حين يميل الميزان
لا، أنا لا أريد أن أقص عليك، ولا أريد أن أدافع عن نفسي؛ فإني أصبحت وأنا في غير حاجة للدفاع أمام أحد، لا تظن أنك من علماء النفس وتحاول أن تقول إنني أدافع عن نفسي أمام نفسي، فحتى هذا أنا لا أحتاج إليه؛ إنني أقوى من هذا جميعه، الضعفاء وحدهم هم الذين يحاولون أن يدافعوا عن أنفسهم أمام الناس أو أمام أنفسهم، وأنا لست ضعيفًا ولن أكون ضعيفًا، أنا قوي، قوي. قد تقول أنت في محاولتك المتهافتة للتحليل إنني أصبحت ظالمًا وإن الظلم غير القوة. هذر هذا الذي تقول؛ إن الظلم هو القوة، العدل الوحيد الذي أعرفه في العالم هو هذا الذي يلقِّنه الأساتذة لتلاميذهم، أما الناس في الحياة فهم إما ظالمون أو مظلومون، إذا ملكوا ما يجعلهم أقوياء فهم ظالمون، وإذا وقعوا بين أنياب من هو أقوى منهم أصبحوا مظلومين، ولماذا تطلب العدل بين الناس والعالم كله تحكمه القوة، القوة وحدها، ولا يجرؤ أحد أن يقول هذا ظلم؛ دولة تغتال أخرى، وتقول هذا هو العدل، إنما عدلها هو القوة، وهو عدل ظالم، ويعرف العالم أجمع أنه عدل ظالم، ولكن القوة تؤيده فهو عدل عادل.
أنا لا أحاول أن أدافع عن نفسي؛ فأنا قوي، لا ولا أحاول أن أبرر ما أفعله؛ فلست في حاجة إلى تبرير، لا ولا أريد أن أقص عليك شيئًا؛ فأنا لست مأجورًا لتسليتك، وإنما أنا أريد أن أتكلم، ومن مظاهر القوة الرائعة أن يتكلم القوي حين يطيب له أن يتكلم، ويسكت حين يحلو له أن يسكت، ومن مظاهر القوة أيضًا أن يسمع له الناس إذا تكلم وأن يحترموا صمته إذا صمت، تلك هي القوة، وأنا قوي، أتكلم حين أريد وأسكت حين أشاء، وعلى الناس أن يسمعوا إذا شئت حديثًا، وعليهم أيضًا ألا يسألوني حديثًا إذا لم أرد أن أقول.
حين مات أبي ترك لي ثروة لا بأس بها تستطيع أن تهيئ لي حياة ميسورة إن لم تكن حياة رغدة، لم أكن يومذاك قد بلغت سن الرشد فكان لا بد لعمي أن يصبح وصيًّا عليَّ، فأصبح، وكان عمي من هؤلاء الأقوياء الذين يطلق عليهم الضعفاء ظالمين، ولكن عمي على قوته لم يكن ذكيًّا، نعم سأقص عليك لماذا لم يكن ذكيًّا، طبعًا فهمت أنه كان يغتال أموالي، فإن كنت قد فهمت هذا فلا تظن أنك ذكي؛ فما يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء، لقد تسامعت الأجيال أن الغالبية العظمى من الأوصياء يغتالون أموال القُصَّر، كان عمي من هؤلاء الذين تسامعت عنهم الأجيال، كان يأكل أموالي، ولم يكن ذكيًّا؛ لأنه كان يجعلني دائمًا في حاجة إلى المال؛ فهو ينفق على تعليمي وينفق على ملبسي الإنفاق الذي لا يجعل الناس يتساءلون أين ذهبت أموالي، ثم هو لا يكاد يعطيني شيئًا بعد ذلك، وهنا يبدو غباؤه؛ فقد جعلني أنا أبحث الأمر في خفية منه، وعرفت، عرفت أنه لص، ولم أكن أملك الدليل، كنت أسميه في ذلك الحين لصًّا، ولكني اليوم أسميه قويًّا، كان قويًّا، وكنت أنا ضعيفًا، حتى كان يوم عثرت فيه على أوراق في مكتب عمي، كان بين هذه الأوراق إيصالات مني تحمل توقيعي، وكان توقيعي مزوَّرًا، ألم أقل لك إنه لم يكن ذكيًّا؟ أخذت الإيصالات ووضعتها في جيبي وأكملت يومي في بيت عمي كأن شيئًا لم يحدث.
كنت أرى زملائي في كلية الحقوق يلبسون أفخر الثياب، وكان بعض منهم يملك سيارة، وكانت السيارة مع هذه الملابس وسيلة رائعة للتعرف بفتيات الكلية، وقد كان التعرف بالفتيات في هذا الزمان مسألة تحتاج إلى إعداد ومعدات. أعرف زملاء لي دخلوا كلية الحقوق وخرجوا منها لم يكلموا فتاة واحدة. وكم كنت أشفق أن أكون مثل هؤلاء الزملاء، كانت أمنيتي أن أصادق فتاة من فتيات الكلية ولم تكن الوسيلة تهمني. لم يكن يهمني أن تحبني هذه الفتاة لشخصيتي أو لسيارتي أو لملبسي، إن شيئًا من هذا لا يهم. المهم، المهم الوحيد أن أتعرف بفتاة، وأقرب الفتيات إليَّ فتاة من الكلية، أنا لا أدافع عن نفسي فأنت لست قاضيًا حتى أدافع عن نفسي، ولا أنا أشعر بأنني في حاجة لأبرئ نفسي أمام نفسي، وإنما أنا أحكي لأني أريد أن أتكلم، كنت في ذلك الحين أريد أن أكون شخصًا عادلًا لا أظلم أحدًا ولا يظلمني أحد، كنت أريد أن أكون من هؤلاء الذين يسيرون على الطوار ولا يعبرون الشارع إلا من المكان المخصص لذلك، كنت أريد أن أطيع القانون بشرط واحد هو أن يحميني القانون، كذلك تعلمنا في نظرية العقد الاجتماعي؛ أتنازل عن جزء من حريتي للدولة حتى تحافظ لي الدولة على الجزء الأكبر الباقي من حريتي. كان أملي أن أصبح طرفًا في العقد أحافظ على شروطه ويحافظ الطرف الآخر على شروط العقد أيضًا، والدولة عندي هي المجتمع، وأنا لا أطلب حقًّا ليس لي؛ فلست فقيرًا وأريد أن أكون غنيًّا، ولست جاهلًا وأريد أن أكون عالمًا، كل ما أريده أنا أنال حقي الذي لا شك فيه والذي تركه أبي أمانة في عنق عمي، وعمي من المجتمع، والمجتمع هو الدولة. فإذا اغتال عمي حقي كان على الدولة أن ترد هذا الحق لي، وكنت أعرف أنه لا سبيل إلى ذلك؛ فهو يتخذ الوسائل القانونية التي تجعل الدولة والمجتمع في حالة توافق معه.
كيف إذن أستطيع أن أكون شخصًا سويًّا، طرفًا في العقد غير الممهور القائم بين الدولة وبيني، وكيف أستطيع أن أسير على الطوار ولا أعبر الشارع إلا من المكان المخصص لذلك؟ لا سبيل لا بد إذن أن أعبر من أي مكان لأنال حقي، وما دام لا سبيل لنيل حقي إلا عن طريق غير شريف فليكن الأمر إذن كما تشاء قوانين الحياة لا قوانين العقد الاجتماعي.
إذا اختلَّ ميزان العدل مرة في نفس إنسان فلا سبيل لهذا الميزان أن يستقيم مرة أخرى، إنه عوج يؤدي إلى الإصابة بعاهة مستديمة لا سبيل إلى الشفاء منها، ولكني لم أرَ هذا الميزان قائمًا عند أحد أبدًا، الجميع، الجميع، الموازين فوقهم مائلة، هي للقوي مائلة لصالحه، وهي للضعيف مائلة عليه، كم كنت أريد أن يكون الميزان عندي مستويًا لا مائلًا لي ولا مائلًا عليَّ، أنا لا أدافع عن نفسي؛ فما دام القانون الموضوع أصبح مستحيل التطبيق فلا مناص من العودة إلى القانون الطبيعي، والقانون الطبيعي غالب ومغلوب بلغة الغاب وظالم ومظلوم بلغة المظلومين وقوي وضعيف بلغة الصدق.
حين حصلت على هذه الإيصالات تحمل توقيعي المزور أصبح الأمر ميسورًا عندي؛ فأنا أريد سيارة وأريد ملابس أنيقة لأنني أريد فتاة تركب إلى جانبي.
أخذت أحسب الإيراد الذي كان من حقي أن أحصل عليه، ولكن ما لي أبحث عن الحق، لم يصبح الحق مهمًّا، لقد كان المهم أن أحصل على ما أريد لا على ما أستحق، فذهبت إلى عمي: أريد ألف جنيه.
– ماذا؟! جننت؟
– إن لي عند سعادتك ثلاثة آلاف وخمسمائة وستين جنيهًا وخمسة وأربعين قرشًا، أريد الآن ألف جنيه والباقي سأطلبه حين أريد.
– طبعًا أنت تمزح أو تدعي الجنون، أو أنت مجنون فعلًا.
– لا، أبدًا. الواقع أنني عثرت على هذا الإيصال عند سعادتك حين كنت عندك في المرة الفائتة، لا يجديك في شيء أن تمزقه؛ فهو ضمن إيصالات كثيرة عندي، وقد تعلمنا في كلية الحقوق أن التزوير جريمة، العقاب عليها يكون بالسجن، ولا أعتقد أنك تفكر في السجن.
– أنت تهددني إذن؟!
– نعم.
– كيف تجرؤ؟!
– سعادتك تسرقني وتزور توقيعي.
– تهددني؟
– قلت: نعم.
– إذن؟
– إذن متى تدفع الألف جنيه؟
– هذا مبلغ لا يوجد في كل وقت.
– لعلك على حق، سأمر عليك بعد ساعة.
– ساعة؟
– كثير؟
– لا أبدًا، سأعطيك الآن المبلغ، ولكن على شرط.
– عمي، أنا لا أرى أن سعادتك في موقف يمكِّنك من إملاء شروط!
– سأعطيك الألف جنيه.
– ومع هذا لست في موقف يمكِّنك من إملاء شروط.
– ماذا تريد إذن؟
– نعم إني أنا الذي أريد وأنا الذي سأملي الشروط.
– ما شروطك؟
– لو قلتها لك الآن فسأعطيك الفرصة لتستريح، وأنا لا أريد أن أعطي سعادتك هذه الفرصة. إن شروطي سأمليها حين يحلو لي أن أمليها، كل ما أريده الآن ألف جنيه.
– حاضر.
– وأعتقد أنه يحسن بك أن تُعدَّ غيرها سريعًا؛ لأن هذه الألف ستُنفق في فترة وجيزة.
– فترة وجيزة؟!
– السيارات غالية الثمن في هذه الأيام.
– سيارة؟!
– هات الألف جنيه.
لم أكتفِ بأن آخذ من عمي الآلاف الثلاثة، والمئات الخمس والعشرات الست والقروش الخمسة والأربعين، أخذت من عمي كل ما حلا لي أن آخذه؛ فلقد مال الميزان ولم يعد من الممكن أن يستقيم مرة أخرى، ولم يصبح عمي هو الوحيد الذي أتعامل معه. لقد تعاملت مع المجتمع جميعًا، ولم يعد من الممكن أن يستقيم الميزان، لقد مال مرة فهيهات هيهات أن يستقيم مرة أخرى. وهكذا أصبحت كما أنا اليوم قويًّا، قويًّا، فأنت تعرف طبعًا أنني رويت لك هذا الحديث لمجرد أنني قوي، وأريد أن أتكلم، فأنا — كما تعرف — لا أدافع عن نفسي أمامك أو أمام نفسي؛ فالقوي — كما تعرف — لا يحتاج إلى دفاع!