الفصل السادس
وقد رُزق خالد من زوجه صَبِيَّة سماها سميحة، وأراد الله أن تكون هذه الصبية هي التي تكشف الغطاء عن عقل أبيها وذوقه ونفسه، وتحمل كثيرًا من أهله وذوي مودته أن يعجبوا من هذه الحكمة البالغة، ومن هذه الأسرار الغامضة التي تكتنف الناس في كل ما يأتون وما يدعون، وفي كل ما يضطرون إليه من الأمر، فقد كانت سميحة آية في الجمال، ولا سيما حين تقدمت بها السن شيئًا، وأصبحت صبية تدرج في البيت. لم يحفل خالد بمنظرها أول الأمر، شُغِلَ عن ذلك بشعور الأبوة وحنان الزوج. إلا أنه ذات يوم أخذ ابنته بين ذراعيه فضمَّها إليه وقبَّلها، ثم نظر في وجهها فأطال النظر، ثم التفت إلى المرآة فنظر إلى وجهه وأطال النظر، ثم التفت إلى امرأته فألقى عليها نظرة خاطفة، ثم وضع الصبية على الأرض، وقال لامرأته في صوت يقطعه ضحك عال مرٌّ: هذا غريب! من أين لهذه الصبية هذا الجمال؟ ليس وجهي بالرائع، وإن وجهك لبشع، فمن أين لها هذا الجمال؟! ووقعت هذه الكلمة من قلب نفيسة موقع الخنجر حين يطعن به عدو عدوًّا، فلم تقل شيئًا، وإنما أجهشت بالبكاء ساعة، ثم أوت إلى غرفتها فلزمتها أيَّامًا. ولكنها منذ ذلك اليوم أحسَّت أنَّها أصبحت لزوجها عدوًّا.
والحق أن زوجها منذ ذلك اليوم قد تحوَّل تحوُّلًا منكرًا، فكان يطيل النظر إلى ابنته، ويخطف النظر إلى زوجه، ثم تبلغ القسوة به أبشع أطوارها، فهو يُفصِّل ما في ابنته من محاسن، ويوازن بينها وبين ما في امرأته من مقابح: يُوازي بين الأنف والأنف، وبين الفم والفم، وبين الجيد والجيد. يفعل ذلك فيما بينه وبين نفسه، ثمَّ لا يملك أن يجهر به، وإذا هو يتحدث إلى امرأته بما في وجه ابنته من حسن، وبما في وجهها هي من قبح. ولا يزال كذلك حتى يُنَغِّص عليها، وإذا هي تجهش بالبكاء وتسرع إلى غرفتها، وإذا بكاؤها يدفعه إلى الضحك، وإذا فرارها يملأ قلبه اطمئنانًا ورضًا.
وكانت نفيسة حاملًا حين رُفِع الحجاب عن زوجها. فلمَّا شقَّ عليها ما رأت منه وشق عليها إلحاحه عليها بما تكره، رغبت إليه ذات يوم أن ترحل إلى القاهرة؛ لتنتظر طفلها بين أبويها، فلم يتردد في الإذن لها، بل قال مبتسمًا: وتحملين سميحة معك، ذلك أحرى أن ينسيني ما أنا فيه من إثم؛ فإن بينك وبيني عقدة فرض الله عليَّ أن أرعى حرماتها.
لم تمض إلا أيام حتى كان خالد قد هبط بامرأته إلى القاهرة، فأنزلها عند أبويها، وقضى في الأسرة أسابيع متجملًا متحملًا متكلفًا ما تعود أصهاره أن يروا منه من حب لابنتهم ورفق بها، مُلِحًّا في زيارة المساجد والمشاهد، يلتمس فيها العلم والمعرفة، ويلتمس فيها الموعظة والبركة، ولكنه يحس، ويا شرَّ ما يحس! يحس أنه لا يكتسب علمًا ولا معرفة، ولا ينتفع بموعظة، ولا يجد هذا الروح الذي كان يجده كلما ألمَّ بمقام من مقامات أهل البيت، ولا يجد هذا الطموح إلى قطرة يلقيها الشيخ في قلبه من هذا العلم اللدني، فتملأ قلبه حكمة ونورًا، وإنما يحس الحاجة إلى أن يطوف في القاهرة لا يلم بمساجدها ومشاهدها، وإنما ينظر إلى ما فيها ومن فيها من الأشياء والأحياء، ويُوازن بين هذه المدينة الضخمة الكبيرة وبين مدينته تلك المنكمشة على ضفة النيل في بعض الأقاليم.
وقد تُنازعه نفسه إلى أماكن كانت تُذكر له أحيانًا من تلك الأفواه الغاوية، ولكنه يسرع إلى نفسه أنَّ عقدة قد فرض الله عليه أن يرعى حرماتها، ثم يسرع إلى متجر صهره، كأنما يأوي إليه، وإلى صاحبه يستجير بهما من هذا الخاطر الآثم الذي مرَّ بضميره ساعة من نهار. هناك يقيم مع صهره وأعوانه سامعًا لما يقولون، مشاركًا فيما يديرون من حديث، آخذًا معهم في بعض العمل كأنه من أهل المتجر، ثم يروح مع حميه إلى البيت، فلا يخرج منه إلا إذا كان الغد، وكثيرًا ما كان يلوم نفسه أشدَّ اللوم على سيرته هذه الآثمة مع امرأته هذه البرة؛ فهي لم تخلق نفسها، وإنما خلقها الله: فإنكار صورتها إنكار لما خلق الله، فيه إثم قد ينتهي بصاحبه إلى الكفر. وهي لم تَدْعُهُ إلى أن يتخذها زوجًا، ولم تعرفه إلا بعد أن أحكمت عقدة الزواج، وإنما هو الذي هبط إليها من أقصى الإقليم. ثم هي لم تُرِه منذ عرفها إلا خيرًا، لم يعرف منها إلا البر به والنصح له والطاعة في كل ما أراد. فماذا جنت عليه أو ماذا قدمت إليه؟ وما باله يجزيها من الخير شرًّا، ومن العرف نكرًا، ومن البر عقوقًا؟! ثم هي لم تخلق ابنتها جميلة كما هي، وإنما خلقها الله، والله يُخرج الحي من الميت، ويُخرج النهار من الليل؛ فلِمَ لا يُخرج الصبية الجميلة من الأم الدميمة؟ ولو قد خيرت «نفيسة» لاختارت أن تكون ابنتها جميلة كما هي. فماذا ينقم منها؟ وماذا يعيب عليها؟ وما هذا الإثم البشع الذي يدفعه إلى أن يفسد ما بين الأم وابنتها الصبية الناشئة، وأن يُوقد في هذا القلب الكريم الرحيم هذه النار المنكرة الآثمة: نار الحسد والحقد والغيرة، وأن يغرس في هذا القلب النقي الطاهر البريء هذه الشجرة الخبيثة: شجرة الغرور والفتون والاستعلاء حتى على الأمهات. يغرس هذه الشجرة الخبيثة في قلب صبية لم تبلغ بعد الثالثة من عمرها؛ فكيف بها إذا تقدمت بها السن ومازت الجمال من القبح، وعرفت ما يحيط بالفتيان والفتيات من هذه الأهواء الجامحة!
كثيرًا ما كانت هذه الخواطر تملأ قلب خالد فتملأ نفسه خزيًا واستحياء، هنالك كان يذكر أمه حين كانت تزعم له أن الشباب لا ينبغي أن يطلبوا عند أزواجهم الحسن الذي يدعو إلى الفتنة، والجمال الذي يدفع إلى الموبقات، وإنما ينبغي أن يطلبوا إلى أزواجهم القرين التي تسد عن الوحدة، وترزق الولد وتقوم على تربيته، وتدبر المنزل وتحيط زوجها بما يحتاج الرجل إليه من الرحمة والبر والحنان، وكان خالد يترحم على أمه، ويسأل نفسه: فيم كانت تتحدث إليه بهذه الأحاديث؟ ألم تكن تكره هذا الزواج، وتُشفق على ابنها من قبح زوجه؟! ثم يأبى خالد أن يتعمق هذه الخواطر، وإنما يسرع إلى المصحف فيقرأ فيه سورًا من القرآن يهب ثوابها لأمه، ثم يقبل على زوجه رفيقًا بها عطوفًا عليها حتى ينسيها أو يكاد ينسيها ما يمزق قلبها من الألم، وكذلك عاد خالد إلى المدينة، وترك امرأته عند أبويها وقد ظن أنها راضية، واعتقد أنه هو راضٍ، واستيقن أنه سيلقى امرأته أحسن لقاء متى أقبل الوليد الذي ينتظرانه، وسيستأنفان حياتهما كما كانت حلوة هادئة لا يُكدر صفوها شيء. ولا يكاد يبلغ المدينة حتى يسرع إلى الشيخ فيزوره، ثم يكثر من زيارته يلتمس عنده البركة والسكينة التي ينزلها الله على القلوب، فيملؤها رحمة وعطفًا واطمئنانًا للأحداث، وعزاء عن الملمات، وثباتًا للخطوب.
وتمضي الأشهر ويأتي النبأ من القاهرة بأن نفيسة قد رزقت زوجها صبية أخرى، وأنها سمتها جلنار، فيبتهج خالد وأبوه بنعمة الله. وكان خالد يود لو رزقته امرأته غلامًا، وكان علي يود لو جاءه ابنه بغلام. ولكن الله قد أراد، وإرادة الله نافذة، والحق على المؤمنين الصادقين أن يقبلوا نعمة الله شاكرين. والشيخ ينظر ذات ليلة إلى الأب وابنه نظرة فيها كثير من سخرية وتأنيب، وهو يقول لهما: «حسنة وأنا سيدك» أليس كذلك يا عليُّ؟ أليس كذلك يا خالد؟ إن فقراء الترك يقولون هذا لأغنياء المصريين، فأما أنتما فلا تقولان هذا لغني من الناس، وإنما تقولانه للغني عن الناس وعن كل شيء. ليصومنَّ كل منكما سبعة أيام وليطعمن كل منكما أهل الحلقة في هذا الأسبوع، وليصلين كل منكما، وليدعون وليستغفرن حتى أؤذنه بأن الله قد تاب عليه، سأعرف ذلك في وجوهكما. ثم يتحول عنهما فيقيم الذكر. وقد أدى كل منهما ما أمره الشيخ بأدائه، فصام كل منهما ودعا وتصدق واستغفر الله، ولعل كلا منهما بكى واستعبر. وهما يروحان على الشيخ في كل يوم، فينظر الشيخ في وجوههما ثم يتحول عنهما لا يقول لأحد منهما شيئًا. وفي ذات يوم ينظر الشيخ إليهما وقد عرف في وجوههما الحزن والندم وقال: اجتهدا لعل الله أن يتوب عليكما. ومهما يجتهد الأب وابنه، فقد يظهر أن الله لم يتب عليهما؛ لأنهما يصومان ويصليان ويتصدقان ويدعوان وفي قلب كل منهما خاطر ضئيل، ضئيل جدًّا لا يكاد يحس: لو رزقنا الله غلامًا مكان هذه الصبية.
ثم يهبط خالد إلى القاهرة ليرى ابنته، ويرد أهله إلى المدينة. فإذا بلغ القاهرة وأُدخل إلى أهله وقُدِّمت إليه الصبية، نظر في وجهها ثم نظر في وجه امرأته، ثم جهر بقراءة آيات من القرآن يرد نفسه إلى الأمن وقلبه إلى الاطمئنان؛ ويمسك نفسه أن تخرج عن طهورها؛ فقد رأى ويا نُكر ما رأى! رأى ابنته الثانية صورة مطابقة لأمها أشد المطابقة، وقد تكلف الاستبشار والرضا. وأحسَّت منه زوجه ما أحسَّت، فلم تُظهر شيئًا. ثم خلا إليه حموه، فقال: أصبر نفسك على ما تكره يا بني، فإن الله يمتحن عباده المؤمنين بالصبر. وأُقسم لقد نهيتُ أباك عن تزويجك من ابنتي فإنها لم تخلق للزواج. وأقسم يا بني لقد رحمتك وأشفقت عليك وتحدثت إلى أبيك في ذلك، ولكن لله أمرًا هو منفذه وحكمة هو بالغها.
قال خالد وقد ثاب إلى عقله كله وقلبه كله: فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. علامَ أصبر وفيم أُمتحن وما رأيت منك ولا من زوجي إلا خيرًا، وما أنكرتُ شيئًا وما ينبغي أن أُنكر شيئًا؟! أفترى نفيسة قد شكت إليك بعض قسوتي عليها في الدعابة والمزاح؟ فإني معتذر إليك وتائب إلى الله من هذا الإثم العظيم.
قال عبد الرحمن وهو يقبِّل ختنه: لا والله يا بني ما شكت إليَّ نفيسة شيئًا، وما علمتك إلا برًّا كريمًا وابن أخٍ برٍّ كريم. ومنذ ذلك اليوم أنزل الله السكينة على قلب خالد، فثاب إلى أهله وابنتيه كأحسن ما يثوب الزوج الصالح والأب العطوف.