الفصل الثاني عشر
استدار بائع الأسماك الذهبية وابتسم بتساؤل إلى الأم والأب، اللذَين لم يسعهما سوى الاستمرار في التحديق. كان نحيلًا ضئيل الجسد، وربما لهذا السبب كان من السهل الخلط بين آثار أقدامه وأقدام مينلي. انتهت الخطوط الممتدَّة، التي اعتقدت الأم أنها آثار عصًا تتكئ عليها مينلي في مشيِها، إلى عربته، حيث سقطت أشعة الشمس المتناثِرة على أوعية الأسماك الذهبية فانعكست عنها ومضات مُتلألئة. ومضت عينا بائع الأسماك الذهبية أيضًا وهو ينظر إلى الأم والأب وملابسهما الغبراء ووجهيهما المُتعَبَين المنهَكَين.
سألهما: «هل يُمكنني مساعدتكما؟»
تمتم الأب: «كنا نبحث عن ابنتنا. نحن من قرية الجبل القاحل.»
قالت الأم مُتلعثمةً: «لقد بعتَ لها سمكةً ذهبية، وبعد ذلك … وبعد ذلك هربت لتُغيِّر قدرَنا.»
قال بائع الأسماك الذهبية: «فهمت»، ومرةً أخرى نظر إليهما، إلى وجه الأم العابس المُتشنج الغاضب، ووجه الأب المهموم القلق. «وأنتما تسعيان وراءها لإيقافها؟»
قال الأب: «بالطبع. علينا إعادتها إلى المنزل.»
قالت الأم: «نعم. إنها تتصرف بجنون. من يدري ماذا يمكن أن يحدُث لها؟»
قال بائع الأسماك الذهبية بثقة: «يُمكنها أن تنجح. يمكنها أن تجد طريقة لتغيير قدَرِكم.»
قالت الأم: «إنها تحاول العثور على الجبل اللامُتناهي! وطرح أسئلة على عجوز القمر! يستحيل أن تنجح.»
قال الأب: «نعم، هذا مستحيل.»
نظر بائع الأسماك الذهبية للمرة الثالثة إلى الأم والأب، وفي تلك المرة شعرا بشعور مختلف. فأمام نظرته المُحدقة، امتقع لون الأم والأب فجأةً، وهربت منهما الكلمات. شعرا بخِزي لا يَدريان سببًا له.
قال بائع الأسماك الذهبية: «اسمحا لي أن أحكي لكما قصة.»
قصة بائع الأسماك الذهبية
كانت جدتي، لاو لاو، عرَّافةً مشهورة. وكان الناس من القرى البعيدة يصطفُّون أمام منزلنا ليسألوها عن تواريخ جالبة للحظ لإقامة حفلات الزفاف، ولتقرأ لهم طالع أبنائهم. لم نسمع قَط أن تنبُّؤاتها خابت ولو مرة.
لكن قبل أسبوع من عيد ميلادي التاسع عشر، سمِعناها تئنُّ في غرفتها. وعندما هُرعنا إليها، وجدناها جالسةً على الأرض تتناثر حولها عِصيُّها التي تستخدمها في قراءة الطالع. ولِدهشتي، ما إن دخلت الغرفة حتى استقرت عيناها الثاقبتان عليَّ.
قالت: «أنت ستموت الأسبوع المقبل يوم عيد ميلادك.»
كان لقولِها أثرُ انفجار ألعاب نارية في الغرفة. إذ تعالت صيحات الدهشة من والديَّ وخالاتي وأبناء عمومتي، وانفجروا في النواح. قالت جدتي مؤكدةً: «الأمر صحيح لا محالة، لقد تحقَّقتُ منه مرارًا وتكرارًا. وفي كل مرة تؤكد العِصيُّ الشيءَ نفسه. سيموت الأسبوع المقبل، في عيد ميلاده التاسع عشر. هذا قدَرُه.»
لم أُصدق ما سمعت. كيف ذلك؟ لكن إيماني بجدتي كان راسخًا، ما دامت قالت ذلك فهو صحيح حتمًا. وقفتُ ذاهلًا فيما ماجت أصوات عائلتي من حولي. أخيرًا قلتُ وقد جفَّ حلقي من فرطِ هلعي: «لاو لاو، هل هناك ما يُمكنني فِعله؟»
قالت: «ثَمة شيءٌ واحد فقط يمكنك فِعله، لكن نجاحه غير مضمون.»
قلت: «سأفعله.»
قالت لاو لاو: «أولًا، يجب أن نحصل على زجاجة من أفخم أنواع النبيذ، ونُعِد عُلبةً مملوءة بالحلوى.»
هكذا قصدت لاو لاو حاكم البلدة الثري وأقنعَته بإعطائها زجاجةً من أفضل نبيذ لديه. وأسرعَت أُمي وخالاتي إلى المطبخ، وأعدَدنَ الكعك والبسكويت والحلوى بعنايةٍ غير مسبوقة. فاحت روائح الأطعمة الشهية في الهواء قبل أن نحتبسها في أفخم عُلبة مزخرَفة لدينا، فتجمَّعت جميع حيوانات الحي تعوي أمام بابنا.
ثم ذهبت لاو لاو إلى غرفتها وبدأت في قراءة عصِي الطالع. وعندما خرجت، أعطتني عُلبة الحلوى وزجاجة النبيذ وطلبت منِّي الجلوس.
قالت: «أصغِ إليَّ جيدًا، يجب أن تفعل ما أقوله بالضبط. صباح الغد، يجب أن تتجاوز القرية وتتَّجه شمالًا. ولا تتوقف حتى يبدأ القمر في الظهور في السماء. عندئذٍ سترى جبلًا أمامك، عند سفحه ستجد رجلًا عجوزًا يقرأ كتابًا. افتح عُلبة الحلوى وزجاجة الخمر وضَعْهما بجانبه، لكن لا تنطق بكلمة ما لم يُبادرك هو بالحديث. هذه هي فرصتنا الوحيدة لتغيير قدَرِك.»
هكذا، في صباح اليوم التالي، اتبعتُ تعليماتها، وكان الأمر كما قالت. ظلِلتُ سائرًا طوال اليوم، وعندما غربتِ الشمس أخيرًا من السماء وجدتُ أمامي جبلًا شاهقًا وكأنما تُلامِس قمتُه القمر. وعند سفحه جلس عجوز مُتربعًا يقرأ كتابًا ضخمًا. انعكس عليه ضوء القمر فأضفى عليه وهجًا فِضيًّا. فتحتُ زجاجة النبيذ وعُلبة الحلوى ووضعتُهما بجانبه بهدوء. ثم جلستُ وانتظرت.
لم يلاحظ الرجل العجوز وجودي وواصل القراءة. سال لُعابي حين انتشرَت رائحة الحلوى في الهواء، لكنني لم أتحرك. وعلى الرغم من انهماك الرجل العجوز في كتابه، لا بد أن الرائحة طالت أنفه أيضًا؛ إذ بدأ يأكل دون أن يرفع عينَيه عن الصفحة.
ولم يرفع الرجلُ العجوز رأسه إلا عندما فرغَت زجاجة النبيذ وكان يأكل آخِر كعكة. وبدا مُتفاجئًا لرؤية كعكة في يدِه مأكول نِصفها.
قال لنفسه: «لقد كنتُ آكل طعام أحدِهم.» ورفع عينَيه فرآني جالسًا بالجوار. «أيها الفتى، هل كان هذا طعامك؟»
قلت: «نعم»، وأشار إليَّ فاقتربتُ.
قال لي: «ماذا تفعل هنا؟»
حكيتُ قصتي للعجوز الذي ظل يُمسِّد لحيتَه فيما كان يستمع إليَّ. وعندما انتهيت، لم يقُل شيئًا، بل بدأ في تقليب الصفحات في كتابه. وأخيرًا أومأ برأسه.
ثم قال: «أجل، هذا صحيح. ستعيش تسعة عشر عامًا فقط.»
وأدار الكتاب نحوي، وقرأت في ضوء القمر اسمي على الصفحة. وبجانب اسمي كان الرقم تسعة عشر.
لم يسعني إلا أن أسأله: «من فضلك، أمَا من سبيل لتغيير ذلك؟»
تساءل الرجل العجوز متفاجئًا من الفكرة: «تغيير ذلك؟ تغيير كتاب الأقدار؟»
أومأتُ برأسي قائلًا: «أجل.»
قال الرجل العجوز وهو يُمسِّد لحيته: «حسنًا، أنا مَدين لك لأنني أكلتُ طعامك.»
وأخرج فرشاة رسم من ردائه، وأمعن النظر في الصفحة. وقال في نفسه، «حسنًا، ربما لو … لا … ربما … آه! حسنًا، هكذا يمكن تنفيذ الأمر!»
وبضربةٍ بسيطة بفرشاته، غيَّر رقم تسعة عشر إلى تسعة وتسعين. وقال لي: «حسنًا. ها قد أُضيف إلى عمرك سنوات عديدة. فأحسِنْ عيشَها.»
بعد ذلك، أغلق كتابه ونهض، وبدأ يمشي صاعدًا الجبل، تاركًا إيَّاي أُحدِّق خلفه. جلستُ مكاني حتى اختفى عن الأنظار، ثم استدرتُ وعُدتُ إلى المنزل.
في الأسبوع التالي، يوم عيد ميلادي، هبَّ إعصار رهيب. وهزمت الريح كما لم تهزم من قبل، وسقطَت شجرةٌ مباشرة فوق سطح منزلنا هدمت غرفتي، وبأعجوبة لم يَمسَّني سوء. فلو كانت تحرَّكت قليلًا نحو أحد الجانبَين كنتُ سألقى حتفي بسهولة. ولكن عندما خرجتُ من بين أنقاض غرفتي، رأيتُ عينَي جدَّتي تُحدق في عينَي. وأومأت برأسِها في صمت. لم تكن بحاجة إلى كلمات لتسألني عما حدث. علمتُ أن قدَري قد تغيَّر.
بادر الأب قائلًا: «لكن محاولة مينلي للقيام بذلك أمرٌ مختلف. إنها تحاول العثور على الجبل اللامُتناهي … وطرح سؤال … إنها مجرد فتاة صغيرة …»
قال بائع الأسماك الذهبية: «ربما عليكما أن تثِقا بها.»
قالت الأم: «لكن ما تُريده مستحيل.»
قال بائع الأسماك الذهبية: «مستحيل؟ ألا ترَين؟ حتى المصائر المكتوبة في كتاب الأقدار يُمكن تغييرها. فكيف لأي شيء أن يكون مستحيلًا؟»
لم تجد الأم ولا الأب الكلمات المناسبة للرد عليه. طالَعَتهما عيناه ومئات من عيون الأسماك الذهبية من ورائه كأنما تُوبِّخهما في صمت. وبينما كانا يطرقان إلى الأرض، أعاد بائع الأسماك الذهبية وضْع حقيبته على ظهره واستدار نحو عربته.
ثم وضع بائع الأسماك الذهبية وعاءً بين يدَي الأب المرتعِشتَين وهو يقول: «تفضَّل هذه الهدية.» دارت في الوعاء سمكة، بلَون القمر الفضي الباهت. «إذا كنتما لا تثقان في أن ابنتكما ستعثُر على الجبل اللامتناهي، فربما يجب أن تثِقان في أنها ستعود للمنزل. إذ ليس ذلك مُستحيلًا. بهذا، أتمنَّى لكما الحظ الطيب، سواء نجحَت مينلي في جلبِه لكما أم لم تنجح.»
وبعد أن انحنى تحيةً لهما، ابتعد بائع الأسماك الذهبية؛ كانت أوعية الأسماك الذهبية التي يدفعها تعكس ألوان قوس قزح في الهواء، فجعلته يتلألأ في ضوء الشمس. ووقفت الأم والأب يُراقبانه حتى بدا كنجمٍ متلألئ من بعيد.