قصة صيف
لم أكن أتصور وأنا أعد للسفر إلى الإسكندرية أنه لا بد لي أن أفكر في كل هذه الأشياء التي أفكر فيها الآن. أولًا وقبل كل شيء مشكلة النقود؛ لا بد من نقود كثيرة، والمشاكل المالية هي دائمًا أهون المشاكل؛ لأنها أكثر المشاكل صعوبة؛ فالمشاكل المالية عامة، ولا يضيرني اليوم أن أعلن للناس أنني مفلس؛ لأن الذين أعلن إليهم جميعهم مفلسون، والتشاكي بين المفلسين قاعدة جرى العُرف عليها حتى أصبحت قانونًا، وقد ذكرت مشكلة النقود في أول الأمر لأن وجود نقود معك معناه ببساطة وجود كل شيء معك، والعكس صحيح؛ فعدم وجود نقود معك معناه عدم وجود شيء معك. ولعلِّي أستطيع التغلب على هذه المشكلة ببعض قروض بسيطة وبهذا المبلغ الذي لا يزال يتضاءل من عام إلى عام، وهو يقطع طريقه من بلدتي في الدقهلية حتى يصل إلى يدي في القاهرة. فالموسم موسم قمح ولا بأس على الأرض أن تعطيني في موسم القمح مبلغًا مهما يكن رمزيًّا.
إذن فلننتقل إلى مشكلة أخرى، كيف سأحصل على إجازة، المدة المحددة لي شهر. وزوجتي والأولاد يريدون أن يقضوا شهرين هناك، تلك هي الحقيقة التي أرفعها ذريعة في وجه كل من يتساءل لماذا لا تكتفي بالشهر؟
أما الحقيقة التي أعرفها والتي لا أقولها لأحد إلا لك أنت — لأنه من المفروض أن تعرف أسراري جميعًا — فهي أن صديقتي حسنية ستقيم في الإسكندرية شهرين وأنا أحب أن أكون بجانبها ما استطعت إلى ذلك من سبيل، ولعلِّي أستطيع بعد أن أحصل على شهر الإجازة الاعتيادية أن أحصل على شهر آخر مرضي.
ولا بد أيضًا من العثور على شقة في الإسكندرية قريبة من البحر واسعة ورخيصة، وإذا كانت في طابق مرتفع فلا بد من مصعد، وإذا كانت في طابق منخفض فلا بد أن تكون منطلقة الهواء. وأعتقد أن هذه الصفات لا يمكن لها أن تجتمع أبدًا؛ فالشقة الواسعة لا تكون رخيصة، والشقة الرخيصة لا تكون في عمارة بها مصعد، والشقة المنخفضة لا تكون منطلقة الهواء.
وهناك أيضًا وسيلة المواصلات، كيف سنذهب إلى الإسكندرية؟ لا تقل شيئًا عن سيارتي، هي قديمة نعم ولكنها تسير، ولا بد للآلة التي تسير أن تصل إلى ما تريد، ليست المشكلة مشكلة قدم السيارة وإنما المشكلة مشكلة سعة السيارة؛ كيف لسيارة موريس موديل ١٩٤٦م تولول إذا حملت أكثر من أربعة أشخاص أن تحمل ستة أشخاص؛ أنا وزوجتي وابني وابنتي والخادمة والطباخ؟
على كل حال هذه المشكلة قد يمكن حلها بوسيلة أو بأخرى، ولكن المشكلة الأساسية تلوح في الأفق حين نصل إلى الإسكندرية؛ كيف أقابل حسنية هناك؟ إنها السنة الأولى التي أعرفها فيها. في القاهرة أستطيع أن أترك مكتبي في الصباح لأذهب إليها، وأستطيع أن أدعي أنني ذاهب إلى المكتب أيضًا في بعض أيام من بعد الظهيرة، أما في الإسكندرية فماذا أقول لزوجتي؟ نعم أنت محق، تلك هي المشكلة الحقيقية، ماذا أقول لزوجتي؟ لعلك أيضًا محق فيما تذهب إليه، إن مشاكلي جميعها نابعة من هذه المشكلة إنها تقف خلف جميع المشاكل التي ذكرتها، إنها هي مشكلة المشاكل، لا بد أن أجد وسيلة، ولا يهمك، إنه سبحانه يدبر لكل عقدة حلًّا. وهل هناك مانع أن أجد أصدقاء في الإسكندرية، وما المانع؟! أليس لكل رجل أصدقاء؟ وأين كان الأصدقاء في السنوات السابقة؟ يا أخي ولا يهمك، لكل عقدة عند الكريم حلال.
إنه يظن أنني لا أعرف، ساذج، ساذج وعبيط، لقد عرفت في الأيام الأولى؛ فهو ساذج لا يعرف كيف يداري أموره، ومن أين له أن يعرف وقد طلع في المقدر على كبر، عاش معي عشرين سنة لا يفكر في خيانتي، وظهرت له حسنية، ظهرت له في مكتب الوظيفة فأحبها وظن أنها أحبته، وقد تكون، لا أعرف، المهم أنني وجدته فجأة أصبح يهتم بأمور لم يكن يهتم بها؛ أناقة أكثر من المعتاد وهو ذاهب إلى المكتب، وأسأل عنه في العمل فلا أجده، وأجد ساعي المكتب الذي يخبرني متلعثمًا أنه ليس على مكتبه، هذه الكلمة التي يحاول بها أن يفهمني أنه لم يغادر العمل وإن كان قد غادر المكتب، ويظن أنني لا أعرف، ساذج، أو الواقع أنه ليس ساذجًا وإنما هو معذور؛ فقد حباني الله وجهًا طيبًا يستطيع في كثير من الأحيان أن يكون وجهًا غبيًّا، وأنا أستطيع أن أستغل هذا الوجه أحسن استغلال، فخيِّل إليه أنني لا أعرف شيئًا، لم أسأله يومًا: ما هذه الأناقة؟! فهو يعتقد أنني لا أعرف الأناقة عند الرجل، معذور هو؛ فتعليمي قاصر وهو يعتقد أنني جاهلة، وحين يجتمع الجهل والوجه الساذج يقع من الناس ضحايا كثيرون لا يقدِّرون حقيقة ما يتمتع به الوجه الساذج من إدراك، وما يتمتع به الجهل من علم. استطعت أن أضع على وجهي هذين الستارَين ورحت أراقب. وحين تأكدت أنه على صلة بأخرى خرجت وراءه دون أن يشعر وعرفت أين يجتمعان. وفي اليوم التالي كانت عندي كل المعلومات التي لا أريد أن أعرفها عن حسنية. هل تهمك هذه المعلومات؟ فيمَ تهمك؟! هي زوجة لرجل يكبرها بسنوات عديدة، وهو موظف يعمل مع إسماعيل في المكتب، فليس غريبًا إذن أن يعرفها إسماعيل، لعلها جاءت إلى زوجها بالمكتب أو لعله أرسلها بشيء من الأوراق، المهم أنهما تعرفا وتعرفا، وظل هو يذهب إليها في الصباح واثقًا من وجود زوجها بالمكتب معه، وفي بعض الأحيان يقول لي بسذاجة إنه ذاهب إلى العمل بعد الظهر، وأنا أعرف هذا العمل الذي يذهب إليه بعد الظهر. لم أقل له شيئًا، ولن أقول له شيئًا، بل إني أريده أن يذهب إلى هذا العمل كثيرًا؛ لعله، لعله يجد هناك متعة، لقد أصبح مطحونًا في الشهور التي سبقت تعرُّفه على حسنية. في يوم وليلة أصبح شيخًا عجوزًا محنيًّا على نفسه وعلى أيامه تائهًا في اللاوجود كالهباء، أصبح كالعدم؛ أيامه يأس مرير، يحب الليل ويكره النهار، يحب الصمت وقد كان كثير الكلام، صمت خائف لعين مذبوح لا يجد شيئًا يهتم به أو يفكر فيه، بل لا يجد شيئًا جديرًا بالاهتمام أو التفكير؛ فالمستقبل عنده عدم لأن الماضي عدم، لا أعرف كيف التف إسماعيل حول نفسه فإذا هو كومة من الجزع وعدم المبالاة والانصراف عن الحياة، كل الحياة، حتى سيارته التي يعتني بها دائمًا كما يعتني صاحب السيارة القديمة بسيارته، حتى السيارة لم تصبح تحظى بشيء من عنايته، إجلال وعصام ابنتنا وابننا لم يعودا بالنسبة له شيئًا بعد أن كانت أوقاته جميعًا حديثًا معهما أو عنهما، وحين أسأله لماذا لا تكلم الأولاد ولا تُعنى بهما يغمغم: «لماذا جئنا بأولاد؟» من أجل لحظة متعة نرمي بكيان بشري إلى هذه الدنيا؟! ما ذنبهما؟
وأقول: ألا ترى أن الحديث في هذا الشأن متأخر بعض الشيء؟ إجلال عندها ثمانية عشر وعصام ستة عشر.
ويغمغم ثانية: لكن لماذا؟
ثم يعود إلى الصمت فكأنما يذهب بصمته إلى بلد غير البلد أو إلى زمان غير الزمان أو كأنه — على الأقل — يتمنى أن يذهب إلى بلد غير البلد أو إلى زمان غير الزمان.
وأعجب ما في أمره أنه لم يكن يعرف أنه يعاني شيئًا، وحين أسأله: ما لك؟
– ما لي!
– ألا تعرف؟
– لا.
– حقيقة لا تعرف؟
– أنا طبيعي جدًّا.
– أنت لم تصبح أنت.
– كل إنسان يتغير.
– وهل تغير كل الناس؟
– كل الناس تتغير.
ويعود إلى الصمت، ألا تجدني إذن معذورة حين وجدته فجأة يهتم بأناقته، وتقفز من عينيه هذه النظرة المتشوقة تبحث عن المستقبل وتطل على الحياة إطلالة الراغب فيها المقبل عليها. ولتكن حسنية هي؛ فإني أجد شفاءه أهم من كل الأشياء الأخرى، تريدني أن أبذل في سبيله هذه الغيرة، إنني أحبه، ولأني أحبه أسمح له أن يخونني، إنه منذ قررنا السفر إلى الإسكندرية حائر، يدعي أن النقود هي السبب مع أن النقود لم تصبح مشكلة بالنسبة لنا؛ فنحن في أزمة دائمة ونعيش. إنه حائر لأنه لا يدري ماذا سيقول لي حتى يتمكن من لقاء حسنية؛ فقد عرفت من مصادري أنها مسافرة إلى الإسكندرية. لكَم أتمنى أن أقول له: اهدأ؛ فلن أسألك عما تفعل، واذهب إلى حسنية حين تشاء. ولكن أخاف أن أقول له فيعتقد أنني أكرهه وأنني لا أغار عليه. لا أدري لماذا يريدنا الرجال أن نغار عليهم ولماذا يضيقون بغيرتنا حين نغار؟
قالت إجلال لعصام: ألا ترى أبي حائرًا؟
– لا أرى شيئًا.
– أنت لا ترى شيئًا إلا نفسك.
– أفكر في السفر إلى الإسكندرية.
– وفيمَ تفكر؟
– أخاف أن تكون النقود قليلة.
– وماذا تريد؟
– أريد أن أذهب إلى سينما سان ستفانو وأريد أن أرقص في الكازينو.
– ألست صغيرًا على الرقص؟
– كلهم يرقصون.
– من الفرح؟
– لا أعرف وإنما كل زملائي يرقصون.
– ولكني أراهم في رقصتهم كمجانين يريدون أن يحطموا أنفسهم.
– لعلهم يريدون ذلك.
– ولماذا يريدون أن يحطموا أنفسهم؟
– ولماذا لا يحطمون أنفسهم؟
– لأنها أنفسهم.
– إنها محطمة فعلًا.
– أنت مجنون.
– الجميع مجانين.
– أنا لست مجنونة.
– إن هدوءك الزائد نوع من الجنون.
– أفكر.
– تعدلين نظام الكون.
– أفكر في أبي.
– ولماذا لا تتركين أبي يفكر في أبي؟
– إننا أولاده.
– فليفكر هو فينا.
– ونحن؟
– نفكر في الإسكندرية.
– في السينما؟
– والرقص.
– وبعد؟
– ليس هناك بعد.
– لكل شيء بعد.
– ليس هناك بعد.