الفصل التاسع
عاد علي وابنه من القاهرة بعد أسابيع وفي نفس كل منهما بقية من حزنٍ عميق لم تمحها الأيام، ولكن نسجت عليها حجابًا أخذ يزداد صفاقة وكثافة من يوم إلى يوم، حتى أُنسي علي أو كاد ينسى نفيسة، لولا أنه كان يرى خالدًا، ويذكر أنه يعيش عيشة الفتى الأعزب، فيرثي له ويفكر في مستقبل أمره تفكيرًا قصيرًا، لولا أن الشيطان كان يخيل إليه بين حين وحين أن ثروة عبد الرحمن صائرة إليه يومًا ما، فمضاعفة ثروته، ومُصلِحة من أمره ما يحتاج إلى الإصلاح؛ فقد كثر نساؤه، وأخذ ولده يكثرون، وأخذت النفقة تزداد وتثقل أعباؤها، وأخذت الحاجات تكثر وتتنوع وتتعقد، وتجارة علي رابحة من غير شك، ولكن ربحها يذوب في هذه الأسرة الكبيرة كما يذوب الملح في الماء.
وإنَّ العام ليتم دورته، ويبحث علي عما بقي له من ربحه فلا يجد شيئًا. ولعله أن يجد رأس المال وقد تحيف منه قليلًا أو كثيرًا، فيضيق بذلك يومًا أو يومين، ويغتمُّ له ليلة أو ليلتين، ولكنه لا يلبث أن ينصرف عن ضيقه وغمِّه إلى حياته هذه المطردة المضطربة: تجارة أول النهار، ولغو آخره، وراحة بين ذلك، وسهر عند الشيخ إذا كان الليل، ثمَّ العودة إلى داره ليقضي بقية الليل عند هذه أو تلك من نسائه، يسمع منها أبغض ما يسمع الرجل من امرأته: شكاة من هذه، ونعيًا على تلك، وعيبًا للثالثة وثناء على نفسها، ثم إلحاحًا في التسوية بينها وبين ضرائرها؛ فقد أهدى إلى هذه ما لم يُهْدِ إليها مثله، وزعمت تلك أنه ترك لها من النقد كذا وكذا درهمًا على حين أنه يبيت عندها ولا يترك لها شيئًا، وإنها لتلتمس المليمات تشتري بها الحلوى لصبيها البائس فلا تجدها، فيظل ابنها محرومًا ينظر إلى أبناء الضرائر وهم فرحون بما في أيديهم من الحلوى وما في جيوبهم من ألوان النقل. وعلى هذا النحو تنغص عليه ليلته حتى ينتظر الصبح أشد ما يكون إليه شوقًا. فإذا سمع صوت المؤذن أسرع إلى وضوئه وصلاته، يظنُّ أن التقوى هي التي تدفعه إليهما، وما كان يدفعه إليهما إلا الهرب من هذه الحياة البغيضة، ومن هذا الليل الطويل الثقيل، ولم يكن علي يجد الراحة والنعيم إلا في ليلة أم خالد حين يخلو إلى نفسه وإلى ذكرى زوجه الكريمة، فيمتلئ قلبه حبًّا وحنانًا، ثم يسرع إلى ذكر الله وتلاوة القرآن ليهدي إلى هذه الزوج الصالحة شيئًا من ثواب الآخرة بعد أن لم يستطع أن يهدي إليها شيئًا من نعيم الدنيا. رحم الله أم خالد؛ لقد كانت برَّة به عطوفًا عليه، لم تخالف عن أمره قطُّ، ولم تسؤه في نفسه قطُّ، لم تؤذه بقول ولا عمل، لم يَرَ منها إلا خيرًا منذ لقيها إلى أن فارقها. كانت مباركة لم يحس في أيامها ضيقًا ولا ضنكًا، وإنما كان المال يتدفق في متجره، والخير يتدفق في داره، وكانت حياته بين حبها له ورضا الشيخ عنه ونمو ابنه خالد مشرقًا باسمًا فرحًا مرحًا، نعيمًا متصلًا. أين هو من هذا النعيم؛ أيجده عند زينب هذه التي تقدمت بها السن حتى أخذ وجهها يكلح وتظهر فيه التجاعيد، وهي مع ذلك تتجمل وتتدلل وتتكلف ما يتكلفه النساء الحسان؛ وما الذي يعجبه من زينب هذه؛ وما الذي يكرهه على أن يمسكها في داره! لقد تزوجها في آخر شبابها، فلم ترزقه ولدًا، ولم ير عندها خيرًا، بل لم ير عندها إلَّا سوء الخلق، وإلا هذه الغيرة الطارئة التي أدخلتها في قلب زوجيه الأخريين. لقد كان مستمتعًا بشيء من هدوء قبل أن يتخذ هذه الزوجة الثالثة، وما له لا يكتفي بزوجين اثنتين! رحم الله تلك الأيام التي كان يكتفي فيها بأم خالد. ولكن أم خالد! وكيف يقاس إليها النساء؛ ثم يصبح وقد استقر رأيه على أن يُفارق زينب، فهو يلتمس لذلك الأسباب والعلل. وأي شيء أيسر من ذلك؛ يكفي أن تلقاه متجهمة تحسب تجهمها دلالًا، متنكرة تحسب تنكرها تيهًا، يكفي أن يدعوها فتبطئ في الجواب، وإذا هو ثائر فائر، يُلقي في وجهها كلمة الطلاق، ثمَّ يفرُّ من بين يديها مسرعًا فيتنفس ملء رئتيه، ويأوي إلى غرفة أم خالد على مصلاه يستغفر الله ويتلو القرآن.
كذلك كانت حياة علي زواج وطلاق، وطلاق وزواج، واحتمال لما يقتضيه ذلك من نفقات، واحتمال لما تقتضيه كثرة الولد من نفقات أيضًا، وإهمال لهؤلاء الولد الذين يكثرون من يوم إلى يوم، إهمال مصدره كثرتهم من جهة، وتنافس أمهاتهم من جهة أخرى، وانصرافه إلى تجارته ولغوه وعبادته من جهة ثالثة، وقد أهمل تربية خالد حين كان خالد وحيدًا، حتى كاد يفسد ويدركه الانجذاب لولا لطف الله وكرامة الشيخ، وهنا يستعرض أمر خالد وزواجه وكل هذه المأساة، فيحزن لها شيئًا، ثم يذكر عبد الرحمن وثروته فتمر على ثغره ابتسامة ينكرها، ولكنه يستعذبها على كل حال. وممَّا زاد حياة علي تعقدًا وارتباكًا وأكثر فيها الهمَّ والحزن أنَّ تجارته أخذت تفتر شيئًا فشيئًا على مر الأشهر والأعوام. لم يفطن لأسباب ذلك أول الأمر، وإنما ضاق به وشكا منه. وحاول أن يطبَّ له فلم يفلح. ثم أصبح ذات يوم وقد كُشِفَ عنه الغطاء، وإذا هو يرى نكرًا من الأمر يملأ قلبه خوفًا، ثم لا يلبث أن يملأ قلبه يأسًا، هذه المتاجر الجديدة التي أخذت تنشأ في المدينة على غفلة من أهلها لا يدرون كيف جاءت إليهم، ولا كيف استقرَّت فيهم، وإنَّما هو بناء يقام لا يعرف أهل المدينة من يقيمه ولا لمن يُقام، ثم ينظرون فإذا عمارة فخمة ضخمة قد ارتفعت شاهقة في السماء ممتدة في الفضاء، وقد أقبل عليها قوم غرباء جاءوا من القاهرة، فملئوها بضائع وعروضًا، وأحاطوها بألوان من الزينة والبهجة تدعو الناس وتغريهم بها، وإذا هم ينظرون ثم يقفون ثم يدخلون ويخرجون بعد ذلك، وقد تركوا ما كان معهم من نقد، وحملوا من السلع والعروض أشياء حُزِمتْ لهم حزمًا حسنًا ليس مألوفًا في هذه المتاجر القديمة التي توارثها الأبناء عن الآباء، وأغرب من هذا أنَّ هذه المتاجر التي أخرجها الشيطان من الأرض لا تقتصر على لونٍ بعينه من البضائع أو ضرب بعينه من السلع، وإنما هي تبيع كل شيء. متجر واحد يعدل جميع متاجر المدينة، أي غرابة في أن يفتن الناس بهذا الجديد ويتهالكوا عليه ينفقون فيه أموالهم ويقتضون منه حاجاتهم؛ فأما علي وأصحابه ومتاجرهم هذه القديمة القذرة المهملة النائمة، فعليهم وعليها العفاء.
كذلك أحسَّ ذات يوم أنَّه لن يستطيع أن يثبت لهذه الشياطين الجديدة التي هبطت على المدينة لتفقر أغنياءها وتُذِل أعزَّاءها، وتأخذ ما فيها من مال، فتحمله إلى شياطين أخرى تُقيم في القاهرة أو في مدينة أخرى غير القاهرة، وقد تحدَّث علي بذلك إلى بعض أصحابه التُّجار، فإذا هم يرون مثل ما يرى، ويجدون مثل ما يجد، ثم لا يملكون، كما أنه لا يملك، إلا أن يضربوا يدًا بيد ويقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم سعوا إلى شيخهم، وتحدثوا إليه في ذلك، فإذا هو يرى مثل ما يرون، ويجد مثل ما يجدون، ويقول كما كانوا يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم يحدثهم عن أشراط الساعة، ويذكرهم بأيام الله، ويعظهم فيبغِّض إليهم الغنى ويحبب إليهم الفقر، ويؤكد لهم أن أكثر أهل الجنة من الفقراء، وأنَّ أكثر أهل النار من الأغنياء الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
وكذلك عملت حياة علي في ماله وتجارته، وعملت في ماله وتجارته هذه الشياطين التي انقضَّت على المدينة كأنها الجراد، وإذا إحساسه بالضيق يكثر ويشتد، وإذا هو يُقصِّر مع بعض عملائه في القاهرة، فلا يؤدي إليهم حقوقهم في إبَّانها، وإذا هو مضطر إلى أن يتخفف من بعض ما اختزن من العروض يبيعها بثمن بخس ليؤدي بعض ما عليه من دين، وقد خطر له ذات ليلة وهو قاصد إلى غرفة أم خالد أن يهبط إلى القاهرة ليرى عبد الرحمن، فيعلم علمه، ويسأل عن نفيسة وابنتيها؛ فقد أهملهن منذ زمن طويل، ومن يدري، لعله أن يجرؤ فيلتمس عند صهره شيئًا من معونة، فلما انتهى إلى غرفة أم خالد جلس على مصلاه، فدعا واستغفر وصلى وتلا القرآن واستخار الله، ولم يهمل بعد أن صلى الصبح أن يقرأ سورة «يس» سبع مرات يعقبها في كل مرة بدعائها المعروف. فلمَّا فرغ من ذلك غفا غفوة ثم استفاق، وإذا محمود يحمل إليه كسرة من خبز جاف، وشيئًا من ملح، وكأسين من قهوة، فطعم وشرب وحمد الله، ونهض وهو مستيقن أنَّ الله قد عزم له على الرشد، ومزمع أن يسافر إذا كان الغد، وقد أنفق نهاره في الاستعداد لهذا السفر؛ فلم يكن بد من أن يحمل إلى نفيسة وابنتيها ما يسرهن، والله يعلم كيف احتال في ذلك وجدَّ في الحيلة، ولكنه سافر من الغد كما تعود أن يُسافر موفورًا كثير المتاع، وقد استخلف ابنه خالدًا على داره ومتجره، فلما وصل إلى القاهرة وانتهى إلى دار عبد الرحمن لم يُنكر شيئًا أول الأمر، فقد لقيه صديقه الشيخ باسمًا وقورًا مُرحبًا، ولقيته أم نفيسة باسمة عن ثغر محطم في وجه مربدٍّ قد عبثت به السنون، ولقيته نفيسة هادئة مطمئنة راضية، فأما الصبيتان فقد نمتا نموًّا حسنًا، فازدادت إحداهما جمالًا، وازدادت الأخرى قبحًا، ولكن عليًّا لم ينفق مع صديقه الشيخ يومًا وبعض يوم حتى أنكر كل شيء، وإذا هو يلعن الأيام في القاهرة كما كان يلعنها في المدينة، فقد تعرضت تجارة صاحبه في العاصمة لمثل ما تعرضت له تجارته في الإقليم؛ لا لأن صاحبه استكثر من النساء والولد فكثرت نفقته وثقلت أعباؤه؛ فقد كان عبد الرحمن صاحب نسك وقناعة وزهد في الدنيا، بل لأن القاهرة امتلأت بهذه الشياطين التي أقبلت على مصر تغزوها منذ أعوام فأفسدت فيها كل شيء.
قال عبد الرحمن: ولست أدري ما الذي سلط علينا هذه الشياطين؛ فقد كنا آمنين وادعين موفورين، ثم أصبحنا ذات يوم وإذا الشر يأخذنا من جميع أقطارنا، شياطين يأتوننا من يونان، وشياطين يأتوننا من إيطاليا، وشياطين يأتوننا من فرنسا، وشياطين يأتوننا من بلاد الإنجليز. صدقني يا أبا خالد إن الله قد غضب علينا، وقد بحثت كثيرًا عن أسباب هذا الغضب، فالله لا يغضب على الناس لغير سبب، وإنما هو قد عودهم أن يحسن إليهم تفضلًا منه، وألا يغضب عليهم حتى يستوجبوا غضبه بمنكر يأتونه، أو ذنب يقترفونه، أو إثم يتورَّطون فيه، وقد سألت الشيوخ في الأزهر والأولياء الصالحين الذين يعكفون في المساجد، ويلوذون بمشاهد أهل البيت، فلم أجد عند أحد منهم شيئًا. ولكني غفوت ذات ليلة بعد أن صليت العشاء، فما راعني إلا شيخنا وهو يبسم لي ساخرًا، ثم يدنو مني فيمسح على رأسي ويتلو هذه الآية الكريمة: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، ثم ينأى عني قليلًا قليلًا وهو يقول: اتبعني أبا صالح فإني سأفر بنفسي وديني من هذه القرية الظالم أهلها، وقد أفقت مذعورًا، ولم أستطع منذ تلك الليلة أن أقنع نفسي بأني لم أرَ إلا حلمًا، وإنما استقر في قلبي أن الشيخ منتقل إلى رضوان الله، وأني لن ألبث بعده إلا قليلًا، ولقد أقبلت أبا خالد وأنا أحدث نفسي بالسفر لأزوركم وأحدث عهدًا بالشيخ، فمن يدري! لعله الوداع.
قال عليٌّ وصوته يرتجف: هون عليك! فإنك لم تر إلا حلمًا، وقد تركت الشيخ على أحسن ما عهدته قوةً ونشاطًا، وقد حمَّلني تحية إليك ودعاء لك، ولكنه دعاني حين انصرفت عنه بعد وداعه، فأسرَّ إليَّ أنه هابط إلى القاهرة؛ فقد طال عهده بأهل البيت، ثم قال في ابتسامة ما رأيت قط أعذب منها، لقد كانت شفتاه كأنما تنفرجان عن نور قال: أبلغْ عبد الرحمن أنَّا سنكون له ضيفًا.
هنالك لم يملك عبد الرحمن نفسه أن قال بأعلى صوته: الله اكبر! الشيخ ضيفي! ثم أهوى إلى صديقه فقبل رأسه وهو يقول وفي عينه دمعتان تترقرقان: ويحك أبا خالد! لم أخرت عليَّ هذا النبأ السعيد؟!
ومهما يكن من شيء فقد سافر علي إلى القاهرة وفي قلبه شيء من حزن وشيء من أمل، وعاد إلى المدينة وفي قلبه كثير من الحزن وكثير من اليأس، إلا من روْح الله، ولكنه قال لصديقه وهو يودعه: سأعود إليك بعد حين؛ فما ينبغي أن أتخلف عن مصاحبة الشيخ، ولا بدَّ من أن نزور معه أهل البيت.