الفصل الخامس
وكان علي يُحب امرأته أشد الحب، ويؤثرها أعظم الإيثار، لا يعدل برضاها شيئًا، ولا يَدَّخِر في سبيله جهدًا. ولم تعرف أم خالد أن زوجها قد خالف عن أمرها أو تنكر لها أو خيب لها أملًا أثناء هذه الأعوام الطويلة التي قضتها عنده، بل لم تعرف منه إلا برًّا بها وعطفًا عليها وفناء فيها. ولولا أنَّ الشيخ أمر بهذا الزواج المشئوم لما صمَّم عليه ولا ألحَّ فيه ولنزل في أمره عند إرادة امرأته، ولكنها عرفت حين تمَّ هذا الزواج على كره منها أنَّ هناك شخصًا هو آثر منها في قلب علي وأكرم منها على نفسه وأحرى ألا تُردَّ له كلمة.
ولست أدري أكانت خيبة أملها في زوجها أشدَّ عليها من خيبة أملها في ابنها، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذه المرأة البائسة قد فقدت في وقت واحد ثقتها بالزوج وثقتها بالابن، واستحيت من نفسها أن يكون سلطانها على زوجها قد ضعف إلى هذا الحد، واستحيت من نفسها أن تقدم إلى جاراتها وأصدقائها في المدينة هذه الهدية المنكرة التي أهديت إلى ابنها، ولعلها كانت سعيدة بهذا المرض الذي اضطرها إلى غرفتها، وحال بينها وبين استقبال الزَّائرات وقد جئن يهنئنها بما كانت تحدِّث نفسها به، وبما تحدِّث كل أم نفسها به، من الفرح بابنها يوم تزف إليه عروس صالحة بارعة الجمال كثيرة المال. أُعفيت من هذا كله، ولم تستقبل من الزائرات إلا هذه الآلام المبرحة التي لزمت غرفتها ليلًا ونهارًا، وهذه الحمى الناهكة التي كانت تزورها وجه النهار وآخره، وكان علي أشقى الناس بهذا المرض وأشدهم به ضيقًا، ولكنه لم يكن يُقَدِّر أنه سينتهي بامرأته إلى الموت، ولم يقدر أن إصراره على هذا الزواج كان مصدرًا لهذا المرض أو كان مصدرًا من مصادره، ومع ذلك فقد أحس ذات يوم أن امرأته في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة، فجزع لذلك جزعًا شديدًا كاد يخرجه عن طوره، لولا أنَّه كان مؤمنًا حقًّا، وقد أقبل على امرأته يستغفرها مما يمكن أن يكون قد قَدَّم إليها من خطيئة أو جنى عليها من ذنب، ويسألها وصوته يرتجف ودموعه تغمر لحيته أن تدعو الله له بخير ليعلم أنها عنه راضية، قالت في صوت نحيل ضئيل: ليكن مرضي وموتي كفَّارة عما جنيت بتزويج ابننا من هذه الفتاة. قال علي وقد كاد صوته يحتبس في حلقه: فإنه أمر الشيخ. قالت: وليكن مرضي وموتي كفارة عن هذا الشيخ أيضًا.
وقد عمَّر علي بعد موت امرأته عمرًا طويلًا كما سترى، ولكنه لم ينسَ أم خالد في يوم من أيامه، ولم يقدر قط أن الموت قد فرق بينه وبينها، وإنما استيقن دائمًا أنها زوجه وأنها تعيش معه في داره، وأنها قد اتخذت لنفسها من قلبه مكانًا استقرت فيه فلا تبرحه، وأكثر من هذا أنَّ عليًّا لم يستطع حياة الرجل الأعزب، ولكنه لم يقدم على الزواج حتى أمره الشيخ أو أمر ابنه بذلك، فقال لخالد ذات ليلة: يا خالد، زوِّج أباك كما زوَّجك، فإنه لا يقدر على حياة الرهبان. وأذعن علي لهذا الأمر راضيًا، فقبل من ابنه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ، كما قبل ابنه منه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ. ثم اختلفت الخطوب على أبي خالد فاستكثر من الزوجات، واستباح ما رخَّص الله فيه للمسلمين من تعدد الزوجات. وكان يتحدث إلى الناس في شيء من التبجح الذي كان يزداد كلما تقدمت به السن بأن الله قد أذن للمسلمين في أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وأنه مصمم على أن يأخذ حقه من ذلك كاملًا، فيمسك في داره أربع زوجات لا ينقصن؛ لأن هذا حقه، ولا يزدن لأن الله حرَّم هذه الزيادة. ومع ذلك فلم يكن يمسك في داره إلا ثلاث زوجات؛ فإذا سُئل عن الرابعة قال وعلى ثغره ابتسامة حزينة: وأم خالد ماذا تصنعون بمكانتها مني؟ وكان علي قد احتجز غرفة أم خالد كما تركتها لم يغير منها شيئًا؛ وكان حريصًا على العدل بين نسائه، فكان يقسم لكل واحدة منهن ليلة من لياليه؛ فإذا أعطى كل واحدة منهن ليلتها أوى إلى غرفة أم خالد، فأنفق فيها ليلة زوجه الأولى مصليًا قارئًا داعيًا واهبًا هذا كله من جهده الصالح لأم خالد، لا يُفارق غرفتها ولا يتحول عن القبلة ولا ينقطع عن الصلاة والدعاء إلا أن يغلبه الإعياء والنوم، وكثيرًا ما أقبل خادمه محمود يحمل إليه قهوته بعد أن تشرق الشمس في غرفة أم خالد، فيراه مكبًّا على وجهه قد أدركه النوم في سجوده فلم يتحول، أو يراه مضطجعًا في مكانه الذي كان يصلي فيه قد أدركه الإعياء فنام حيث هو ولم يرد أن يأوي إلى الفراش.
ولم تزل هذه حاله حتى أدركته الشيخوخة المضنية. ونظر ذات يوم فإذا هو أعزب لا زوج له، قد تفرق عنه نساؤه بالطلاق أو بالموت، وقد كثر بنوه وبناته وحفدته، وتفرقوا عنه لكل منهم أسرته وأهله، وثابَ هو إلى غرفة أم خالد، فأقام فيها لا يريم، يختلف إليه خادمه بما يحتاج إليه، ويختلف إليه أبناؤه وبناته يزورونه وهو ملازم لهذه الغرفة؛ لأنه قد نذر إن أقدره الله أن يموت حيث ماتت أم خالد. وقد أقدره الله فمات حيث ماتت أم خالد. ونظر بنوه في وصيته، فإذا هو يأمر بنيه أن يدفنوه مع أم خالد، وأن يفعلوا بعد ذلك ما يشاءون؛ فهم يعرفون ما يأتون من الأمر وما يدعون، وهم يعلمون أن لله عليهم حقوقًا، وأنه سيسألهم عن هذه الحقوق.