الفصل الثالث
وليس من شك في أنَّ أم خالد أذعنت لأمر الشيخ طائعة، وفي أن خالدًا أنفذ أمر الشيخ راضيًا مغتبطًا، ولكن ليس من شكٍّ أيضًا في أنَّ أم خالد لم تكد ترى نفيسة حتى ارتاعت والتاع قلبها التياعًا شديدًا، ولولا أنها كانت قوية النفس حازمة ضابطة لأمرها، لأظهرت من روعها ولوعتها ما كان خليقًا أن يُؤذي الفتاة وأمها ويلغي أمر الشيخ إلغاء، ولكنها حزمت أمرها وكظمت غيظها وأوت بعد قليل إلى غرفتها، فبكت ما شاء الله أن تبكي، واستقبلت زوجها كأسوأ ما يُستقبل الزوج، وقالت له في نفسه وفي شيخه أسوأ ما كان يمكن أن يقال. ولكن زوجها لقى هذا كله باسمًا يتلو الآية: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ فإذا أحفظته استحال ابتسامه ضحكًا، وقال: ناقصات عقل ودين. ولكنها أكثرت عليه حتى ضاق بها آخر الأمر، ولا سيما حين زعمت له أنَّه لا يُزوِّج ابنه طاعة للشيخ ولا إذعانًا لإرادة الله، وإنما هو أمر دُبِّرَ بليل. هو لا يُزَوِّج ابنه من ابنة صاحبه، وإنما يزوج نفسه من ثروة صاحبه، فهو يضحي بهذين البائسين؛ ليشارك في هذه الثروة الضخمة والمال العريض. هنالك نهض عليٌّ في تؤدة، واستقبل امرأته في هدوء وقال لها في صوت يريد أن يرتفع، ولكن صاحبه يُكرهه على الانخفاض: تخيَّري، فإما أن يعقد هذا الزواج، وإمَّا أن تُفصم عقدة الزواج بينك وبيني، فأُقسم لنعودنَّ إلى مدينتنا أربعة، أو لتعودن إلى أهلك وحيدة.
سمعت أما خالد هذا النذير، فوجمت له وُجُومًا طويلًا، والغريب أنها جعلت تلتمس عند عينيها الدموع، فلا تسعفانها بشيء، وتلتمس عند قلبها الثورة، فلا يسعفها بشيء، وتلتمس عند لسانها كلمة تردُّ بها على زوجها بعض ما قال، فلا يسعفها بشيء، فلما طال عليها ذلك نهضت لتصلح من شأنها، وانصرف عنها زوجها، ثم عاد إليها بعد ساعة فرآها كعهده بها هادئة حازمة، في وجهها ابتسامة ضئيلة حزينة، قال علي لامرأته متضاحكًا: أرضيت؟ قالت: لقد سمعت أبي دائمًا يقول كلما لقى مكروهًا من الأمر: رضينا بقضاء الله وقدره، ولكن ثق بأنك ستندم على ما أنت مقدم عليه من الأمر، وبأنك إن أتممت هذا الزواج لم تزد على أن تغرس في دارك شجرة البؤس.