيت. أفترين أنك قادرة على أن تُسكنيها في دارك وتمنحيها ما تحتاج إليه من الرعاية؟ قالت مُنى: نعم! يجب أن تأتي وأن تقيم معنا، وأنا واثقة بأنها ستترك المرض وراءها في مدينتكم تلك؛ فقد كانت هذه المدينة عليها شُؤمًا.
وحُملت نفيسة بعد أيام إلى دار خالد في مدينته تلك متعبة منهوكة القوى. ولكن «مُنى» عرفت كيف ترعاها، وترفق بها، وتتلطف لابنتيها حتى رُدَّ إليها شيء من عافية، فأقامت في الدار ما شاء الله أن تُقيم حية كالميتة، ميتة كالحية، وشبحًا على كل حال، لا يكاد من يراها يظنُّ أنها كانت امرأة وأنها كانت أمًّا.