الفصل السادس والعشرون
وفي ذات صيف كانت الأسرة كلها مجتمعة، وكان الأمر في الدار قائمًا على قدم وساق كما يُقال، فقد تعمد أبناء الأسرة جميعًا أن يلتقوا عند أبويهم، فكان منهم الكهل معه زوجه وبنوه، والشاب معه زوجه التي لم تلد بعد، والشاب الآخر الذي لما يتزوج، والفتى الذي لما يتم الدرس، والصبي الذي لمَّا ينل شهادته الابتدائية، وكانت الأسرة كأحسن ما تكون الأسر فرحًا ومرحًا، وكان خالد الشيخ كأحسن ما يكون الشيوخ الآباء غبطة وابتهاجًا، أحب أوقاته إليه أن يجلس إلى المائدة وحوله هذه القبيلة الضخمة من الأبناء والحفدة وهم يتحدثون في صيحة وجلبة لا يكاد بعضهم يسمع حديث بعض، وأمهم قائمة على رأس المائدة تشرف على غدائهم أو عشائهم، تُوصي هذا بهذا اللون من الطعام، وتنبه ذاك إلى هذا اللون الذي كان يحبه صبيًّا، وتحث المقصر في الأكل على أن يأكل، وتحمس الفاتر على أن ينشط؛ وجلنار ذاهبة جائية ومعها أخواتها والخدم يطفن بالصحاف، ويصببن الماء في الأقداح، ويلتقطن من الأحاديث والنكت ما يستطعن، يدخرنه لتلك الساعة التي يجتمع فيها النساء إلى المائدة فيُعدنه متندرات به مستمتعات بما يثير في نفوسهن من لذة وابتهاج.
وأيام الأسرة تمضي في هذا الصيف السعيد على خير ما يُحب خالد وامرأته، والناس يتحدثون في المدينة بهذه الأسرة الضخمة، وبهذا النشاط الشديد الذي يذيعه أبناؤها في المدينة كلها، فلا يبقى فيها بيت ذو خطر إلا دعا كهول الأسرة وشبابها إلى غداء أو عشاء، ولم تجد الأسرة بدًّا من أن تلقى الجميل بالجميل، وترد التحية بمثلها أو بأحسن منها، فالولائم متصلة في المدينة، يومًا هنا ويومًا هناك، وأبناء الأسرة هم مصدر هذا النشاط وسبب هذا الرخاء، ولكن رسالة برقية تصل إلى الأسرة فتحدث فيها شيئًا من رضا يمازجه شيء من عجب؛ فقد حملت هذه الرسالة إلى خالد أن صديقه وأخاه سليمًا سيزور الأسرة من غد، وسيصحبه في هذه الزيارة ابنه سالم، أمَّا الشباب فيُسرُّون لمقدم سالم، هذا الفتى المرح الذي سيزيد إقامتهم بشرًا وسرورًا، وأما خالد فيُسرُّ؛ لأنه سيرى أخاه، ولأنه سيرى أبناءه سعداء مبتهجين، ولكن خالدًا يسأل نفسه: ما بال سليم يصطحب ابنه؟ والشباب يتساءلون: ما بال سالم يصحب أباه؟ ثم هم يتساءلون: ما بال هذه الزيارة يُنبئ بها البرق ولا تتم مفاجأة كما جرت عادة سالم وسليم؟ فأما «منى» فلم تسأل نفسها عن شيء ولم تُجب عمَّا كان يُلقى حولها من الأسئلة بشيء، وإنما ظلت هادئة باسمة في وجهها شيء من غموض، ثم يكون الغد ويُقبل الزائران، ولكنهما لا يقبلان كما تعودا أن يُقبلا، معهما أمتعتهما اليسيرة وبعض ما تعودا أن يحملا من الطرف والهدايا اليسيرة أيضًا، وإنما يُقبلان هذه المرة ومن حولهما ما يحتاج إلى حمالين كثيرين وما يعيا بحمله هؤلاء الحمالون؛ فألوان من الفاكهة، وضروب مختلفة من الطعام المصنوع، ثم الأرز والسكر والبن وأشياء أخرى لا تكاد تُحصى؛ فأما الشباب فيدهشون ولا يقولون شيئًا، وإنما ينصرفون إلى سالم يفرحون به ويمرحون معه، وأما خالد فيقول لأخيه: وماذا تركت لأهل المدينة وقد حملت ما كان في سوقها من عروض؟ وأما «مُنى» فلا تقول شيئًا، ولكنها تتلقى هذه الهدايا فرحة بها مبتهجة لها أكثر مما تعودت أن تفرح بالهدايا أو تبتهج، وابتسامتها كما هي، وصمتها باق كما هو، والغموض في وجهها باق كما هو. وأما البنات فلا يحفلن بذلك ولا يكدن يلتفتن إليه؛ فهنَّ مشغولات بما في الدار من نشاط وبما تحتاج إليه الدار من خدمة؛ إلا جلنار فإنها قد حدثت نفسها بشيء وساءلت نفسها عن شيء: أيمكن أن يكون سالم وأبوه قد ذكرا تلك الخطبة القديمة وفكرا في هذا الزواج المنتظر؟ ولكنها لا تجيب عن هذا السؤال، وإنما تترك نفسها معلقة مضطربة، يدفعها الشك إلى هنا وهناك، وهي تألم لهذا الشك الثقيل. ويمضي يوم ويوم والأسرة فيما هي فيه من حياة فرحة مرحة، يزيدها فرحًا ومرحًا نشاط سالم ودعابة سليم.
ولكن الأخوين يخلوان ساعة بعد الغداء من اليوم الثالث وقد أحسَّ الشباب أن لهذه الخلوة ما بعدها، ولم يلتفت إليها بنات «مُنى». وأكبر الظن أن مُنى نفسها قد كانت في غرفة مُجاورة تتسمع لما يقول الأخوان، أو تنتظر أن يصل إليها بعض ما يقول الأخوان؛ وأما جلنار فقد لاحظت هذه الخلوة وابتسمت لها ابتسامة غامضة، ومضت فيما كانت فيه من عمل، ولم يعرف قلبها قط من الخوف والرجاء مثل ما عُرِف في تلك الساعة، ثم يفترق الأخوان، يذهب كل منهما إلى مضجعه ليستريح بعد الغداء، فأمَّا خالد فقد خلا إلى زوجه، وأما سليم فقد خلا إلى ابنه؛ والشباب يتساءلون متضاحكين، وجلنار تسائل نفسها فزعة هلعة دون أن يفطن أحد لما تضطرب به نفسها من فزع وهلع.
فإذا صُلِّيَت العصر كان وجه «مُنى» ممتلئًا بشرًا، وكانت جُلنار أول من لحظ ذلك، فلم يزدها إلا فرقًا وقلقًا؛ ولكن خالدًا يدعو إليه الكبار من أبنائه ويتحدث إليهم حديثًا يلقونه بثورة لا يكادون يخفونها، فقد جاء سليم خاطبًا يُريد أن يزوِّج ابنه، ولكنه لا يخطب «جلنار»، وإنما يخطب تفيدة كُبرى بنات «منى»، وخالد حائر في أمره لا يدري كيف يرد على أخيه قوله: أيقبل هذه الخطبة فيضحي بجلنار البائسة، أم يرفض هذه الخطبة، فيؤذي أخاه وهو لم يتعود قط أن يردَّ لأخيه طلبًا؟ وقد عرض الأمر على زوجه فلم تنكر منه شيئًا، ومعنى ذلك أنه إن رفض فلن يؤذي أخاه وحده، بل سيؤذي معه زوجه «مُنى»، وسيؤذي معها سالمًا.
فأمَّا الشباب فلم يفكروا في شيء من هذا، وإنما اجتمعت كلمتهم على الرفض وعلى أنَّ في هذه الخطبة الجديدة قحة لا تبلغها قحة، وسماجة لا تشبهها سماجة، ثم أخذ الشباب يتضاحكون ويتندرون بعمهم وابن عمهم وبهذه الهدايا الكثيرة التي لم يتعودا أن يحملا مثلها، ولم تُصلِّ المغرب حتى كانت الأسرة كلها قد عرفت نبأ الخطبة، وحتى كان الفساد قد شمل أخلاق الشباب والشيوخ والصبيان جميعًا، وكأنَّ سحابة كثيفة من الغم قد أظلت هذه الدار التي كانت فرحة مُبتهجة منذ حين، فملأتها حُزنًا وبؤسًا، فأما الشبان فقد تفرقوا في أنحاء المدينة يلتمسون الرياضة ويخلو بعضهم إلى بعض، وأما الصبية فقد عشتهم أختهم «جلنار» فأكل منهم من أكل وأعرض منهم من أعرض عن الطعام، واضطروا آخر الأمر إلى مضاجعهم، وأمَّا بنات «مُنى» فقد لُذن بأمِّهن صامتات مثلها، باسمات مثلها، غامضات مثلها أيضًا. وأما «جلنار» فقامت على خدمة الدار كما تعودت، وهيأت للرجال طعامهم، فلما لم يقربه أحد منهم دعت النساء إلى طعامهن، فلما امتنعن رفعت كتفيها وهزت رأسها وأصابت قليلًا من طعام وجلست مكانها مع النساء صامتة تنتظر أن يأوي الرجال إلى مضاجعهم لتدور في البيت دورتها المألوفة، فتثق بأن الأبواب مغلقة، وبأن كل شيء مستقر في موضعه الذي يجب أن يستقر فيه، فأما قلبها فقد كان حزينًا، ولكن عهده بالحزن قديم، وأما نفسها فقد كانت يائسة، ولكن السبب الذي كان بين نفسها وبين الأمل قد كان واهيًا واهنًا، حتى إذا انقطع لم تكد تحس له انقطاعًا.
وهمَّ خالد فيما أقبل من الأيام أن يُرضي أخاه ويضحِّي بابنته الكبرى، ويُكره أبناءه على ما لا يحبون؛ فهو صاحب الحق آخر الأمر في أن يرفض أو يقبل، ولكنه وجد من بنيه مُقاومة لم يعهدها من قبل؛ فهم قد أقبلوا على حقائبهم يهيئونها؛ وهم يتحدثون بالقطر التي سيركبونها ليعود كل منهم إلى موطنه الذي يعمل فيه، وهم يُؤذنون الأسرة بأن الصِّلة بينهم وبينها مقطوعة إن قُبلت هذه الخطبة الوقحة؛ وخالد يلجأ مع أخيه إلى رئيس المصلحة يستعينان به على هؤلاء الشباب الذين أفسدهم التعليم، وأضاعت الحياة الحديثة من نفوسهم كل حياء، فهم يدخلون فيما لا يعنيهم، ويخالفون عن أمر أبيهم، ويتوسط الرئيس فيدعو إليه شباب الأسرة، فيمتنع أكثرهم ويذهب أقلهم، ثم يعودون كما ذهبوا وقد امتنعوا على الرئيس كما امتنعوا على أبيهم، وهنا بدأت دموع «مُنى» تسيل ولكنها لم تبلغ من قلوب أبنائها شيئًا، واضطر سليم أن يعود أدراجه ومعه ابنه، وقد همَّ الشباب أن يُبالغوا في مساءته فيردوا عليه ما حمل من الهدايا، لولا بقية من رشد وفضل من وقار. وقد انقضت إجازة الصيف حزينة بعد مرح، عابسة بعد ابتسام، وتفرق الشباب عن أبويهم وانصرفوا إلى أعمالهم وقد استوثقوا أنهم كسبوا الموقعة، ولكن كتب أبيهم تصل إليهم بعد أشهر تحمل إليهم هذا النبأ الأليم، فقد تمَّ الزواج، فزُوِّجت تفيدة من سالم، وزوِّجَت جلنار من عليٍّ، وكانت هذه هي الحيلة التي اهتدى إليها سليم للخروج من هذه المشكلة، إنَّ الشباب يأبون أن تُزوج أختهم الصغرى وتُترك أختهم الكبرى؛ فلنزوِّج الأختين، وما دام سالم يحب تفيدة ويخطبها فليزوج من تفيدة، فأمَّا جلنار فإن عليًّا لا يكره أن يتزوجها إذا ألحَّ أبوه عليه في ذلك، وقد اطمأنت «منى» ورضي خالد وتم عقد الزواج، لم تُستشر فيه تفيدة ولم تُسأل فيه جلنار، وإنما أُجريت هذه الصورة المألوفة فكان خالد وكيل ابنتيه، وكان سليم وكيل ابنيه؛ وانتهت أنباء ذلك إلى الشباب متفرقين فلم يصنعوا شيئًا؛ لأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يصنعوا شيئًا، ولكن قائلهم قال: أقسم ما هذه إلا حيلة ولتزفن تفيدة إلى سالم ولتطلقن جلنار قبل الزفاف. وأقسم الشباب لا يحضرون من أمر هذا الزواج شيئًا.
ومضت أشهر وجاءت إجازة الصيف؛ فلم ينعم خالد وامرأته بزيارة أبنائهما، وقد تحقق ما قدر الشباب، فزفت تفيدة إلى سالم، وأقبل كتاب ذات يوم يحمل إلى خالد وثيقة الطلاق لجلنار.
وفي الإنسان خصال بغيضة لم تستطع الحضارة تهذيبها، بل ليس أحد يدري أخلقت معه فعجزت الحضارة عن إصلاحها؟! أم خُلق الإنسان مُبرأ منها ثم كسبته الحضارة إياها بما فرضت عليه من ظروف مرتبكة مشتبكة، وبما امتحنته به من خُطوب متسابقة متلاحقة، ولكنها مركبة فيه على كل حال، تفسد عليه أمره، وتضطره إلى كثير من البغي، وتورِّطُه في كثير من الإثم، فلست أعرف أقسى منه إذا أبطرته النعمة، ولا أعتى منه إذا ازدهاه الغرور، ولا أجهل منه إذا سيطرت عليه الأثرة، ولا أغفل منه إذا أحسَّ خطرًا قريبًا أو بعيدًا على ما يختص به نفسه من الخير، وأكبر الظن أنَّ كل هذه الخصال مُجتمعة هي التي دفعت «مُنى» إلى أن تتشدد في أن تُزف تفيدة إلى سالم أو يُزف سالم إلى تفيدة في دار الأسرة وفي أن يجد خالد لختنه عملًا في نفس المصلحة التي يعمل فيها، بحيث لا تُفارق ابنتها، وبحيث تستطيع أن ترى ختنها الأثير عندها في الصباح والمساء من كل يوم؛ وقد نسيت «مُنى» أنَّ أمها حاولت شيئًا مثل ذلك، فكانت هي أشد الممانعين فيه، وتركت الأمر إلى زوجها، ولم تحفل بما أظهرت أمها أو أضمرت من حزن، ولم تأبه لما سفحت أمها وأمسكت من دموع، نسيت ذلك ولم تذكر إلا شيئًا واحدًا، وهو أنها لا تريد أن تُفارق ابنتها فلا ينبغي لأحد أن يفرِّق بينها وبين ابنتها مهما تكن الأحوال. ومن يدري! لعل عواطف خفية أثيمة كانت تعبث بهذا القلب الكريم، فتجرده مما عُرِفَ به من رحمة، وبهذا العقل النافذ فتحرمه ما قدر له من ذكاء؛ فقد انتصرت على زوجها وبنيها وضرتها التي لم تُحارب قليلًا ولا كثيرًا، وينبغي أن تستغل انتصارها إلى أقصى غاياته وأبعد آماده، وأن ترى ابنتها مُقيمة في دارها، سعيدة بحبها، مستأثرة بهذا الزواج الذي لم تكن تنتظره، والذي كانت الأسرة قد أعدَّته لغيرها، ولم يخطر «لمُنى» أنَّ في الدار فتاة خليقة أن يُؤذيها هذا الجوار البغيض، وأن يُمَزِّق قلبها تمزيقًا ويحرقه تحريقًا، وأنَّ فوزها الأول خليق أن يحملها على شيءٍ من رحمة ورفق، فتجنب هذه البائسة رُؤية هذا الفتى الذي انتظرت أعوامًا وأعوامًا أن يكون لها زوجًا، والذي عقدت به آمالًا وآمالًا، ثم نظرت ذات يوم فإذا هي تُجزى من هذا الانتظار الطويل والصبر المتصل بالهجران والحرمان، ثمَّ بهذه الإهانة التي لا تُطيق المرأة صبرًا عليها، وهي هذا الزواج الصوري الذي لم يُرد حتى خداعها هي أو تضليلها، فلم يحفل أحد حتى بخداعها وتضليلها، وإنما أُريد به خداع أولئك المعارضين من إخوتها، ليتم هذا الزواج الذي هو إلى الغصب والعدوان أقرب منه إلى أي شيء آخر.
لم يخطر هذا لمُنى، بل لعله خطر لها فكان دافعًا على الإلحاح في أن تُقيم ابنتها معها في الدار.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذت «جلنار» تعمل في الدار كما كانت تعمل، وكان من بين عملها بطبيعة الحال أن تمضي في خدمة أختها مُتزوجة بعد أن كانت تخدمها قبل الزواج، وأن تمضي في خدمة هذا النزيل الجديد بعد أن تحول عنها قلبه، وبعد أن أهدى إليها هذه الخيانة البشعة، كما كانت تخدمه من قبل حين كانت ترجو حبه، وحين استيأست من حبه، ولكنها لم تكن تنتظر أن تنتهي به القسوة إلى الخيانة. ويجب أن نعترف بأن «جلنار» مضت في حياتها وفي عملها كما كانت تمضي من قبل لم يُظهر أحد من الأسرة على أنها محزونة أو يائسة، إمَّا لأنها لم تظهر حُزنًا ولا يأسًا، وإما لأن الأسرة لم ترد أو لم تستطع أن ترى عليها مظاهر الحزن واليأس.
إنما هي امرأة واحدة لم تستطع أن تُقيم في الدار، ولا أن تحتمل هذا البؤس الأليم، وهي نفيسة التي طلبت في حياء يُمازجه الذهول أن تزور ابنتها سميحة، وودَّت لو أُذِنَ لجلنار في صحبتها، ولكن «مُنى» أجابتها في قسوة هادئة: تستطيعين أن تزوري ابنتك إن شئت، فأمَّا جلنار فلن تستغني عنها الدار في هذه الأيام.
وقد آثرت الأم البائسة أن تُفارق ابنتها على أن تراها في هذا العذاب البغيض، وكذلك خلت الدار حتى من هذا الشعاع الضئيل الذي كان ينفذ إلى قلب الفتاة من حنان أمها البائسة، فيشيع فيه شيئًا من الطمأنينة والراحة، ولم يبق لها إلا وجه أبيها الذي كان يبتسم لها على استحياء؛ لأنه كان يقدر بُؤسها في أعماق ضميره، ويقدر قسوته عليها وتقصيره في ذاتها، ولكنه لم يكن يستطيع أن يظهر لها أو لغيرها من ذلك شيئًا، فاتخذه سرًّا بينه وبين الله، يستغفر الله منه، ويستعينه على احتماله إن استطاع أن يخلو إلى نفسه، وما أقل ما كان يستطيع أن يخلو إلى نفسه! وأقبل مع ذلك ذات يوم شيخ متقدم في السن من أصدقاء خالد يكاد يكون تربًا له — وكان هذا الشيخ قد فقد أهله منذ حين — أقبل إلى خالد ذات يوم يخطب جلنار، ولم يدر أحد أدفعته الرحمة إلى هذه الخطبة أم دفعته إليها الحاجة إلى من يُؤنس وحدته، أم دفعه حرصه على أن تزداد الصلة بينه وبين صديقه متانةً وتوثيقًا، ولكنَّه خطب الفتاة إلى أبيها على كل حال، ووجد خالد في هذه الخطبة روحًا من الله يُخفف عنه بعض ندمه، ويغسل عن نفسه بعض ما علق بها من الإثم والحوب، فوعد صديقه خيرًا على أن يشاور ابنته، ثمَّ خلا إلى الفتاة بعد أن آذن زوجه بالأمر بهذه الخطبة في صوت هادئ لا يخلو من اضطراب، وفي ابتسامة متكلفة لا تخلو من حزن، ولكن الفتاة استمعت له مُطرقة، ثم أجابته دون أن ترفع رأسها إليه قائلة: ليس لي في الزواج أرب، وما أحب أن أُفارق هذه الدار. فلما أراد أبوها أن يُحاورها في ذلك رفعت إليه رأسها باسمة في صوتها الذي لم يَخْلُ من عنف: ومن ذا الذي يقدم إليك وضوءك وقهوتك في الصباح والمساء؟ ثم تولت عنه معرضة وقد استيقن أنه لن يظفر منها بشيء؛ فلما أعاد حديثها على زوجه قالت «مُنى» في صوت ساخر بعض الشيء: إنَّ شجرة البؤس ما زالت تُؤتي ثِمارها. قال خالد ولم يستطع أن يُخفي عبوس وجهه: فعسى الله ألا تذوقي أنت ولا بناتك بعض هذه الثمار! ولكن الله لم يستجب لخالد دعاءه في هذه المرة؛ فقد لقيت تفيدة من زوجها ما لقيت، وابتأست في حياتها ما ابتأست.
ورأى الضحى ذات يوم بعد حين من الدهر نسوة مجتمعات يبكين أو يتباكين، وما أكثر دعاء النساء لدموعهن! وما أيسر ما تستجيب الدموع لهن إذا دعونها! رأى الضحى ذات يوم هؤلاء النسوة مجتمعات يبكين أو يتباكين، ولم تكن فيهن إلا أيِّم أو مُطلقة، ولم يكن هؤلاء النسوة إلا «مُنى» قد تقدمت بها السن والأرامل من بناتها ومعهن جلنار كما عرفها الضحى من كل يوم منذ حملت إلى هذه الدار، فلمَّا فرغ هؤلاء النسوة من بُكائهن أو تباكيهن وأقلعت دموعهن بعض الإقلاع، أخذن يتذاكرن آمالهن الضائعة وآلامهن الملمة، وما كتب عليهن من الشقاء والبؤس، إنهن لم يلقين من الدهر قط رحمة أو روحًا، تقول «مُنى» لتفيدة: والله ما جرَّ عليك آلامك، وهذا البُؤس المتصل الذي أنت فيه إلا الحسد والغيرة؛ فقد زففت إلى زوجك وإنَّ في هذه الدار لقلبًا يكاد الحسد يهلكه. قالت تفيدة في شيء من غضب: والله يا أماه ما أدري! لعلِّي أكون قد جنيت على نفسي حين أخذتُ ما ليس لي بحق، وتسمع جلنار فلا تقول شيئًا، وقد تعودت منذ أعوام طويلة أن تسمع كثيرًا ولا تقول شيئًا، ولكنها تنهض بعد حين مُتثاقلة، فتذهب إلى حجرتها فتلزمها أيامًا، ثم لا تخرج منها إلا إلى جوار أبيها في تلك الدار التي لا يعرف أهلها تحاسدًا ولا تباغضًا ولا تعاديًا، والتي لا لغو فيها ولا تأثيم.