الفصل الثاني والعشرون
وستضعف الأسباب بيننا وبين المدينة التي نشأ فيها خالد ونشأت فيها أسرته، والتي نشأ فيها علي وأسرته أيضًا، والتي أقام فيها الشيخ الكبير وخلفه عليها ابنه الشيخ الشاب، ستضعف هذه الأسباب وتَرُثُّ حتى تُوشك أن تنقطع؛ لأنها قويت بين خالد وبين مدينته التي استقبل فيها الحياة؛ فقد استقر خالد في وطنه الجديد حتى أصبح من أهله، واتصلت المودة بينه وبين أهل المدينة وأهل القرى المجاورة، وأخذت زياراته هو لمدينته تقلُّ وتتباعد، وأخذت زيارات أهل المدينة له تقلُّ وتتباعد أيضًا، وجعل الشيخ يمرُّ بالمدينة في طريقه إلى الصعيد فيقيم فيها اليومين أو الثلاثة، ويمرُّ بها في عودته إلى مدينته فيقيم فيها اليوم والليلة، لا يلقى من أهلها كيدًا، بل يلقى منهم تَجِلَّة وتكريمًا؛ لأنه ضيف خالد، ولأن إلمامه بالمدينة عيد للفقراء والأغنياء جميعًا، وجعل أبو خالد يزور ابنه في الشتاء كل عام، فينفق عنده الشهر أو الأشهر كريمًا موفورًا ناعم البال، وجعل الحاج مسعود يزور ابنته مرَّتين في العام لا يقيم في كل مرة إلا الأسبوع يحملونه عليه حملًا، ثم يعود إلى داره وشيخه وماله.
واطردت أمور القوم على هذا النحو، والأيام تمضي والأيام تجيء، والصبية يكبرون، والكهول يشيخون، والشيوخ يسعون إلى الهرم أو يسعى إليهم الهرم، ومن أولئك وهؤلاء من يُدركه الموت في إبانه أو يختطفه قبل أوانه، ليكون البكاء والحزن ثم يكون العزاء والسلوة، فقد ماتت زبيدة ولمَّا تتقدم بها السن، وتركت لزوجها ابنيها سالمًا وعليًّا، فحزن سليم وبكى، ثمَّ تعزى سليم وسلا، واتخذ له زوجًا ثانية وثالثة، وكاد يسلك طريق عمَّه الشيخ لولا أنَّ الحوادث أدَّبته فأحسنت تأديبه، ولولا أنه كان يلقى من زوجيه نكرًا أي نكر، ولو استطاع لطلَّق إحداهما، ولكنه كان يكره الطلاق، ويُشفق على زوجيه أن يصيب إحداهما المكروه إن تحولت عن داره، فكانت عشرته لهما محنة، ويحتسب ما كان يلقى منهما عند الله ويقول لصديقه وأخيه خالد: كل امرئ يُجاهد كما يستطيع: شيخك يجاهد بالحج في كل عام، فيكسب منه مَالًا وثوابًا إن أراد الله أن يُثيبه على مثل هذا الحج، وأنت تجاهد في تربية أبنائك وتعليمهم، تتكلف في ذلك ما لا تطيق، وتسلك بهم طريقًا لم تسلكها أنت؛ لأنَّ أباك لم يدفعك إليها، ولأنه لم يفكر في أن يجعلك خيرًا منه كما تُفكر أنت في أن يكون بنوك أحسن منك حالًا، وأنا أجاهد في احتمال الشر ولقاء الضر من امرأتَيَّ، تسوءانني في كل يوم وأسوءهما من حين إلى حين، وتلقيانني بالنُكر من القول والشر من العمل، فأصبر على ذلك ما وسعني الصبر، حتى إذا لم أطق عليه صبرًا عمدت إلى العصا، فشفيت بها نفسي من جسم هذه أو جسم تلك، وقد يبلغ الغضب بي أقصاه، فأُقرنهما في حبل واحد، وما أزال أُعمل فيهما السوط أريحه من هذه لأتعبه مع تلك حتى تتوبا وتثوبا وتعتنقا والعذاب ينصب عليهما انصبابًا، فإذا رفعت عنهما السوط وأطلقتهما من الحبل لم تهدآ، إلا ريثما تستأنفان ما كان بينهما من الشر، فتعود الدار جحيمًا، وأذوق أنا فيها العذاب الأليم.
قلت لك: كل امرئ يُجاهد كما يستطيع، ولست أشك في أن حظِّي من رضوان الله لن يكون أقل من حظك؛ لأني أحتمل مثل ما تحتمل من الألم، بل أكثر مما تحتمل من الألم، وأحمل نفسي على مثل ما تحمل نفسك عليه من الجهاد، بل على أكثر مما تحمل نفسك عليه من الجهاد. وكان خالد يسمع هذا الحديث فيبسم له، ويظهر إقراره، ثم يعود به على امرأته فيضحكان من بعضه ضحكًا كثيرًا، ويُنكران بعضه الآخر إنكارًا شديدًا، والشباب والصبية من أبنائهما يسمعون من ذلك ما يسمعون فيضحكون ويقلدون، ويعبثون إذا خَلَوا إلى أنفسهم أو إلى أمهم، بأبيهم حينًا، وبعمهم حينًا، وبجدهم الشيخ حينًا، وأمهم تسمع فتظهر الغضب وتكتم الرضا، وربما قصَّت من ذلك على زوجها أطرافًا فضحك له وارتاح إليه، وربما استخفى زوجها في بعض الحجرات ليتسمع على بنيه وهم يعبثون بالأسرة ويقلدون شيوخها وكهولها، يقلدونهم في اللهجة، ويقلدونهم في الصوت، ويقلدونهم في حركات الوجه واليدين، وقد يقلدون في التفكير أيضًا. وكان الاختلاف بين خالد وسليم قد اشتد وظهرت آثاره واضحة كل الوضوح على مر الأيام وتتابع السنين: فأما خالد فقد أقام في مدينته تلك بين جماعة من الموظفين يختلفون في الطبقة والثروة والثقافة والذوق، وكان خالد طموحًا، ولم تكن امرأته أقل منه طموحًا إلى الرُّقي؛ فكان خالد يحرص على أن تكون داره كدار كبار الموظفين، حسنة النظام، جميلة التنسيق؛ نفيسة الآنية والأداة، وكانت امرأته تعينه على ذلك أحسن معونة، وتدبر له ذلك أحسن تدبير، ولم يكن خالد يطمئن حتى يدعو إلى داره كبار الموظفين وأهل الثراء، فإذا رآهم يطعمون وينعمون، ولا يُنكرون من أمر الدَّار شيئًا امتلأت نفسه غرورًا وفخرًا، وعاد على امرأته بذلك يمنحها أخلص الحب، ويُثني عليها أجمل الثناء.
وأما سليم فأقام في مدينته الأولى لم يبرحها، وعلى عمله الأول لم يغيره، وعلى عادته القديمة لم يبدِّل منها شيئًا؛ فكان كل شيء يتجدد من حوله وهو مُقيم على قِدمه، يكره التطور وينفر من التجديد، ولم يكن له حظ من طموح ولا أمل في رقي، رضي بما قسم الله له، ورأى أنه أبعد آماده وآخر غاياته، فاطمأنَّ إلى نهاره وليله، وإلى ما يلقى في نهاره وليله من حوادث الحياة، وشُغل بما كان يلقى من زوجتيه من شرٍّ وضر.
وكان إذا ضاق بالحياة أو ضاقت الحياة به في مدينته عمد إلى صديقه وأخيه يزوره، يقضي عنده الأيام، وقد يقضي عنده الأسابيع، يجد في ذلك السعادة والراحة والرضا، وتجد الأسرة في مُقامه عندها سعادة وراحة ورضًا أيضًا، فقد كان كثير العبث بأخيه وأبناء أخيه، يتندر على هذا الترف الذي يتكلفونه؛ فقد كان يرى كل شيء عندهم تَكَلُّفًا، ويسخر من هذه المكانة التي يرفعون إليها أنفسهم وهم أبناء ذلك الشيخ الذي أنفق حياته في تجارة انتهت إلى كساد، وفي صلاح كاد ينتهي إلى فساد؛ يجلس إلى مائدتهم تلك المرتفعة قد صُفَّت حولها الكراسي، فلا يملك نفسه إلا أن يغرق في الضحك، وأن يُذَكِّر خالدًا بأيامه تلك القريبة وأيام أبيه حين كانوا يجلسون إلى طعامهم متربعين على الأرض، يغمسون أيديهم في صحافهم إلى الأرساغ، وقد يغمسونها إلى المرافق حين تُقَدَّم لهم صحاف الفتِّ والكشك في بيوتهم أو في أعقاب الذكر، وكانت الأسرة تسمع هذا منه فتضحك له ضحكًا كثيرًا، رُبَّما صرف الصبية والشباب عن طعامهم، وربما أشرق بعضهم بشرابه.
وكانت «مُنى» تسمع له فتضحك أول الأمر، فإذا أكثر سليم همَّت أن تُظهر غيظها، ولكن سليمًا يضطرها إلى الضحك حين ينتقل من عمه علي إلى أبيها الحاج مسعود، ذلك الذي أتاح الله له تجارة رابحة وصلاحًا مُتَّصلًا، ولكنه ما زال يجلس على الأرض إذا أراد أن يطعم، وما زال أحب الطعام إليه الثريد والكشك يغمس فيه يده إلى مرفقه: فلا تفخري يا سيدتي، فلم يلدك الترك ولا أنت بنت المدير. هنالك لا تملك الأسرة نفسها من الضحك والإغراق فيه، وكان سليم أسرعهم إلى الضحك وأبطأهم في الرجوع إلى الجد، لا يسخر من الأسرة وحدها، وإنما يسخر من نفسه قبل أن يسخر من أي إنسان آخر، وكان أشد الأشياء إثارة للغيظ في نفسه أن يرى الأسرة تعاف الماء الكدر وتحرص على أن تروقه في الزير وتقطره في هذه الآنية تضعها تحت الأزيار وتضع فوقها المصفاة؛ كان يرى ذلك فيغتاظ ويهتاج، ويلتفت إلى أخيه وإلى أبناء أخيه وهو يصيح في صوته المرتفع المضحك: آه يا أولاد الكلب، من أين جاءكم هذا العز؟ إنكم لتحرمون أنفسكم خيرًا كثيرًا، إنكم حين تشربون هذا الماء المُصَفَّى أشبه الناس بالذين يشربون اللبن بعد أن اُستخرج منه الزبد، ثم أسرع إلى الكوز فيغمسه في الزير ويعب فيه عبًّا شديدًا، ويقول: هكذا رأينا آباءنا يشربون؛ لأنهم لم يكونوا من التُّرك ولا من الأرنئوط.
ولم يكن هذا كل الاختلاف بين الأخوين الصديقين، وإنما كان بينهما اختلاف آخر أبعد من هذا في حياتهما وصلاتهما أثرًا، فقد كان خالد يحرص على أن يُعَلِّم بنيه كما يُعَلِّم كبار الموظفين أبناءهم، لا يكتفي بأن يحفظوا القرآن ويحسنوا شيئًا من الكتابة والحساب، وإنما يحرص على أن يرسلهم إلى المدارس ليلووا ألسنتهم بهذه الرطانة الأجنبية، وليلبسوا هذه الأزياء الأجنبية، ولتطلق المدارس عليهم هذه الأسماء التركية: فهمي، وشوقي، وصبحي، وليصبحوا إذا شبُّوا موظفين كبارًا، وأما سليم فكان يضيق بذلك أشد الضيق، ويرى أن أباه لم يُرسله إلى المدرسة، وأن جده لم يُرسل أباه إلى المدرسة، وأنَّه قد فَرَّ ببنيه من المدرسة فرارًا، ويرى أن هذه المدارس لم تُنشأ للفلاحين، وإنما أُنشئت لأبناء الذوات، وأن أبناء الفلاحين إذا ذهبوا إليها فسدت أخلاقهم وتقطعت الصلات بينهم وبين آبائهم وأمهاتهم، وطمعوا فيما لا يقدرون عليه، وانتهوا إلى فساد لا فساد بعده، وكان يقول لخالد: ألا تنظر لبنيك في هذه الأزياء الضيقة التي لم تُخلق لهم، فهم إذا اتخذوها أشبه شيء بالعفاريت! ألا تسمع لهم حين يتراطنون فيما بينهم بما لا تفهم! ما يُدريك! يشتمونك وأنت لا تعي. وكان هو قد أرسل ابنه سَالمًا إلى حذَّاء يتعلم عنده صناعة الأحذية، وأرسل ابنه عليًّا إلى خيَّاط يتعلم عنده صناعة الأزياء الأوربية، وكان يقول متضاحكًا: قد كبرت يا خالد وكبر أبناؤك، وأصبحتم لنا سادة وأصبحنا لكم خَدَمًا، سيصنع أبنائي لأبنائك ما يحتاجون إليه من الأحذية والثياب، ولكن احذر أن يدفعك ذلك إلى البطر، وأن تبخل بجلنار على سالم؛ لأنه حذاء، وأن تبخل بأولى بناتك من «مُنى» على عليٍّ؛ لأنه خياط، ثم يغرق في الضحك وتغرق الأسرة في الضحك معه أيضًا.
وكذلك رثَّت الأسباب قليلًا قليلًا بين الأسرة وبين المدينة الأولى، حتَّى أصبح التزاور بين أفراد الأسرة في المدينتين طُرفةً من الطرف، تشتد فيها الرغبة أحيانًا، وتقصر الآمال عن تحقيقها، وكذلك استقلت أسرة خالد قليلًا قليلًا، حتى أصبحت وكأن لم يكن بينها وبين أصولها في المدينة الأولى عهد، وحتى شُغلت بأمورها وخطوبها عن أمور الآخرين وما يعرض لهم من خطوب.
فلندع هؤلاء الآخرين لحوادث الأيام ونوب الدَّهر تصنع بهم ما تصنع بالناس جميعًا، ولنقم مع هذه الأسرة الناشئة التي أخذت تنمو في سُرعة؛ فقد نجد في الإقامة معها ما يكفي لإتمام هذا الحديث.