ثمن المشروب
مهيب هو الشيخ حمدان؛ طويل فارع الطول، في وجهه صلاح، وفي سمته تقوى، وفي مشيته جلال، وفي لحيته خشية، وفي جبهته علامة الصلاة. أنت لا تعرف مدى التوقير الذي يحظى به الشيخ حمدان في قريته ميت ريحان من أعمال مركز الدلجمون التابع لمحافظة الدقهلية. والأطفال في القرية يعظمون الشيخ حمدان، فإذا مر بهم وكانوا يلعبون الحكشة توقفوا عن اللعب مخافة أن تضرب الكرة في رأس الشيخ حمدان أو عمامته، وإذا مر بهم وكانوا يتصايحون تخافتت أصواتهم. وإذا مر بهم وكانوا جلوسًا وقفوا، فهكذا يرون كبارهم يفعلون. والنساء في القرية يحطن الشيخ حمدان بآيات لا حصر لها من الإجلال؛ فهو عندهم رجل القرية الأول، إليه يلجئون في الملمات الكبرى من حياتهم؛ فإذا أغضب زوج زوجته لا تجد قدمَا الزوجة طريقًا تسير فيه إلا الطريق الذي يقود إلى بيت الشيخ حمدان، وإذا قست حماة على زوجة ابنها لجأت الزوجة المجني عليها إلى الشيخ الجليل. وإذا استطالت زوجة على حماتها فالحماة لا تشكو الزوجة إلى ابنها وإنما هي تشكوها إلى الشيخ حمدان.
ورجال القرية جميعًا لا يعرفون ملاذًا لهم إلا الشيخ حمدان؛ فإن نضب الماء فالشيخ حمدان، وإن عدا جار على جار فالشيخ حمدان، وإن عتا موظف فظلم فالشيخ حمدان، بل العمدة نفسه يلجأ إلى الشيخ حمدان كلما استعظم عليه أمر أو تعقدت أمامه مشكلة. الشيخ حمدان على صلة وثيقة بأهل الحل والربط؛ فهو يعرف مأمور المركز، وبلغ به الشأن أنه عرف في يوم ما الحكمدار، وهو يعرف أطباء المستشفى، ووكلاء النيابة، ومفتش الصحة، ومعاوني الزراعة.
نعم أعرفهم جميعًا ولكن ماذا يعود عليَّ من معرفتهم؟! بل ماذا يعود عليَّ من هذا الاحترام وهذا التوقير؟! سجن فظيع من الاحترام هذا الذي يحيطونني به، لا أريده، لا، لا أريده، ولكن هل أستطيع أن أرفضه؟ كيف أقول للناس لا تحترموني؟ لا أستطيع، إنني أمثِّل عندهم أملًا دائمًا. إنهم إذا ألمَّ بهم ضيق ذكروني فينفرج الضيق، ماذا أقول لهم؟ أنا لا أحب هذا التوقير الذي يحرمونني به، ولا أطيق منه فكاكًا في الوقت ذاته. أنا في القرية أسير احترامهم، سجين تكريمهم، حبيس آمالهم، ولكني أيضًا إنسان لي آمالي وأحلامي ولي صبواتي ومزاجي، لم يكن لي بُد إذن من هذا الذي أفعله. لا يهمني شي ما دمت بعيدًا عن عيونهم وعن علمهم، نعم في المدينة، في المنصورة ألتقي هناك بصديقي عمران السيد يهيئ لي الليلة الحمراء، الكأس الحلوة، تحيطه كل ما تهفو إليه نفسي من جلسة ممتعة وحديث. ثم هو يهيئ أن ألعب الورق، أنت تعرف طبعًا أنني ألعب الورق منذ كنت أتلقى علومي بالقاهرة، ظريف صديقي عمران، وهو كتوم للسر لا يذيعه، فما يعرف من أمري أحد في القرية، رغم أن عمران كثيرًا ما يأتي لزيارتي في القرية، وهو أمام البلدة من ذوي النفوذ الذين ألجأ إليهم إذا حزب أمر أو استعصت مشكلة، وهو في اختياره لزملاء الورق حريص كل الحرص؛ فهم قلة لا تزيد على اثنين هو ثالثهم، أو ثلاثة هو رابعهم. ونشرب ونلعب حتى يشق الفجر أسداف الظلام فأعود إلى القرية فما يشك أهلها لحظة في أنني ركبت السيارة عقب صلاة الفجر مباشرة.
لا أستطيع أن أظل سجين آمال أهل القرية، ثم إنني بما أتيحه لنفسي من متعة أستطيع أن أحل لهم مشاكلهم، فلولا هذه المتعة ما صفا ذهني ولا أصبحت نفسي سمحة كريمة تسمع لهم فتطيل الاستماع، وتُصغي فتحسن الإصغاء في غير ضيق ولا ضجر، إن الكئوس التي أشربها من أجلهم هم، وما أنا؟ ألست أملهم، حلمهم، وفرجهم عند الضيق، وبُشراهم عند الشدة، ولكن ما هذا الحديث الذي تسوقه، ماذا تريد أن تقص؟
الشيخ لا يعرف ما أريد أن أقص عليك، ولكن سيعرف عما قريب فلا تعجل عليه، لنترك الشيخ قليلًا ونلقِ نظرة على عمران، فهو شريك الشيخ في قصتنا. عمران السيد موظف بمصلحة الطب الشرعي بالدقهلية، وهو من أسرة أغلب أفرادها على ثراء، وإن كان هو بريئًا من هذا الثراء، كان يملك فدانين وثمانية قراريط باعها جميعًا واكتفى من الحياة بمرتبه وما يكسبه من القمار، وعمران رجل وجيه يحب أن يصادق الأثرياء ذوي الوجاهة ويحب أن يقترن اسمه بالأعيان وأصحاب الشأن. والغريب أنه استطاع أن يصل إلى هدفه هذا مع الفقر المدقع الذي يعيش فيه.
فعمران حريص دائمًا على أن يرتدي حُلة نظيفة وقميصًا ورباط عنق أنيقًا ما وسعته الأناقة. ولم يكن وسعه في الأناقة كبيرًا. وعمران متزوج وذو أولاد، ولكن الأسرة لم تكن تكلفه من أمره شيئًا؛ فمرتبه جميعًا لمزاجه، والأولاد ترعاهم أمهم بالمرتب الذي تتقاضاه من وظيفتها ولكن إذا مرض طفل لهما لم يكن عمران في هذه الحالة يستطيع أن يمنع قلبه من هذا النبض العنيف، ولا كان يستطيع أن يرد عن نفسه هذه الغصة التي تعتصر المشاعر جميعها. حينئذٍ كان يبذل ما يستطيع من مال، ربك هو الذي يستر. آخر جنيه معي دفعته ثمنًا للدواء وقعدت في القهوة لا أملك مليمًا، وكنت أعرف أن زوجتي قد أنفقت ما معها جميعًا على مرض ابننا محمود. فالبيت — والحمد لله — ليس فيه مليم، وجيبي أكثر فقرًا من بيتي، وأنا في المقهى على الحميد المجيد لا أملك شيئًا، نعم أستطيع أن أطلب فنجان القهوة، فهو على الحساب. بل أستطيع — إن شئت — أن أطلب كأس كونياك فهو على الحساب أيضًا. ولكني لا أستطيع أن أشتري سيجارة؛ فالسجائر ليست على الحساب، وفجأة أقبل الشيخ حمدان فذعرت؛ فأنا لا أقبل أبدًا أن يطلب لي أحد شيئًا ولا أرده له. وأنا أعرف أن الشيخ حمدان يحب أن يشرب في هذا المقهى كأسين أو ثلاثة من الكونياك في هذه الحجرة البعيدة عن الأنظار. ومعنى هذا أنني سأضطر أن أشتري له من الكونياك قدر ما يشتري لي، هكذا خلقت، مهما يكن الفقر الذي أعانيه لا أقبل أبدًا بحال من الأحوال أن يأتي لي أحد بمشروب — مهما يكن ثمنه غاليًا — ولا أرده له.
جاء الشيخ حمدان وحيَّا.
– لماذا تجلس هنا؟
– وأين تريدني أن أجلس؟
– ألا تعرف؟
– آه تقصد الحجرة؟
– فهمتني.
– الدنيا حر، اقعد هنا قليلًا في الهواء.
– أي هواء يا شيخ؟! قم إلى الغرفة الداخلية، الهواء فيها أحسن.
– الهواء أم الكونياك؟
– اسكت لا تفضحني.
– يا عم الشيخ حمدان اقعد وصلِّ على النبي.
– اللهم صلِّ عليك يا نبي، وهل تظن أنني جئت من ميت ريحان لأجلس في الهواء؟! إن كان عن الهواء فهواء ميت ريحان أحسن من هنا ألف مرة.
– ولماذا لا تشرب هذا المدعوق في ميت ريحان وتخلصنا؟
– هل جننت؟! ألا تعرف ماذا أنا هناك؟
– أعرف، أعرف.
– قم يا أخي إذن ولا تُطِل.
وقمت ودخلنا إلى الغرفة وأنا أدعو الله ألا يطلب الشيخ ريحان أكثر من كأس أو كأسين، ولكن المصيبة أن نهمه للخمر في هذا اليوم كان لا نهاية له، ولذلك توقفت أنا عن الكأس الثالثة وتركته هو يكمل وحده، وشرب وشرب، وراح يتكلم وأنا أفكر في جيبي الخاوي، يا أخي فعلًا ربك هو الذي يستر.
– هل جئت خصيصًا من أجل الشرب؟
– لا، كان عندي شغلة، إنما قل لي، هل سنلعب الليلة؟
– نلعب؟
– نعم، نلعب.
هي فرصة فعلًا أستطيع أن أستلف من الشيخ حمدان جنيهًا أو اثنين ألعب بهما وأداري الفقر الذي أعانيه.
– نعم، نلعب ولماذا لا؟
– هيا بنا.
– إلى أين؟
– نلعب.
– الآن؟
– وما عيب الآن؟
– لم يحن الوقت.
– ننتظر إذن؟
– طبعًا ننتظر. هل معك نقود؟
– كثيرة.
– كثيرة؟
– لا أعرف عددها.
– لا تعرف عددها؟
– وشرفك لا أعرف عددها.
– كيف؟
بعت ذرة وبعت أرزًا وكان معي مبلغ كبير لا أذكر كم. ووضعت الفلوس على بعضها البعض ولم أعد، الله يسترك يا عمران عد الفلوس لأنني أصبحت لا أستطيع العد.
ألم أقل لك ربك هو الذي يستر، أخرج من جيوبه ما فيها من جنيهات ورحت أعد، الرجل سكران وهو لا يعرف ماذا في جيبه، وهو سيلعب الورق. أين أجد فرصة مثل هذه في العمر كله؟! كان المبلغ أربعمائة وأربعة وسبعين جنيهًا، صحَّحت المبلغ، جعلته أربعمائة وأرجعته له، وناديت خادم المقهى ودفعت له ثمن الكونياك الذي طلبته؛ فأنت تعرف طبعًا أنني لا أقبل مطلقًا أن يشتري لي أحد مشروبًا ولا أرده له.
أهذه هي الحكاية التي تريد أن تحكيها؟ لقد عرفت جزءًا منها ولم تعرف البقية، ألها بقية يا عم الشيخ؟ لا بد أن تعرف البقية.
ذهبنا في هذه الليلة ولعبنا حتى أوشك الصبح أن يطلع، فقمت إلى السيارة وأخذتها إلى ميت ريحان، ونمت ليلتي، وفي الصباح عنَّ لي أن أعد فلوسي؛ فأنا أعرف أن المبلغ الذي كان في جيبي حوالي خمسين جنيهًا تنقص جنيهًا أو اثنين، وقبضت عربون الذرة مائتين وخمسة وعشرين جنيهًا وقبضت عربون الأرز مائتي جنيه، وخسرت في اللعب ثلاثين جنيهًا، فكان يجب أن يكون معي أربعمائة وخمسة وأربعين جنيهًا قد تنقص جنيهًا أو اثنين، ولكني وجدت المبلغ ثلاثمائة وسبعين جنيهًا. طبعًا عرفت أن عمران طمع في الفرق وأخذه، أتصدق بالله، لم أسأله. إنه رجل حسَّاس إذا سألته سيغضب، وإذا غضب لن أجد من يشاربني الكأس ولا من يهيئ لي اللعب، كتمت الأمر لم أقله إلا لك الآن، ولكن قل لي من أخبرك أنت؟ لعله عمران، نعم فهو دائمًا يحب أن يفخر بأنه لا يمكن أن يسمح لأحد أن يقدم له مشروبًا ولا يرده، إنه فعلًا لا بد أن يرد المشروب، رجل طيب عمران وكريم وحساس، الله يجازيه.