الفصل الرابع والعشرون
على أنَّ الأمور قد أخذت تتغير قليلًا قليلًا في الأسرة، وبدأ التغير في قلب «مُنى» ذات يوم أو ذات عام؛ فهذه أشياء لا يمكن أن تُؤرخ باليوم ولا بالشهر، فقد كانت «مُنى» تنتظر المولود السابع، وتتَّمنى أن يكون هذا المولود طفلة، تتحدث بذلك إلى زوجها، فيرفع كتفيه ويهز رأسه؛ لأنه لم يكن يحفل بأن تُولد لها صبية أو يولد لها صبي، ولعله كان يُؤثر في أعماق نفسه أن يكون ولده جميعًا ذكورًا، وكانت «منى» تضيق بذلك، وربما اشتدت على زوجها في اللوم حين ترى منه هذا الإعراض عن البنات أو قلة الاكتراث للبنات، وربما قالت له: وما يعنيك من ذلك ولك ابنتان سميحة وجلنار؛ فأنت رجل مجدود وقد رُزقت البنات والبنين جميعًا، فما عليك أن أُحرم أنا هذه النعمة؛ وكان خالد يضحك لهذا الحديث، ولكن «مُنى» كانت تغتاظ لهذا الضحك، وكانت تقول: إن الصبي لا يكاد يدرج حتى يرسل إلى الكتَّاب ثم إلى المدرسة ثم يسعى في حياته؛ فأمه تُحرم لذة الاتصال الدائم به؛ قبل أن يتجاوز السادسة من عمره، ينصرف عنها إلى درسه ولعبه، ثم إلى عمله وامرأته وبنيه إذا تزوج، فأما الصبية فإنها لا تبرح البيت إلى كتَّاب أو مدرسة أو عمل، فهي مُعاشرة لأمها دائمًا، هي متعتها صبيةً، وصديقتها شابة، وأختها إذا تقدمت بها السن حتى لو تزوجت، وكان خالد يسخر منها فيقول: نعم! أخت لأمها حتى لو تزوجت، كما أنك الآن أخت لأمك بعد أن تزوجتِ ورُزقتِ البنين! فتجيبه «منى» ثائرة: وهل شغلني عن أمي إلا أنت وبنوك. فيقول خالد وهو يضحك: فستشغل ابنتك عنك بزوجها وبنيها كما تشغلين أنت الآن عن أمك.
ولكن الله حقق لمنى رجاءها واستجاب دعاءها فرزقها صبية، ثم تتابع البنات في الدار حتى بلغن أربعًا، نشأتهن جميعًا جلنار، ومنذ أصبح لمنى بنات ومنذ أخذ بناتها يسرعن إلى النمو أخذت نظرتها إلى جلنار تتحول قليلًا قليلًا، وكأن ما أودع الله قلبها من الحنان للبنات لم يكن يسع إلا بناتها هي، فجعلت نظرتها إلى الفتاة تقسو، وجعل صوتها إذا تحدثت إلى الفتاة يجفو، وجعلت معاملتها للفتاة تغلظ من يوم إلى يوم، والفتاة غافلة عن ذلك أول الأمر، ثم مُحتملة له بعد ذلك، ثم ضيقة به وصابرة عليه آخر الأمر، وسالم يزور المدينة ويعود منها لا يتحدث في الزواج ولا يشير إليه، وسليم يزور المدينة ويعود منها لا يتحدث في الزواج ولا يشير إليه، وقد كانت «مُنى» نفسها تتحدث في أمر هذا الزواج قديمًا فقد أصبحت الآن لا تتحدث فيه ولا تشير إليه، إنما يلمح به الفتيان من شباب الأسرة تلميحًا قليلًا ضئيلًا لا يلبثون أن يكفوا عنه ويخوضوا في غيره من الجد والمزاح، ثم تنسى الخطبة نسيانًا تامًّا، ولا يعرِّض أحد لهذا الزواج بلفظ أو إشارة، والفتاة ترى وتفكر، وتألم، وتصبر، وتنظر إلى وجهها في المرآة ثم تعكف على نفسها في صمت حزين، ولعلها أن تخلو إلى نفسها إن وجدت للخلوة وقتًا، فتعدد وتبكي كما تعدد النساء ويبكين، حتى إذا أحست نبأة أسرعت إلى بكائها فالتهمته التهامًا، وإلى دموعها فشربتها حتى تشرق بها، ووثبت مقبلة على بعض العمل كأنها لم تكن في بكاء ولا تعديد، وبمقدار ما كانت سيرة «مُنى» تتغير مع جلنار كان عطف جلنار على أمها يشتد ويزداد؛ فقد أخذت تُعنى بها عناية خاصة في اللفظ واللحظ والإشارة والمعاملة، وكانت في الفتاة جفوة هي خير مظهر من مظاهر الحب والحنان؛ فكانت إذا جفت على إنسان في قول أو عمل دلَّ ذلك على أنها تؤثره بالود الخالص والحب العميق، وقد أخذ حظ أمها يزداد من صوتها الغليظ وألفاظها الجافية ونظراتها الحادة وحركاتها العنيفة؛ فكانت تقدم إليها القهوة إذا أصبحت وكأنما تنهرها نهرًا شديدًا، وكانت تتحدث إلى أمها في صوتها المرتفع الحاد، فإذا ظلت أمها ذاهلة كعهدها اندفعت إليها عنيفة بها فهزتها هزًّا شديدًا، وهي تقول: إني أكلمك ألا تسمعين! وإذا سمعت فهلا تجيبين! ربما اختطفت من أمها أثناء هذا العنف قبلة سريعة خفيفة لا تكاد تلحظ، وقد صبرت نفيسة على هذا العنف، لم تحسه أول الأمر ولم تلتفت إليه، ولكنه اتصل واتصل، وتكرر أثناء النهار، وتكرر في أول الليل، وأخذت الأسرة تُلاحظ أن في نفس الفتاة شيئًا أو أنها تريد من أمها شيئًا، ولكن قلوب الشباب قاسيات وقلوب الأمهات أشد قسوة إذا شُغلن بولدهن، فلم يحفل أحد من الأسرة بهذا العنف الذي كانت تهديه الفتاة إلى أمها، وما يعنيهم من ذلك! فتاةٌ حمقاء، وأم مجنونة، فليفرغ الشباب لأمرهم، ولتفرغ الأم لبنيها ولبناتها خاصة.
وفي ذات يوم أقبلت الفتاة ضجرة إلى أمها تتحدث إليها عنيفة بها في الحديث، فلما أبطأت الأم في الجواب هجمت الفتاة عليها كأنها الغول تريد أن تلتهم فريستها، فارتاعت الأم شيئًا، وهبت من مجلسها مذعورة وأسرعت إليها الفتاة وأخذتها بين ذراعيها دون أن تجد منها امتناعًا أو إباء، وتنظر «مُنى» ومن حولها من بنيها ومن نساء الدار فإذا المرأتان قد اعتنقتا، وإذا دموع غزار تمتزج وتجري على وجهين قبيحين ملتصقين، فأما الشباب فيوشكون أن يضحكوا لولا بقية من حياء وخوف من أمهم، وأما «مُنى» فلا تملك دموعها أن تنهل، وإذا هي تبكي صامتة، ثم تنهض متثاقلة وتسعى بطيئة حتى تبلغ هاتين المرأتين، فتضع على رأس كل واحدة منهما قبلة مبللة بالدموع، ومنذ ذلك اليوم عاد إلى نفيسة شيء من رُشدها، فعرفت أنها أم، وأن لها ابنة بجوارها تدعى جلنار، وابنة أخرى بعيدة عنها تدعى سميحة، عاد إليها شيء من رشدها، ففارقها الذهول، ولكن لم يُفارقها بؤس النفس هذا الذي يضطر صاحبه إلى الإذعان، ويُلجئه إلى زاوية ضئيلة من زوايا الحياة يلزمها ولا يبرحها، يرى أنها خُلقت له وأنه خلق لها، وأن القضاء قد جعلها له قبرًا حيًّا حتى يأتي اليوم الذي ينقل فيه من هذا القبر الذي يُدفن فيه الأحياء إلى ذلك القبر الذي يُدفن فيه الموتى.
أفاقت نفيسة من ذهولها وعرفت بعض أمرها، ولكنها ظلت ضئيلة ذليلة، تتحرك فكأنها الشبح، وتتكلم فكأنها الصدى، ولكن أي شبح وأي صدى؛ شبح هو الحزن بعينه، وصدى هو إلى الغناء النادب أقرب منه إلى الصوت المألوف، ولكن منذ ذلك الوقت عاد إلى جلنار شيء من ثقة وحظ من أمل، لا لأنها انتظرت أن تُزَفَّ إلى سالم، فقد جعلت تيأس من هذا الزواج يأسًا يزداد من يوم إلى يوم، ولا لأنها كانت تستطيع أن تلجأ إلى أمها فتبثها ما تجد من حزن، ولكن لأنها كانت تنظر إلى أمها فلا تقابل نظرتها تلك النظرات الغافلة الذاهلة الشاردة، وإنما كانت تُقابل نظرات تفهم عنها، وتتحدث إلى قلبها حديثًا تفهمه دُون أن يدور لسانها في فمها بالكلام القليل أو الكثير، وكان هذا الحظ الضئيل من الحب الصامت يُغني هذه الفتاة وينقع ظمأها إلى الحنان، بعد أن فقدت حنان خالتها، وكادت تفقد حنان إخوتها الذين جعلت قلوبهم تقسو، وأكبادهم تغلظ، ونفوسهم تجفو، وذاكرتهم تنسى ما قدمت إليهم أختهم من معروف.
ولم تكن «جلنار» في حاجة إلى أن تبحث عن العلة التي أجَّلت زفافها إلى سالم ثم ألغت أمر الزواج إلغاء؛ فقد كان يكفي أن ترى وجه أمها وأن تنظر إلى وجهها في المرآة، فيغنيها ذلك عن كل سؤال.
والواقع أن أمر سالم لم يكن يسيرًا ولا سمحًا، وإنما كان عسيرًا لا يخلو من تعقيد، لقد نشأ هذا الفتى ساخطًا أشد السخط، يرى أنه تَعِس سيئ الحظ، لم يكد يخرج من صباه حتى فقد أمه وحتى ذاق مرارة اليُتم وعرف قسوة العَلَّات، ثم لم يكد يعقل حتى رأى نفسه يختلف إلى حذاء يعمل عنده في صناعة الأحذية، وكان يرى أبناء عمه يختلفون إلى الكُتَّاب ثم إلى المدارس يتخذون هذه الأزياء التي لا تخلو من ظُرف، وعليهم هذه الشارة التي لا تخلو من جمال، وفيهم شيء من أنفة وكبرياء يغريهم بهما ما كانوا يحسون في أنفسهم من امتياز، فأنكر الفتى نفسه في منزله بين هاتين العلتين، وأنكر نفسه عند معلمه ذلك الحذاء، صانعًا للأحذية مُمارسًا أقدام الرجال، وأقسم فيما بينه وبين نفسه ليهجرنَّ دار أبيه متى استطاع، وليهجرن عمل الحذاء متى وجد إلى ذلك سبيلًا. وكان أخوه علي يشاركه في هذا كله: يشاركه في الضيق بحياة البيت، وفي الضيق بهذه الصناعة التي يكرهه عليها أبوه إكراهًا، وكان الفتيان بعد ذلك يختلفان اختلافًا شديدًا: فلسالم حظ حسن من ذكاء، ولعليٍّ حظ عظيم من الغباء والغفلة، ومهما يكن من شيء فقد اتفق الشابان على هذا السخط، واشتركا في هذا الضيق، ورأى كل واحد منهما نفسه بائسًا مضطهدًا، واجتهد كل واحد منهما في أن يلتمس لنفسه مخرجًا من هذا البؤس وهذا الاضطهاد.
فأما سالم فقد أحسن صناعته، ثم انصرف عنها، ولمَّا همَّ أبوه أن يلومه في ذلك أجابه الفتى في حزم قائلًا: إنَّكَ إنما علمتني هذه الصناعة لأعيش وأكفيك مئونتي، فسأعيش وسأكفيك مئونتي. ثم أخذ يضطرب في حياته كما يضطرب الشاب الذكي الذي يحسن القراءة والكتابة، ولم يُحرم يدًا صناعًا وعقلًا يحسن التصرف في الأمور، فجعل يتنقل من عمل إلى عمل يكسب القليل مرة والكثير مرة أخرى، ويدفع إلى أبيه الجنيه أو الجنيهات من حين إلى حين، وقد اطَّرح زِي أترابه، واتخذ زي بني عمه، فأصبح أفنديًّا مطربشًا، ولكنه كان يشعر دائمًا بالنقص إذا لقي بني عمه؛ لأنه لا يرطن كما يرطنون، ولا يسعى إلى الشهادات كما يسعون إليها، وكان يشعر في الوقت نفسه بالتفوق على بني عمه؛ لأن يده لم تصفر من المال قط، فكان في جيبه من الذهب والفضة ما لم يكن في جيوبهم، وكان على ذلك خرَّاجًا ولَّاجًا لا يضيق بشيء ولا يُعييه شيء، ولا يعرض له حرج إلا خرج منه، ولا تلم به مشكلة إلا انسلَّ منها كما تنسل الشعرة من العجين، وكان بعد هذا كله طلق الوجه، باسم الثغر، فصيح اللسان، عذب الدعابة، منشرح الصدر، لا يعرف الهم إلى قلبه سبيلًا، وما دام قد اجترأ على أبيه مرة فترك صناعة الأحذية واستقلَّ بأمره، فما يمنعه أن يخرج على أبيه مرة أخرى؟! وقد فعل؛ فقال لأبيه ذات يوم: لا أسمعك تحدثني عن جلنار، فإني لم أخطبها ولم يخطر لي قط أن أتخذها لي زوجًا. قال سليم: ولكني قد خطبتها لك. قال الفتى: فإنِّي لم أفوضك في ذلك. قال سليم: وقد خطبتها أمك لك. قال الفتى: ولم أفوضها كما أني لم أفوضك. قال سليم: ولكن أمَّك قد ألحت عَلَيَّ في هذا الزواج قبل أن تموت. قال الفتى: ألحَّت عليك أنت ولم تلح علي أنا. قال سليم وقد استيأس من ابنه: أنت وما تشاء! ولكن لا تجهر بذلك حتى أُفضي به إلى عمك، وسأجد في ذلك جهدًا وألمًا. قال الفتى: لن أجهر بذلك ولن أسره؛ لأني لا أحفل به، ولا حاجة إلى أن تُفضي به إلى عمي، فإني لن أتزوج من جلنار ولا من غيرها. ثم انطلق الفتى وترك أباه مترددًا بين السخط والرضا، وأكبر الظن أنه ارتاح إلى خطة ابنه، فلم يكن يحفل بأن يقضي على ابنه بهذه الفتاة الدميمة، فيكون حظه كحظ عمه خالد حين تزوج أمها نفيسة.
وأمَّا عَلِيٌّ فلم يقل لأبيه شيئًا، ولم يترك صناعة الخيَّاط التي اضطر إليها، ولم يتصرف في أمره كما تصرف أخوه، وإنما كان يذهب إلى مُعلمه وجه النهار فلا يصنع عنده شيئًا، فلما آنس المعلم منه غفلة وكسلًا سخَّره في قضاء الحاجات البعيدة ولم يعلمه شيئًا، وكان الفتى إذا أقبل المساء تنقل بين المساجد وحلقات الذكر، يُصلي هنا ويذكر هناك، وهو لا يذوق من الذكر ولا من الصلاة شيئًا، وكان يلم بدار أبيه فيصيب فيها شيئًا من طعام ثم ينصرف إلى حياته الفارغة خارج الدار، فإذا تقدم الليل أقبل فاستلقى على فراشه حتى يصبح فيستأنف حياة البطالة والفراغ، كان كَلًّا على أبيه، كَلًّا على أخيه، ضحكةً لبني عمه إذا زارهم، ولم يكن يزورهم إلا قليلًا، وكان فرحًا دائمًا لا يأسى على شيء، ولا يُفكر في شيء، ولا يستطيع أحد أن يُؤذيه بقول أو فعل؛ لأن الأشياء كانت تنزلق على نفسه الملساء دون أن تترك فيها أثرًا حسنًا أو سيئًا. وكان سليم محبًّا لابنيه ضيقًا بهما في وقت واحد؛ ولكنه كان يؤثر سالمًا؛ لأنه أكبر أبنائه، ولأنه كان كثير النشاط حسن الشارة، يعود عليه بالدينار أو الدينارين من حين إلى حين، فيفرج أزمة أو يعين على حق، ومع ذلك فقد كان يحنو على علي حنوًّا شديدًا، يرى فيه فتى ضعيفًا ضيق الحيلة، ويرى في الرفق به والعطف عليه والشقاء ببطالته هذه لونًا من الجهاد كهذا الجهاد الذي كان يحتمل مشقته بين امرأتيه، وكان مع ذلك مشغولًا عن هذين الشابين بعمله وأهله وببنين وبنات وُلدوا له، فمضى في تربيتهم كما مضى في تربية سالم وعليٍّ، أسلمهم إلى الصُّنَّاع، وكان يقول لصديقه وأخيه خالد: ماذا تريد؟ لا ينبغي أن نغالب القدر ولا أن نُعاند القضاء، ولا أن نكون جميعًا سادة ممتازين، يجب أن يكون أبنائي هملًا كأبناء أبيك، وأن تمتاز أنت ويمتاز أبناؤك؛ فحسب الأسرة أن يمتاز فرع من فروعها، ولكن صدقني، إني أراك أحمق مغفلًا، تنفق مالك الكثير دون أن تدخر منه شيئًا، أليس غريبًا أنك لا تملك دارًا تُقيم فيها! فدارك هذه ملك للحكومة، وستخرج منها يومًا من الأيام، وما أظن أنك ستأوي بأهلك وبنيك وبناتك إلى دار أبيك الخربة المهدمة، فأطعني وأرسل إلي جنيهًا في كل شهر أدخره لك، حتى إذا اجتمعت لي عشرون أو ثلاثون جنيهًا اشتريت لك قطعة من الأرض، واتخذت لك فيها دارًا، أطعني وأرسل إلي جنيهًا في كل شهر، وأحتجز أنا جنيهًا في كل شهر أيضًا، ونشتري قطعة واسعة من الأرض نُقيم عليها دارين متجاورين، إحداهما لك والأخرى لي، فسيتفرق أبناؤك فيما يُنتظر لهم من عمل، وسيتفرق أبنائي أيضًا، وسيعود كل منَّا إلى صاحبه في الشيخوخة كما كان كل واحد منا لصاحبه في الشباب. كان يتحدث إليه في ذلك ملحّا دائمًا، يجد حينًا ويمزح حينًا، وكان يتحدث إليه في أمور كثيرة إلا شيئًا واحدًا لم يستطع أن يتحدث فيه لا مُصرحًا ولا ملمحًا، وهو هذه الخطبة التي بعد بها العهد، وهذا الزواج الذي كثر تأجيله، وهذه الفتاة التي طال انتظارها ولم يخطبها أحد؛ لأن الناس قد تسامعوا بأنها خطبٌ لابن عمها منذ الصبا؛ لم يكن يجرؤ على أن يعرض لهذا الحديث، فقد كان يعلم علم ابنه، ولم يكن خالد يجرؤ على أن يعرض لهذا الحديث، فقد كان الحياء يمنعه من ذلك، وكان سالم يمرح بين المدينتين، وربما أتيح له السفر إلى القاهرة، فكان مرحه فيها أكثر تنوعًا وأبعد مدى، وكانت الفتاة تعمل وتعمل وتشقى بالعمل، لا يدري أحد أتفكر في خطبها أم لا تفكر، أتشقى بهذا التفكير أم لا تشقى، ولكن المحقق أنها كانت شقية بقسوة خالتها التي كانت تزداد كلما تقدم بناتها نحو الشباب.