الفصل الخامس والعشرون
ومن الحماقة الحمقاء والجهالة الجهلاء أن يحاول مُحاول إحصاء الأيام والليالي وهي تتابع ويقفو بعضها إثر بعض، لا يدري أحد متى ابتدأت، ولا يعلم أحد متى تنتهي، وأشد من ذلك حمقًا وأعظم من ذلك جهلًا أن يُحاول مُحاول إحصاء الحوادث التي تقع في هذه الأيام المتتابعة والليالي المتناصية؛ فليس إلى إحصاء هذه الحوادث من سبيل حين تحدث لفرد واحد، فكيف بها حين تحدث لأسرة كبيرة أو صغيرة؛ وكيف بها حين تحدث لمدينة من المدن أو إقليم من الأقاليم أو جيل من أجيال الناس! فهي متنوعة كثيرة التنوع، مختلفة عظيمة الاختلاف، يعظم بعضها ويجل خطره حتى يصبح له في حياة الفرد والجماعة أبعد الأثر، ويهون بعضها ويدِقُّ شأنه حتى لا يحفل به حافل ولا يلتفت إليه ملتفت، وهو مع ذلك خيط مهما يكن دقيقًا هيِّن الشأن فله مكانه ذو الخطر في هذا النسيج الذي ينسجه مر الأيام وكر الليالي والذي نسميه الحياة، وقد فطن لذلك الذين يكتبون التاريخ ويسجلون الأخبار، والذين يقصُّون القصص ويتحدثون بأنباء الماضي، فقال قائلوهم: عاش ما شاء الله أن يعيش، وأقام ما أتاح الله له أن يقيم. وقال قائلوهم: مرِّي يا أيام وكري يا ليالي، فما أسرع ما يكبر أبناء الأحاديث! وليس لهذا كله إلا معنى واحد، وهو أن محاولة إحصاء الأيام والليالي عبث، ومحاولة إحصاء ما يقع فيها من الحوادث والخطوب سخف، فالخير أن نطوي من ذلك كله ما يجب أن يُطوى، وألا نقف من ذلك كله إلا عند ما يستحق أن نقف عنده ونفكر فيه.
ونحن مع ذلك لا نحسن تمييز اليوم ذي الخطر من اليوم الذي لا خطر فيه، ولا التفريق بين الحادثة ذات الأثر البعيد، والحادثة التي ليس لها أثر قريب أو بعيد، وإنَّما نحن نقدر الأيام والحوادث كما نستطيع وكما يصور لنا العقل والخيال، فأما تقديرها كما ينبغي أن تُقدر، وتصويرها كما يجب أن تُصور، فذلك شيء أكاد أعتقد أنه أبعد منالًا من أن يبلغه طمع الطامعين وطموح الطامحين، والشيء الذي أستطيع أن أقرره وأنا صادق عند نفسي سواء أصدَّقني القارئ أم لم يصدقني، هو أنِّي تتبعت حياة هذه الأسرة من قُرب وفي كثير من العناية والدقة، فرأيت كثيرًا من الأحداث التي عرضت لها والخطوب التي ألمت بها خليقًا أن تكتب فيه القصص وتُنشأ فيه الكتب وتُؤلف فيه الأسفار الطوال، وأكبر الظن أنَّ هذا ليس مقصورًا على هذه الأسرة، وإنَّما هو شأن كثير من الأسر المصرية في هذا العصر الخطير من حياة مصر، حين أخذ القرن الماضي ينتهي وأخذ القرن الحاضر يبتدئ، وأخذت الحياة المصرية تنتقل من طورها القديم إلى طورها الجديد في عُنف هُنا وفي رفق هُناك.
في هذا الطور من أطوار الحياة المصرية اختلفت على أسر المدن والأقاليم خطوب، لم يكن يحفل بها أحد، ولا يلتفت إليها إنسان، وهي مع ذلك قد خلقت مصر خلقًا جديدًا وبدَّلتها من خمولها القديم نباهة، ومن جمودها القديم نشاطًا، وما من شك في أنَّ الذي أقصُّه من أنباء هذه الأسرة — أسرة خالد — يمكن أن يقص مثله من أنباء أسر أخرى كانت تتصل بها صلة الجوار أو صلة المشاركة في العمل وفيما كان العمل يترك في حياتها من آثار، وأنا مع ذلك لا أقص من أنباء هذه الأسرة إلا أقلها وأيسرها؛ فقد كثر أبناؤها وبناتها، واختلفت بهم وبهن نوب الأيام، وذهب كل واحد منهم مذهبه في الحياة، كما دفعت كل واحدة منهن إلى طريقها التي رسمت لها من قبل؛ لم ترسمها لنفسها ولم يرسمها لها أبوها، وإنما رسمها لها القضاء الذي ليس للإنسان عليه سلطان.
وحسبي أن أُسجِّل أنَّ الأعوام لم تكد تتقدم بهذه الأسرة في موطنها الجديد حتى كان أبناؤها قد شبوا واستنفدوا ما كان يُمكن أن تمنحه الأقاليم لشبابها من العلم والمعرفة في ذلك الوقت، فلم يكن بد من أن يرحلوا إلى القاهرة حيث يُطلب العلم ويُلتمس الرقي، وقد فعلوا. وهذه كلمة يسيرة تُقال في لحظة قصيرة، وتُكتب في حيِّز ضيق جدًّا من الورق، ولكن التفكير فيها ينحل إلى آلام لا تُحصى، ومتاعب لا تُعد، وجهود لا يكاد يتصورها العقل، وعواطف منها ما يسر ويُرضي، ومنها ما يسوء ويُؤذي، فلم يكن انتقال الأبناء من الأقاليم البعيدة إلى القاهرة في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن من السهولة واليسر كما هو في هذه الأيام، وإنما كان شيئًا عسيرًا كل العسر، معقدًا أعظم التعقيد، كان يحتاج إلى كثير من النفقات لم يكن راتب خالد يستطيع أن ينهض به، وكان يحتاج إلى كثير من الجهد في إسكان هؤلاء الشباب في المنازل التي تُلائمهم، وتمكنهم من العيش الذي يستطيعون أن يطمئنوا إليه، وحمايتهم من الخطر الذي يمكن أن يتعرضوا له في هذه الدنيا التي كان أهل الأقاليم يرونها عالمًا غريبًا مملوءًا بما يُعَرِّضُ الشباب لأعظم الأخطار وأشدها نكرًا، وكان هذا كله يشغل نهار خالد وامرأته، ويُؤرق ليل خالد وامرأته، ويصرفهما عن كل شيء، ويملأ رءوسهما بالخواطر المقلقة، وقلوبهما بالعواطف المزعجة، وكان سليم يرثى لهما ويشمت بهما، لا يُخفي شماتته ولا يبخل برثائه، كان يحبهما ويعطف عليهما، فكان يُؤذيه ما يجدان من مشقة وجهد، وقد نهاهما منذ الزمان الأول عن هذا الطموح الذي لا يلائم بيئتهما، وعن هذه الآمال التي لا يَقدران على تحقيقها، كم نصح لهما بأن يدفعا أبناءهما إلى المصانع ليتعلموا فيها ما يكسبون به القوت وما يعينون به أبويهم إذا تقدمت بهما السن. وكم قال لهما: إن المدارس لم تُنشأ لأبناء الفلاحين وأوساط الناس، وإنما أُنشئت لأبناء الذوات من الترك والأغنياء من المصريين. فلم يسمعا ولم ينتصحا، فهما الآن يذوقان مرارة الغرور، ويبلوان ثمر العناد.
وأغرب من هذا أنَّ شيطانًا مريدًا قد استقرَّ في بيت خالد ولزم أذنيه وأذني امرأته وجعل يوسوس لهما في النهار ألا يسمعا لنصيحة سليم وأضرابه، وألا يقنعا لأبنائهما بالشهادات اليسيرة والمناصب التي تُنال بقليل من الجهد وتغلُّ على أصحابها رواتب ضئيلة يراها أهل الإقليم شيئًا عظيمًا وهي في حقيقة الأمر لا تُقيم الأود ولا تحمي من الجوع، فضلًا عن أن تبيح لأصحابها ما هُم أهل له من الترف وخفض العيش، وكان هذا الشيطان المريد يقول لخالد وامرأته مصبحًا وممسيًا: انظر إلى رئيس المصلحة وقاضي المحكمة ومأمور المركز، فأمَّا أحدهم فيُعلِّم ابنه ليكون قاضيًا، وأمَّا الآخر فيريد لابنه أن يكون مهندسًا، وأما الثالث فيطمع لابنه في أن يكون طبيبًا، فأي فرق بين أبنائكما وأبناء هؤلاء الناس؟! إن قاماتهم جميعًا تعتدل في السماء، وليس أبناء هؤلاء الموظفين الكبار وحدهم هم الذين تعتدل قامتهم في السماء على حين يمضي أبناؤكما على أربع، إنهم جميعًا قد سلكوا إلى الحياة طريقًا واحدة، وسيسلكون بعد أعمار طوال إلى الموت طريقًا واحدة، فما بالهم يختلفون في الطبقة ويتباينون في المنزلة بين الحياة والموت؟!
وكان هذا الشيطان المريد يقول لخالد وامرأته فيما كان يقول: انظر إلى رئيس المصلحة كيف يستكبر ويستعلي؟! وكيف يثني عطفه ويلوي جيده إذا تحدث إلى مرءوسيه ومنهم خالد؟! وانظرا إلى امرأة هذا الرئيس كيف تدلُّ وتتيه وتنظر من علٍ إلى نساء الموظفين حين يسعين لزيارتها! وانظرا إلى أبناء هذا الرئيس إنهم لا يستكبرون على أبنائكما ولا يستعلون، كما يستكبر أبواهم ويستعليان؛ لأنهم قد ذهبوا إلى كُتَّابٍ واحد ثم إلى مدرسة واحدة؛ فإن أمسكتما أبناءكما عند ما حفظا من العلم وحصَّلا من الشهادات وقفوا هم وتقدم أترابهم، ثم لا تمضي الأعوام حتى يكون أبناؤكما في نفس منزلتكما، وحتى يكون أبناء هؤلاء الموظفين لهم سادة وعليهم رؤساء، ومع ذلك فقد كان أبناؤكما يتفوقون في المدرسة على أبناء هؤلاء الموظفين، وهم جديرون أن يتفوقوا عليهم في المدارس الأخرى، وهم جديرون آخر الأمر أن يسبقوهم ويظفروا بما لم يظفروا به من وسائل الفوز، فانظروا كيف تجدان أنفسكما يوم يظفر أبناؤكما بالشهادة أو المنصب ويقصر على الشهادة أو المنصب أبناء الرئيس والقاضي والمأمور! وكان هذا الكلام يقع في قلب خالد وامرأته موقعًا غريبًا، يُنسيهما كل شيء ويدفعهما إلى التضحية بكل شيء، فكان كل عام دراسي يشهد بيع شيء مما كانت الأسرة تعتز به وتحرص عليه، فيبيع البقر والجاموس والخيل شيئًا فشيئًا، ثم بيع حُلِيّ «مُنى» شيئًا فشيئًا حتى أصبحت أعطل من الفقيرات بين نساء المدينة، فلم تكن في المدينة امرأة فقيرة إلا ولها القرط من الذهب أو الفضة تُعلقه في أذنيها، أو الخلخال من الفضة تديره حول ساقيها، وقد كان لمُنى من هذا الحُلِيِّ أنفسه وأكرمه، ولكنها جعلت تنزل عنه عامًا بعد عام للمعلم جرجس هذا الذي كان يلم بالبيت إذا دعاه خالد، فيأخذ الحُلِيَّ في يده ينظر إليه فيطيل النظر، ثم يزنه ثم يُؤدي ثمنه إلى خالد، ويدفعه خالد إلى بنيه ليُؤدوا منه أجور التعليم، ثم اضطر خالد أن يقتصد في زيه؛ فقد كانت ثيابه من أزهى الحرير وأجود الصوف، يُنفق في ذلك ما لا يُنفق أصحابه مثله، فإذا هو يزهد في هذا كله، ويتخذ ثيابه من القماش الأبيض والصوف الرخيص، وليس هو وحده الذي يقتصد فامرأته وبناته يذهبن في الاقتصاد مذهبه ويسرن سيرته؛ فقد كان يجب أن يتعلم الأبناء وأن يعيشوا في القاهرة عيشة راضية.
ولم يكن أملٌ في أن يستعين خالد أباه، فقد بَعُدَ العهد بثروة أبيه، وأصبح علي شيخًا فانيًا ضريرًا أعزب عِيَالًا على أبنائه، يرزقونه في المدينة ويودُّون لو أقام عند كل واحد منهم جُزءًا من السنة ليعيش مع أهله كما يعيشون حتى لا يكلفهم نفقة خاصة، ولكن عليًّا مصمم على أن يبقى في داره ليعيش في غرفة أم خالد، وهو لا ينتقل من هذه الدار إلا إذا أقبل الشتاء من كل عام؛ فإنه يحب أن ينفق الشتاء عند خالد حيث يجد من الدفء والراحة والخدمة ما لا يجده في داره، ولكنه قد أخذ على خالد عهدًا إن أصابته علة أن يرده إلى داره وإلى غرفة أم خالد من هذه الدار؛ لأنه يريد أن يموت حيث ماتت زوجته الأولى؛ وليس أمل في أن يستعين خالد حماه الحاج مسعودًا؛ فقد عبث الحاج مسعود بالثروة، وقد تعرضت تجارته لمثل ما تعرضت له تجارة علي من هذا الخطر الذي جاءها من القاهرة على أيدي هؤلاء الشياطين الذين نَظَّمُوا التجارة تنظيمًا حديثًا ويسروها تيسيرًا لا يقدر عليه الحاج مسعود وأمثاله، ولولا أن الحاج مسعودًا كان رجلًا صالحًا بأدق معاني الكلمة لتعرض من البؤس لمثل ما تعرض له عليٌّ، ولكنه ضبط نفسه وحزم أمره وكفَّ عن التجارة حين رأى أن المضي فيها خطر، واكتفى بما كان عنده من مال ينفق منه على نفسه، ويبر منه بناته وأصهاره في اعتدال ورفق، ثم لزم شيخه أشد ما يكون له لزومًا، حتى إذا مات الشيخ لم يلزم ابنه الحدث، وإنما أقعدته السن في داره، فكان يزور الشيخ الفتى بين حين وحين، ولو قد بقيت على الحاج مسعود ثروته عريضة وتجارته نامية لما استعانه خالد على ما كان يلقى من الجهد في تعليم بنيه، فقد كان خالد شديد الحياء، وكانت امرأته أشد منه حياء، وكان الزوجان يجدان لذة غريبة في هذا البؤس الذي كانا يضطران الأسرة إليه لتعليم أبنائهما. ومن الحق أن هؤلاء الأبناء كانوا يكافئونهما أحسن المكافأة على ما كانا يبذلان من جهد ويحتملان من ضنك، فقد كانوا نابهين على الجملة، وكانوا على كل حال ممتازين على أترابهم من شباب المدينة، فكانوا ينجحون حين كان يُخفق أبناء كبار الموظفين، وقد ظفر أحدهم بالشهادة الثانوية لم يرسب مرة واحدة، على حين أنَّ قرينه ابن المأمور الذي دخل معه المدرسة الثانوية في عام واحد لم يزل في السنة الأولى، وقد كاد يُفصل من المدرسة لولا أنَّ أباه استعان ببعض أصحاب الجاه، فكان المأمور وكبار الموظفين يحسدون خالدًا، لا يكادون يُخفون هذا الحسد، وكان خالد وامرأته يجدان في هذا الحسد لذة منكرة لا يكادان يخفيانها، وكان خالد يتقي هذا الحسد بقراءة القرآن والإلحاح في الدعاء، كما كانت «مُنى» تتقي هذا الحسد بالبخور وبهذه الأدعية التي لا يُعرف أمتجهة إلى الله أم إلى الشيطان، وكان الشباب يضحكون من هذا كله ويعبثون من أمهم وأبيهم جميعًا.
وفي أثناء هذا كله كان بنات «مُنى» ينمون ويتقدمن نحو الشباب حِسانًا رائعات، وكان الأبناء يتتابعون لا يكاد يدرج واحد منهم حتى يتبعه آخر، وجلنار هي القائمة على أمر هذه الدار بإرشاد خالتها وبتعنيف خالتها أيضًا، وقد كَثُر العمل على جلنار، فالصبية كثيرون، وشئون الدار لم يَقِل تعقيدها، ولكن قلَّ فيها الخدم؛ فلم يكن بد من الاقتصاد. وكان العمل يثقل على جلنار بنوع خاص أثناء الصيف وفي إجازات الأعياد حين يُقبل هؤلاء الشباب، فيملئون البيت حركة ونشاطًا، والغريب أنَّ أحدًا من هؤلاء الشباب لم يخطر له أن حال الأسرة قد تغيرت، وأن ثراءها قد ذهب، وأن مالها قد قلَّ؛ ومع أنهم كانوا يرون الدار خالية مما كان فيها من الحيوان، ومع أنهم كانوا يرون أنَّ أثاث الدار يبلى شيئًا فشيئًا دون أن يُجدد، ومع أنهم كانوا يرون أمهم عاطلًا لم يبق لها خاتم تديره حول إصبعها، فقد كانوا مطمئنين إلى أنَّ أباهم قادر على كل شيء، وكانوا واثقين بأنهم سيجدون في الدار ما تعودوا أن يجدوا من السعة والرخاء، والشيء المهم هو أنَّ جلنار كانت تنهض بخدمتهم لا تكلُّ، تستيقظ مع الفجر قبل أن يستيقظوا، وتنام عند منتصف الليل بعد أن يناموا، لا تفتر عن العمل ساعة، ولا تذوق الراحة لحظة، وهي بذلك سعيدة وإليه مطمئنة، لولا ما كانت تلقى من تعنيف خالتها الذي لم يكن ينقطع، ولولا ما كان يوجه إليها هؤلاء الشباب الأشرار الجاهلون للجميل من مزاح لا يخلو مما يُؤلم، ولولا أنَّ سالمًا كان ينتهز هذه الفرصة فيزور الأسرة ويطيل الإقامة فيها، ويكون أشد أترابه رغبة في الدعة والرخاء وحاجة إلى الخدمة، وأطولهم لسانًا بما يسوء.
وكان أحب أوقات جلنار إليها وآثرها عندها هذه اللحظات القصار التي كانت تقدم فيها القهوة إلى أبيها مع الصبح وخالتها نائمة لم تنهض بعد، فكانت تقف بين يدي أبيها وهو يأكل كسرة الخبز المجففة يغمسها في الملح ويشرب فنجانيه من القهوة السادة، ويتحدث إلى ابنته حديثًا هادئًا عن إخوتها كيف أنفقوا أمسهم وكيف يريدون أن ينفقوا يومهم، وماذا يجب أن تُعد لغدائهم أو عشائهم من طعام، وكانت تحب أيضًا هذه اللحظات القصار التي كانت تصب فيهن الماء أثناء وضوئه إذا نهض من نومه بعد الغداء، حتى إذا أسبغ وضوءه تركته يصلي العصر، ثم عادت إليه بفنجانيه من القهوة، فأخذ يشربهما مستأنيًا، ويداعبها حول ما أعدت من طعام، يمدح هذا اللون ويعيب ذاك، والفتاة ترد على أبيها مداعبة، ترق له حينًا وتعنف به حينًا آخر، ويبلغ بها العنف أن تشبه أباها بالقطط التي تأكل ثم لا تتحرج من أن تنال مُطعِمَها بالمخالب، وكان أبوها يسمع منها ويضحك لها، وينصرف وفي قلبه كثير من حنان، وعلى لسانه شيء من دعاء لا يسمعه إلا الله؛ لأنه كان يخشى أن يسمعه أحد أبناء الأسرة، فقد استقر في الأسرة كلها أن جلنار حمقاء ورهاء، لا تقدر على خير، ولا تستحق خيرًا، وكانت جلنار تجد شيئًا من الراحة والروح حين تقدم إلى أمها قهوة الصباح بعد أن ينصرف أبوها وقبل أن تنهض خالتها، فتلقي إلى أمها كلمات سريعة كأنما تخطفهن خطفًا، وتُلقي إليها أمها كلمات سريعة كأنها تختلسهن اختلاسًا، ثم يفرق العمل بين الأم وابنتها، فالفتاة مضطربة في البيت لا تستقر كأنها خذروف الوليد، وأمها مقبلة على ما كانت موكلة به منذ عاد إليها بعض رشدها من الخياطة وإصلاح ما كان الشباب والصبية يمزقون من الثياب.
وكذلك مضت حياة الأسرة أعوامًا وأعوامًا حتى اكتهل الشاب وشب الصبي وصلح البنات للزواج، واختلف أصغر الأبناء إلى المدارس يسيرون على آثار إخوتهم الكبار، وخالد الشيخ سعيد بما يرى من تقدم بنيه واستقلال من يستقل منهم، شقي بما يرى من إعراضهم عنه وازورار أكثرهم عليه، باذل على ذلك في شيخوخته مثل ما كان يبذل في شبابه من جهد ليعين من يحتاج من أبنائه إلى العون وليبر أبناءه الآخرين، وقد كانوا خليقين أن يُعينوه ويبروه، وكان خالد وامرأته يتحدثان ببرِّ الأبناء وعقوقهم، فيفرحان بأبنائهما ويحتسبان عند الله ما بذلا في تربيتهم وتعليمهم من جهد، وكان خالد يختم هذا الحديث دائمًا بهذه الجملة: لن أترك لأبنائي ثروة، ولو شئت لتركت لهم مالًا كثيرًا؛ ولكني سأتركهم غير محتاجين إلى ميراث، ولعلهم يستطيعون أن يُؤدوا إلى أبنائهم مثل ما أديت إليهم من المعروف. وكانت جلنار تسمع هذه الجملة فتقع من قلبها موقعًا غريبًا، فيه عطف على أبيها، وفيه عتب عليه أيضًا، إنه لم يترك لأبنائه ميراثًا؛ لأنهم أغنياء عن الميراث، ولكنه لم يترك لبناته ميراثًا وهنَّ لسن غنيات عن الميراث، ولا سيما من لم تجد منهن زوجًا.