ولكني سعيد
القطار عنيف الاهتزاز شديد القذارة، لم أجد غيره ليقلَّني من الزقازيق إلى بنها لآخذ قطارًا آخر إلى الإسكندرية، وكنت خليقًا أن أضيق بالقذارة الشديدة التي تُضفيها المصلحة على القطار، وكنت جديرًا أن أزداد ضيقًا بالمحطات الكثيرة المتلاحقة التي يقف بها القطار، وكنت خليقًا أن أضيق بالمشوار جميعه، فما كان حبيبًا إلى نفسي أن أذهب إلى الزقازيق في نفس اليوم الذي لا بد فيه أن أعود إلى الإسكندرية؛ فإني أحب حين أذهب إلى البلد أن ألغي الزمن فلا أنظر في الساعة إلا عند اليقظة أو عند النوم، وأنا في مشواري هذا لم أطعم نومًا؛ وبالتالي لم تكن هناك يقظة، ولم تكن الأشياء التي تلقيتها في البلدة سعيدة، ومن أين تأتيها السعادة؛ الدودة تلتهم أشجار القطن، والمحصول لا يبشر بخير، والناس لا تستطيع أن تدفع ما عليها، والحالة المالية تزداد ضيقًا؛ ولكني سعيد.
وقبل أن أسافر لقيت صديقًا ظل معي حتى ركبت القطار، وقد ظل يحدثني ما يقرب من نصف الساعة، فقص عليَّ ما يشقى به من ضيق العيش وكثرة العيال، فحمَّلني من الأحزان ما أنا عنه في غنًى؛ ولكني سعيد.
والعقد الذي كان من المفروض أن أوقِّعه لأكسب منه مالًا، لم يعد في الإمكان توقيعه، وطار ما كنت أتوقع من مبالغ، وأصبحت الأشهر القادمة شهورًا يخيم عليها القلق والذعر والمصير المجهول، ولكني سعيد. كيف تملأ نفسي هذه السعادة والقلق يهددني؟ ما هي حقيقة السعادة؟ أليست هي شعوري بها، ولا يهم من بعدُ إن كانت تقوم على أسباب منطقية أو لا تقوم؛ المهم هو شعوري أنا بالسعادة، وعبثٌ بعد ذلك كل شيء، كل شيء؟
ذلك الرجل لماذا يصر على أن يعرف الغد؛ كان غنيًّا واسع الغنى، وكان يستطيع أن يصنع بماله الغد الذي يريد، ولكنه لم يكن يريد شيئًا في الحياة إلا أن يعرف الغد؛ كلما سمع عن رجل يكشف مغاليق الغيب تعقَّبه حيثما يكون؛ ويقول المطلع على الغيب، ويسمع المشوق إلى الغيب.
وحين يعود إلى الحياة يُمضي أيامه في انتظار ما قاله المنجِّم، فما أسرع ما تكذبه الأيام، ويعود الشاب إلى البحث وتعود الحياة إلى تكذيب المنجمين.
سمع أن في الهند رجلًا لا يخطئ طريقه إلى الغيب، يراه كأنما هو جزء من ماضيه، والرغبة مجنونة، والمال كثير؛ وسافر الشاب إلى الهند؛ بلد الروحانيات والأديان وإذلال الجسد وشموخ الروح، وما أسرع ما عثر على الرجل!
– شاب أنت غني!
– لا يقصد إليك من آخر الأرض إلا شاب وغني، لا بد أن تسعفه الصحة ويسعفه المال حتى يصل إليك.
– بحثت عن الغيب طوال حياتك.
– ولا جديد في هذا أيضًا. إن قدومي إليك وحده يستطيع أن يوحي إليك بهذا.
– لم تعرف الغيب؟
– لو كنت عرفته ما جئت.
– أمصرٌّ أنت أن تعرفه؟
– أتريد دليلًا على إصراري أكبر من وجودي أمامك الآن؟
– إذن فاسمع؛ إنك ستتزوج فور عودتك من هنا فتاة تعرفها من سنوات، وستنجب أربعة أولاد ليس بينهم إناث، وستنمو ثروتك بشكل خيالي، أنت تعمل في أعمال كثيرة ستنجح فيها جميعًا، أنا لم أرَ في حياتي مستقبلًا كمستقبلك؛ إن طريقك جميعه مفروش برغباتك، إنما عليك أن تأمر فيطيع الدهر، لست أدري ما حرصك على أن تعرف مستقبلك؟! إنما يبحث عن المستقبل من يسود القلق حياتهم، أي قلق يعتريك؟
– لا قلق.
– فلماذا تبحث عن الغيب؟
– أريد أن أعرفه.
– أعرفته الآن؟
– لقد قلتَ ما رأيتَه.
– وماذا تريد بعدُ؟
– أن يتحقق ما تقول.
– سيتحقق.
– أرجو.
– سيتحقق.
وعاد الشاب إلى بلاده.
عجيب، أيُّ جديد يجده في السكرتيرة؟ إنها هي هي لم تتغير ولكنها مع ذلك تغيرت تغيرًا تامًّا؛ فقد أصبح ينظر إليها نظرات جديدة، إنها تتمثل أمام عينيه امرأة، وكانت تتمثل أمام عينيه سكرتيرة، أيكون ذلك الرجل الهندي قد أوحى إليَّ أن أتزوج؛ فأنا أتزوج ولا أحاول أن أتعب نفسي في البحث فهي معي، أيكون الأمر كذلك؟ ولكن أهو أول منجم رأى المستقبل له؟ واحدة من اثنتين: إما أن أكون واقعًا تحت تأثير المنجم، وإما أن يكون المنجم صادقًا فيما قال.
– إن فيكِ شيئًا جديدًا.
– بل لا جديد.
– فلا بد أن فيَّ شيئَا جديدًا.
– أنا لا أراه.
– نظرتي إليكِ.
– هل تغيرت؟
– إني أحبكِ.
– هذا جديد لا شك.
وكان الزواج.
وراحت أعمال الشاب تزدهر بشكل لم يسبق له مثيل، وسارت الأيام تخدم ما يهفو إليه، ونجح في أعماله، وبلغ من المناصب ما لم يحلم به.
وراح يقول في نفسه: كل هذا يمكن أن يتحقق دون أن يكون الرجل صادقًا؛ فأنا غني، ويمكن أن تنجح أعمالي، ويمكن أن أصل من المناصب إلى أرفعها شأنًا وأعلاها منزلة؛ كل هذا ممكن، ممكن.
وبدأت الزوجة تهب له الأطفال، كان الأول طفلًا والثاني طفلًا؛ إذن فالرجل صادق، إذن فأنا أعرف مستقبلي جميعه، أي لذة للحياة بعد؟ لا أريد هذه الحياة، لا، لا أريدها، سأرزق بطفلين آخرين، ويستمر نجاحي إلى أن أموت، كم هي سخيفة هذه الحياة! أم تراني أنا السخيف لأني لم أرضَ الحياة لغزًا مستخفيًا فرحت أستبق المستقبل قبل أن يجيء، وأشق الغيب عن أسراره حتى أعرفها، ثم ماذا بعدُ؟ حياة قاتلة راكدة ميتة، ولدان آخران سيأتيان، ويرث الجميع ثروتي.
ولكن.
وماذا؟
وكيف؟
ولماذا؟
حتى أجدد هذه الحياة، حياتي.
حتى أحطم هذا الذي قاله المنجم، أيظن أنه عرف الغيب حقيقة؟ إنه لا يستطيع، لا يستطيع.
إنه لا يعرف هذا الذي انتويت أن أفعله، وسأفعله، لا شيء يردني عما أريد، كلما فكرت، كما ازددت عزمًا.
لا بد، لا بد.
وفي الصباح وجدوا جثة الشاب الغني الناجح الذي عرف مستقبله هامدة على سرير من حرير، ومن ريش النعام.
ما الذي جعلني أذكر هذا؟ دعني أرجع إلى ما كنت أقوله قبل أن أبدأ هذه القصة؛ كنت أقول إنني سعيد، وكنت لا أعرف لماذا أنا سعيد، يبدو أنني أعرف الآن لماذا أنا سعيد.