أختي وأنا
أنفاسي أين ذهبت؟ لماذا لا أتنفس؟ كيف استطاعت الدنيا جميعًا أن تجثم على صدري فلا أتنفس؟ وكيف لا أزال أعيش وأنا لا أتنفس؟ نعم إني أريد أن أعيش، ولكن هل تكفي هذه الإرادة حتى تجعلني أعيش دون أن ألتقط من الهواء أنفاسي؟
كيف وجدت نفسي في هذه الحجرة؟ وكيف أغلق عليَّ بابها، وأغلقت من دوني نوافذها؟ هذه النافذة الشرقية، وهذه النافذة الغربية، وهذه النافذة في الوسط بينهما، لماذا أقفلت النوافذ جميعًا فأصبحت لا أرى شيئًا، لا أرى شيئًا على الإطلاق، وإنما أسمع.
هناك ضجيج في الخارج هادر صخاب، أنا لا أدري شيئًا ولا أتنفس، لا، لن يستطيعوا أن يستلبوا عقلي أو تفكيري أو ذاكرتي، فليقفلوا الأبواب والنوافذ ما شاء جبروتهم أن يقفلوا. ولكن سأظل أفكر وسأظل أذكر.
أرى هذا البخور ينساب إلى الحجرة من خصاص النوافذ المغلقة ومن أسفل الباب المغلق، أراه ولكني لا أشمه، فأنا لا أتنفس، وما دمت لا أتنفس فأنا لا أشم، وما دمت لا أشم فالبخور لا يصل إلى عقلي، ولا يؤثر فيَّ، ولا يصل بي إلى الخدر الذي يبيِّتون لي؛ إنني مفيق، وإن كنت لا أتنفس، وسأظل مفيقًا؛ فأملي الوحيد في الحياة أن أظل مفيقًا، وإني مفيق.
إنها ليست حياتي وحدها التي أعيش لها، إن حياة أختي معلَّقة بحياتي، إذا أنا مت ماتت، وإذا أنا ضعفت لهذا الخدر الذي يطلقون عليَّ انفردوا بأختي، وويل لأختي إذا هم انفردوا بها، الموت أهون ما تلاقيه.
ليست أختي مجرد أخت؛ وإنما هي ماضيَّ وحاضري ومستقبلي. ليس لي في الحياة إلا هي، وليس لها في الحياة إلا أنا، ويكفي أن تكون مجرد أختي لأبذل في سبيلها حياتي، ولكنها أكثر من ذلك، أكثر بكثير.
إن أختي هي الأنفاس التي تتردد في كياني، هي غذائي وفكري وأملي، وليس هذا بغريب؛ فقد عرفتها وأنا لا أعرف في الوجود شيئًا، وظللت أعرفها بجانب كل الأشياء والأشخاص التي عرفتها بعد ذلك.
أعرفها كجزء من كياني، وما زالت كل كياني، لقفتني يداها وأنا أدلف إلى الحياة، وقد مات أبي وأمي تحملني، وماتت أمي وهي تلدني، ولم يبقَ لي في الحياة إلا أختي، ولم يكن لأختي حينذاك أحد، فتاة في ريق العمر، ليس لها إلا جمالها وذكاؤها المتوقد، وتحمل عبء طفل رضيع وليس له من يرضعه.
عملت، عملت في كل الأعمال، ورفضت أن تتزوج حتى تراني وقد استقام أمري، ولكن هناك شيئًا واحدًا لم تقبل أن تضحي به من أجلي.
– إنني احتفظت بها من أجلك.
– كنت تكسبين أكثر لو تنازلت عن حريتك.
– كنت أفقد كل شيء.
– وهْم.
– الوهم أن أفقدها.
– كان يمكن أن تشقِّي الحياة في يسر لو لم تتمسكي بها هذا التمسك الأعمى.
– أعتقد أنه الحق.
– والحياة.
– لا حياة بدونها.
– كنتِ تعملين؟
– العمل حرية.
– وقيود.
– حرية بلا قيود هي الفوضى.
– لقد حملت العبء ثقيلًا.
– شعوري بأني حرة جعلني أحتمله.
– وقدمت لي الحرية.
– ألم تسعد بها؟
– لست أدري.
– إنك تحاول التفلسف.
– بل أقول الحق.
– إنك تدمرني بهذا الذي تقول.
– أعتقد أنه الحق.
– إذن فعبث كل الذي بذلته من أجلك.
– إنني أعيش.
– إن كنت لا تعرف معنى ما قدمت فأنت لا تعيش.
– إنني أعيش.
– إنك تعيش لأنك تتنفس.
– كل إنسان يعيش لأنه يتنفس.
– لو تنفست ما وهبته لك ما احتجت إلى الشهيق والزفير.
– أنا لا أدري.
– كل ما في الأمر أنك لم تجد نفسك محتاجًا لتدري.
– لا أفهم.
– لم تتعرض للموقف الذي تمتحن فيه نفسك.
– أرجو ألا أتعرض.
– بل أرجو أن تتعرض.
وحين استقام مني الأمر وأصبحت قادرًا على مواجهة الحياة تقدَّم إلى أختي من يخطبها؛ رجل كبير في السن، ذو سطوة وسلطان.
– إنه كبير في السن.
– وهل يمكن أن يتزوجني إلا كبير في السن.
– ألا تخافين؟
– في كل حياة جديدة عناصر من الخوف.
– لم تتعودي.
– لا بد أن أتعود.
– ولماذا؟
– من أجلك.
– من أجلي أنا؟
– أريد أن تتجدد أنت أيضًا.
– ولكنك ستظلين أختي.
– وزوجة.
– لماذا تقولين هذا؟
– لقد عشت عمرًا طويلًا فرعًا، مجرد فرع، أريدك أن تكون أصلًا.
– لماذا؟
– لتعيش الحياة لا بد للحياة أن تعيش.
– فليعمل غيرنا على أن تعيش الحياة.
– ولماذا لا نعمل نحن؟
– لأني …
– قل.
– لأني أحبك.
– ولأني أحبك أقبل الزواج.
وذهبت إلى بيت زوجها، وبدأت حياة جديدة، وبدأت أنا أيضًا حياة جديدة، ولكنني كنت أذهب إليها في كل يوم، الأسى والحزن والألم واللوعة هي وجهها، والسعادة والهناء والبِشر والسرور هي ألفاظها.
– ما لك؟
– سعيدة.
– حقًّا؟
– ألا ترى؟
– لا، ولكني أسمع.
– ما تسمعه هو الحقيقة.
– لا بد أن أراه.
– يكفيك أن تسمع.
كنت أذهب إلى بيت أختي في مواعيد منتظمة، وكنت كلما شهدت التناقض بين ما تراه عيني وما تسمعه أذني أزداد لهفة عليها وخوفًا، وفي يوم ذهبت في غير موعدي فوجدتها في حجرة مغلقة مع زوجها، فمكثت أنتظر خروجها، وخرجت بعد وقت لم يطل.
– وبماذا تبررين هذه الدموع؟
– دموع فرح.
– دموع الفرح ليست غزيرة كهذه الدموع.
– أتعرف لها عددًا معينًا.
– دمعة واحدة أو اثنتين.
– ولكن الفرح الكبير له دموع كثيرة.
– ليست هذه دموع فرح.
لم أكن قبل ذلك أسأل زوجها عن شيء، ولكنني في ذلك اليوم …
– لماذا؟
– ماذا؟
– لماذا لا تسعدها؟
– هل شكت؟
– دون أن تتكلم.
– ليس هناك ما تشكو منه.
– لأنك تمنعها من الشكوى.
– بل لأنها لا تجد ما تشكو منه.
– لعلها لا تريد أن تزعجني.
– حين تشكو إليك اسأل.
– ولكن لماذا لا تسعدها؛ لقد وهبت لك أغلى ما ادخرته في حياتها.
– إنما أصنع كل ما أصنعه لإسعادها.
لن يفيد هذا المخدر الذي يبثونه عبر النوافذ ومن تحت الباب. فإني مفيق.
وإني أذكر، أذكر حين ذهبت إليها مرة أخرى على غير موعد فوجدت زوجها يضربها في البهو بعصًا غليظة، وهي صامتة جامدة وهو يضرب ويضرب.
ولم أفكر، ووجدت نفسي أهجم على العصا لأوقفها، وقبل أن أصل كنت هنا في هذه الغرفة.
لا أتنفس، ولكنني أعيش، إن الحياة التي في داخلي تجعلني أعيش.
إنها حياتي وحياة أختي في جسمي أنا، لا يهمني في شيء أن تقفل النوافذ جميعًا والأبواب؛ فأنا لا أحتاج لشيء فحياتي في داخلي، وإنني مفيق، إنني مفيق، إن حياتي جميعها تستمد بقاءها من أنني مفيق، وإنني مفيق.