الفصل الخامس عشر
جلست الأم والأب أمام النار الصغيرة التي أشعلها الأب. أجبرتهما خيبة أملهما، إزاء فشلهما في إيجاد مينلي، على الاعتراف بشعورهما بالإرهاق، فناما تحت مِظلَّة من أغصان الأشجار خلال النهار، تاركين سمكتهما الذهبية الفضية حارسًا عليهما.
استيقظا في وقتٍ مُتأخِّر من العصر، إلا أنه لم يبدُر عن أيٍّ منهما أي محاولة للتحرك. لم ينطق أيٌّ منهما بكلمة، لكن كان كِلاهما يعلم أنهما غير مُتأكِّدَين مما إذا كان عليهما المُضيُّ قُدمًا أم العودة.
فيما استحالت الشمس إلى ألسنةِ لهبٍ ملوَّنة في الأفق مُلوِّحةً بالوداع الأخير قبل الاستسلام لحلول الليل، ناولت الأمُّ الأبَ وعاءً من عصيدة الأرز. لم يتحدَّث أيٌّ منهما أثناء تناول الطعام، فكلاهما كان يُفكر في كلمات بائع الأسماك الذهبية. هل يتركان مينلي تُحاول تغيير قدرهم؟ هل يتوقَّفان عن البحث عنها ويثِقان بها، كما قال بائع الأسماك الذهبية؟ تنهَّد الأب.
وقال لنفسه بصوتٍ مسموع: «محاولة العثور على مينلي تُشبه محاولة العثور على ورقة السعادة.»
قال صوت: «أي ورقة سعادة؟» تلفَّت الأب حوله بحدة. وسأل: من قال ذلك؟ نظر إلى الأم، لكنه وجدَها مستمرة في تقليب العصيدة؛ من الواضح أنها لم تسمع الصوت. هز الأب رأسه. ربما كان تعَبُه يجعله يتخيل الأشياء.
تكلَّم الصوت مرةً أخرى وقال: «احكِ القصة أيها العجوز. إنها مُصغية إليك. هي أيضًا تريد سماع القصة لكنها لن تُقِرَّ بذلك.»
تلفَّت الأب حوله مرةً أخرى. بدا أن الصوت قادم من … من السمكة الذهبية؟ نظر من كثَبٍ إلى الوعاء. هل ضوء النار هو الذي يجعلها تتوهَّج هكذا؟ حدَّقت السمكة في وجهه بهدوء، كما لو أنها تنتظر. لذلك أخذ الأب نفسًا عميقًا وبدأ يروي القصة.
قصة ورقة السعادة
يُحكى أنه منذ زمنٍ بعيد، ذاع صِيتُ عائلة بسبب سعادتها. وعلى الرغم من غرابة ذلك، كانوا حقًّا عائلةً غير عادية. مع أن العمَّات والأعمام وأبناءهما والأحفاد كانوا يعيشون في بيتٍ واحد، لم يتبادلوا قَط فيما بينهم أيَّ كلماتٍ حانقة أو يصدُر عنهم صخَب ينمُّ عن حُزن. وكانوا جميعًا مُهذَّبين ومُراعِين بعضهم لبعض، حتى دجاجهم لم يتشاجر على الطعام. وقيل إنه حتى أطفالهم كانوا يُولَدون مُبتسِمين.
انتشرت قصص سعادتهم مثل البذور في مهبِّ الريح، ونمَت وازدهرت في كل مكان، حتى سمع بها في النهاية الحاكم النمر الشاب. ومع أنه كان قد تقلَّد منصبه للتو (كان هذا قبل ولادة ابنه)، كان الحاكم ذا الصوت المُزمجِر الهادر قد اكتسب بالفعل لقب الحاكم النمر. قال هازئًا: «مُستحيل. تلك القصص فيها مُبالَغة. لا يمكن لأي عائلة أن تبلُغ تلك الدرجة من السعادة.» لكن رغم ذلك، غلبه فضوله وأرسل مبعوثًا لمُراقَبة العائلة.
عاد المبعوث مُندهشًا. وقال: «سيدي الحاكم، القصص صحيحة تمامًا. راقبتُ العائلة لمدة شهر فلم أسمع أحدًا يهمس حتى بكلمة تنمُّ عن حزن أو غضب. كبارهم مُحبُّون ومخلِصون، وصغارهم دمثاء ومحترمون، وكلهم يُبجلون الجَد إلى حدٍّ يُضاهي تبجيل الآلهة. حتى كلابهم لا تنبح، بل تنتظر بصبر حتى يُقدَّم لها الطعام. يسود وئامٌ تامٌّ بين أفراد العائلة.»
قال الحاكم مُندهشًا: «هذا مُستحيل.» لكن لمَّا فكر في الأمر زادت تساؤلاته. تُرى ما سِر تلك العائلة؟ لا بد أن لديهم تعويذة سحرية أو معرفة سِرِّية. بدأ الأمر يُزعجه. وبدأ يطمع في الحصول على سعادة العائلة. وقال في نفسه إنه الحاكم. وإذا كان ثَمة سِرٌّ للسعادة، فيجب أن يحصل عليه.
هكذا استدعى مَبعوثه، وأعطاه صندوقًا فارغًا مُرصَّعًا بجواهر كثيرة وجماعة من الجنود.
وأمره الحاكم النمر قائلًا: «عُد إلى العائلة، وأخبرهم أنني أُريد أن يُوضع سِر سعادتهم في هذا الصندوق. وإذا لم يفعلوا ذلك، فاطلب من الجنود تدمير منزلهم.»
نفَّذ المبعوث ما أُمِر به. وعندما حاصرَت جماعة الجنود المنزل، بدا الخوف على العائلة. ولكن عندما أُعلن طلب الحاكم، ابتسم الجَد.
قال: «هذا طلب يَسير»، وطلب إدخال الصندوق إلى المنزل ثم عاد بعد لحظات. وقال: «تم الأمر. لقد وَضعتُ سِرَّ سعادتنا في الصندوق، ويُمكنك أخذُه. نأمُل أن ينتفع به حاكمنا.»
تفاجأ المبعوث قليلًا من سهولة إتمام المهمَّة التي جاء لأجلها، لكنه لم يجِد ما يستدعي اعتراضه؛ لذلك أخَذ الصندوق وأمر جنوده ببدء رحلة العودة إلى القصر.
كان المبعوث يعلم أن الحاكم ينتظر عودته بفارغ الصبر؛ لذلك سار الجنود طوال الليل، مُسترشِدين بضوء القمر. وبدا صندوق الكنز، الذي وُضع على مِنصَّة يحملها أربعة رجال، مُتوهجًا.
ولكن، لمَّا أصبحت الأرض صخريةً وشديدة الانحدار، هبَّت ريح مفاجئة كما لو أنَّ الجبل فتح فمَه ليتثاءب. في الغبار المتصاعِد تعثَّر أحد الجنود، وارتطم الصندوق بالأرض. وانفتح غطاؤه، وخرجت منه ورقةٌ تُرفرِف مثل فراشةٍ مُحرَّرة.
صاح المبعوث في الجنود: «أمسِكوا بها! لا تفقدوا السر!»
لكن على الرغم من صيحاته، بدا أنَّ الورقة استطاعت التملُّص من أذرُع الجنود التي كانوا يلوِّحون بها في كل اتجاه. كاد أحد الجنود أن يُمسك بالورقة؛ إذ لامسَت أطراف أصابعه، لكنَّ ريحًا أُخرى مفاجئة هبَّت وعصفت بها بعيدًا. راقب المبعوث والجنود بصمتٍ الورقة وهي ترتفع لأعلى في سماء الليل حتى حاذت القمر، ثم اختفت.
لم يكن أمام المبعوث أي خيار سِوى العودة إلى القصر بالصندوق فارغًا. لم يكن غضب الحاكم النمر بالأمر المفاجئ حين حُكيت له القصة.
صاح الحاكم مُزمجرًا: «فقدتُها! كانت ورقة؟ ماذا كُتِب فيها؟»
قال المبعوث مُرتجفًا: «سُمُوك، لم أقرأ الورقة قبل أن تضيع؛ لأنني شعرتُ أنه لا ينبغي أن يطَّلع على السرِّ سِواك. ومع ذلك، حين طارت في الهواء، رأينا جميعًا أنها لا تحوي سوى سطرٍ واحد.»
سأل الحاكم: «ماذا كُتِب في السطر؟»
قال المبعوث: «لا أعرف سيدي الحاكم، لكن أحد الجنود كاد أن يُمسك بها، وكان الأقرب إليها. ربما استطاع قراءة السطر.»
لذلك استُدعيَ الجندي وانحنى بتواضعٍ شديد. كان عمره لا يتعدَّى كثيرًا عمر غلام، وقد التحق بالجيش حديثًا من قريةٍ صغيرة فقيرة بعيدة.
قال الحاكم: «لقد كنتَ الجنديَّ الوحيد الذي اقترب من الورقة بما يكفي لقراءة السطر. ماذا كُتب به؟»
احمرَّ وجه الصبي، ولمس رأسُه الأرض وهو ينحني مرةً أخرى.
وقال: «أيها الحاكم العظيم، أنا خادمك المسكين. صحيح أني اقتربتُ بما يكفي لرؤية السطر المكتوب في الصفحة … ولكنني أُميٌّ لا أقرأ. لذا لا أعرف ما كان مكتوبًا بالسطر.»
تجهَّم الحاكم النمر في حنق، وارتجف المبعوث والجندي.
قال الجندي: «لقد … لقد لاحظتُ شيئًا.»
سأل الحاكم: «ما هو؟»
قال الجندي: «كان في الورقة كلمة واحدة فقط. كان السطر مُكوَّنًا من كلمة واحدة مُكررة.»
زمجر الحاكم، وتأجَّج الغضب في عينَيه: «كلمة واحدة؟ كلمة واحدة هي سرُّ السعادة؟ لقد كانت خدعة! لا بدَّ أن العائلة اعتقدت أن بوسعها خداعي! أيها المبعوث، احشد جميع قُواتي. سأجلب بنفسي سِرَّ السعادة وأُعاقب تلك العائلة الحقيرة!»
هكذا، في اليوم التالي، قاد المبعوث الطريق إلى منزل العائلة السعيدة ومعه الحاكم النمر وكامل جيشه المُستعد للتدمير. لكن عندما وصلوا، لم يجدوا شيئًا! لا بيت ولا دجاج ولا غنم ولا عائلة! لم يجدوا سوى سهلٍ مُنبسط، كما لو أن المنزل بأكمله اقتُلع من فوق الأرض.
تجهَّم الحاكم النمر في حنقٍ عند رؤية الأرض الخلاء، وتعهَّد بمعاقبة العائلة على عدم احترامها. ولكن بينما كان يُحدِّق ساخطًا، هبَّت الرياح وكسَته بغبارٍ أخضر مائل إلى الرمادي. وفيما وقف كتمثالٍ مُغطًّى بمسحوق أخضر، شعر وكأن السماء تهزأ منه.
قال الأب: «من ثَم، أعتقد أنه لا ينبغي لنا العثور على مينلي، تمامًا مثل الكلمة السرية وورقة السعادة.» وألقى نظرةً خاطفة على الأم، ومع أنها لم تلتفت لتُلاقي نظرته، لم تعترض على كلامه أيضًا.
تابع الأب برفق: «وغدًا، علينا أن نعود أدراجنا وننتظر عودتها إلى المنزل.»
مرةً أخرى، لم تنطق الأم بكلمة، لكنه رأى منها إيماءةً بسيطة؛ ربما لأنه كان يبحث عنها. فأومأ إليها بدَوره، والتقط بعض الأرز، ووضعه في وعاء السمكة في صمت.