الفصل الثامن عشر
تبِعَت مينلي الصبيَّ عبر متاهةٍ من الشوارع والأزقة لوقتٍ شعرَت أنه طويل. ولولا الجاموس الكبير الذي لم يغب عن نظرها، لتاه عنها الصبيُّ بسهولةٍ عدة مرات. قال لها الصبي: «لقد اقتربنا.»
أدركَت مينلي أن الصبيَّ يعيش بعيدًا جدًّا عن المدينة الداخلية. فالطريق لم يعُد حجريًّا، بل صار ترابيًّا. وحتى من مسافةٍ بعيدة، رأت أن سور المدينة الخارجية مُتصدِّع ومُتهدِّم. قال الصبيُّ مُشيرًا بيده: «أعيش هنا.» نظرت مينلي إلى طريقٍ مُوحِل يؤدي إلى كوخٍ رثٍّ مُتهالِك بدا كما لو أنه سيتحطم مع أول رياحٍ قوية تعصف به.
أدخل الصبيُّ الجاموس إلى الكوخ، وتبِعَتهما مينلي إلى الداخل. وألقت نظرةً حول المنزل الصغير المعدم. لم ترَ مينلي أيَّ أثاثٍ سوى صندوقَين خشبيَّين ومقعدٍ خشِن. وفي أحد جانبَي الكوخ، كانت هناك شبكة معدنية بدائية عند المدفأة وقِدر بالٍ للغاية عليها. أمَّا الجانب الآخر من الكوخ فانقسم ما بين كومتَين من العشب الجاف. راقبت مينلي الجاموس يتَّجه مباشرةً إلى إحدى الكومتَين ويستلقي. ربَّت الصبي بلطف على جانبه، ثم سحب المقعدَ الخشبيَّ الخشن إلى حيث تقف مينلي.
قال وهو يستريح على كومة العشب الأخرى: «تفضَّلي بالجلوس، وأخبريني لماذا تُريدين الذهاب إلى القصر بشدة.»
قالت مينلي وهي تجلس على الكرسي: «لستُ مهتمَّة بالقصر؛ إنما أريد مقابلة الملك.» وأخبرت راعي الجاموس بالقصة كاملة. وظهر على وجهه أمارات عدم التصديق وهي تحكي عن السمكة، وهزَّ رأسه استنكارًا وهي تحكي عن التنين، لكنه لم يُقاطعها قَط.
قال لها الصبي عندما انتهت: «لا أعرف كيف ستُقابلين الملك. وحتى لو قابلتِه، أشكُّ في أنك ستتمكَّنين من طلَب الشيء المُستعار، لا سيما أنك لا تعرفين ماهيَّته حتى!»
قالت مينلي: «لكن لا بد لي من ذلك. لا بد أن ثَمة طريقة لذلك.»
قال الصبي: «حسنًا، دائمًا ما أفكر بطريقة أفضل بعد أن آكُل»، ثم وقف وفتح أحد الصندوقَين. «لنتعشَّ.»
وبينما كان يُلقي بتيلات الخيزران في القِدر فوق المدفأة، جالت مينلي بنظرها في الغرفة المعدمة.
وسألت: «هل تعيش وحدك؟»
أومأ الصبي برأسه: «نعم. فقد مات والداي منذ أربع سنوات. ومنذ ذلك الحين، أعيش وحدي مع الجاموس.»
قال ذلك بتبلُّد، دون غضب أو شفقة على الذات. وفجأةً تذكَّرت مينلي منزلها — الأرضية الخشبية التي تُنظفها أمها دائمًا، والبطانية الإضافية التي كان أبوها يُغطِّيها بها عندما تهبُّ رياح باردة — فشعرت بغصَّةٍ غريبة في حلقها.
انتهى الصبي من الطهو ووضع بتيلات الخيزران المطبوخة، التي كانت تُشبِه شرائح رقيقة من الخشب الأصفر، في طبق. لم يكن يملك سوى طبقٍ واحد؛ لذا وضعه على المقعد بجوار ثلاث ثمرات من الخوخ تركَتْها عليه مينلي، وجلس كلاهما مُتربعًا على الأرض. أخرجَت عودَي الأكل الخاصَّين بها (إذ كان لا يملك إلا عودَين فقط)، وأكلا من الطبق الموضوع بينهما على المقعد المستخدَم كمائدة.
سألت مينلي: «أليس لكَ خالات أو أخوال أو أعمام أو عمَّات؟ أقرباء أو أصدقاء آخرون؟»
ألقى الصبي بحبة خوخ إلى الجاموس، ثم قال مُترددًا. «لديَّ صديقة واحدة.» وتفاجأت مينلي برؤية تعابير وجهه تتغيَّر على نحوٍ غير مُتوقَّع. إذ انبسطت أساريره تدريجيًّا، وارتسمت عليه ابتسامة صغيرة لطيفة.
سألت مينلي: «من هي؟»
قصة صديقة راعي الجاموس
في بعض الأحيان، خلال أيام الصيف الحارَّة، لا أجد ما يكفي من الماء لجاموسي؛ لذلك أُحب أن آخُذه إلى خارج المدينة إلى الغابة المحيطة ليشرب من الجدول الموجود هناك. وذات يوم أخذتُه إلى الغابة، ظلَّ يَسحبُني ويجرُّني بعيدًا عن الجدول. ومهما حاولت، كان يرفض الانصياع لي؛ لذا في نهاية المطاف ترَكتُه يقود الطريق.
قادني إلى جزء من الغابة لم أرَه من قبل، جزء لا أعتقد أن أيَّ شخص من المدينة قد رآه من قبل. كانت الأشجار باسقةً وكأنها تُلامِس السُّحب، وكان مَلمس العشب الأخضر كملمسِ دثارٍ حريري، وكانت تُوجَد بُحيرة ماؤها صافٍ ونقيٌّ ونظيف للغاية حتى إنها بدت كقطعة من السماء. لكن أجمل ما رأيتُ هناك كنَّ الفتيات السبع اللائي يسبحن فيها.
لكن عندما رأتني الفتيات خارجًا من بين الأشجار بصبحة الجاموس، صرخن. وهُرِعنَ خارجاتٍ من الماء، وأخذن ثيابهن وهربن. تحرَّكنَ بسرعةٍ كبيرة، وبدا أنهن جميعًا قد اختفينَ في السماء.
كلهن ما عدا واحدة. بقِيَت إحداهن في الماء تُحدق في وجهي بعينَين خائفتَين. كان شعرها يطفو حولها مثل هالة القمر في منتصف الليل، وبدا وجهها الأبيض كنجم في السماء.
قلت: «مرحبًا؟»
قالت بصوتٍ يُشبه أنغام الناي في الهواء: «جاموسك … جاموسك يجلس على ملابسي!»
قلتُ وأنا أُبعِده بسرعة: «عذرًا.» كان على الأرض فستان أزرق من الحرير، كان قد تساوى بالأرض وتلطَّخ قليلًا بالوحل. عندما التقطتُه جعلتني نعومته أخجل من يديَّ الخشنتَين. قلتُ وأنا أُحضر لها الفستان إلى حافة البحيرة: «تفضَّلي.»
نظرَت إليَّ متردِّدةً. قلت: «لن أسترق النظر إليكِ»، ووضعتُ الفستان على الأرض ثم ولَّيتُها ظهري وابتعدتُ قليلًا. سمعتُها تنسَلُّ خارجةً من الماء، وسمعتُ حفيف الحرير وهي ترتدي ثوبها.
قالت: «شكرًا لك. يُمكنك أن تستدير الآن.»
وعندما استدرت، طالَعني وجهُ فتاةٍ مُبتسمة. كانت في مثل عُمري لكنها أجمل من أي فتاةٍ رأتْها عيناي من قبل. حتى الأميرات المرسومات في اللوحات كنَّ قبيحاتٍ بالمقارنة بها.
قلت: «لم أقصد إخافتك. كان جاموسي ظمآن ليس إلا.»
قالت: «هذا ما ظننتُه»، وضحكت ضحكةً تُشبه رنين الأجراس ونحن نُراقِب جاموسي الكبير المتثاقِل يتَّجِه إلى الماء. «لا أُصدق أن أخواتي تركنني هكذا! إنني أصغرهنَّ، ويُفترَض أن ينتبهنَ إليَّ. لكنني سعيدة لأنهنَّ لم يفعلن؛ إذ الآن يمكنني التحدُّث إليك. أخبِرْني بكل شيء عنك! هل يُرافقك الجاموس إلى كلِّ مكان؟»
وهكذا بكل بساطة نشأت بيننا صداقة وطيدة. أرادت أن تعرف كل شيء عني، ولم تكن مُتعجرفة أو ما شابه. في الواقع، كثيرًا ما تنهَّدَت في أسًى، وقالت إنها تتمنَّى لو أنها تتمتع بمِثل حُريتي.
تنهَّدت قائلةً: «يجب أن أذهب قبل أن يُلاحَظ غيابي. ليت كان بإمكاني البقاء هنا. فحيث أعيش، لا يُسمَح لي بفعل أي شيء. ودائمًا ما يُراقبني شخصٌ ما ويُملي عليَّ أفعالي. وأشعر بالوحدة نوعًا ما.»
قلت لها: «فلتزوريني إذن. بإمكاننا أن نتسلَّى كثيرًا معًا.»
وعَدَت قائلةً: «سأُحاول.»
وقد أوفَت بوعدها. وكما قالت، كان من الصعب عليها الانسلال خلسة، لكن في كل ليلة يكتمل فيها القمر، تمرُّ عليَّ في طريقها لزيارة جدِّها. أحيانًا لا تتمكن من المكوث معي إلا فترة قصيرة، وأحيانًا تتمكن من أن تُطيل الزيارة لساعات. وكلما التقَينا نضحك بما يَكفينا لشهر. إنها صديقتي المُفضَّلة، ويومًا ما عندما نبلُغ العمر المناسب، سوف أُقنعها بالبقاء معي هنا إلى الأبد.»
قال راعي الجاموس بابتسامة عريضة مشرِقة: «من المفترَض أن تأتي الليلة.»
قالت مينلي: «مرحى، هل يُمكنني مقابلتها؟» كان التبدُّل الذي طرأ على سمت راعي الجاموس وهو يتحدث عنها عجيبًا؛ إذ تلاشت سخريته الباهتة وتعبيراته القاسية، وتهلَّل وجهه. كانت مسرورةً أنَّ في حياة الصبي شخصًا آخر غير الجاموس.
بدا التوتُّر على الصبي. وقال: «هي خجولة جدًّا في حضور الآخرين. وأعتقد أنها تخاف أن يراها أي شخص، فقد تكتشف عائلتُها أنها تمرُّ بي هنا بدلًا من الذهاب مباشرة إلى منزل جدِّها. إنهم جِدُّ صارمين معها.»
قالت مينلي: «لن أُزعجها إذَن. هل تُريدني أن أغادر؟»
قال: «لا، ويمكنك البقاء مع الجاموس. لقد أخبَرَتني في المرة السابقة أن هذه الزيارة ستكون سريعةً على أي حال. فهي مُتأخرة في عملِها؛ لذلك يتوقعون عودتها بسرعة.»
سألت مينلي: «عملها؟ ماذا تعمل؟»
قال الصبي: «تعمل في غزل الخيوط ونسجها. وهذا ما تجلبه إلى جدِّها عندما تزوره؛ الخيوط التي تغزلها. لا تقلقي، أعلم ما تودِّين معرفته! سأسألها كيف يمكنكِ مقابلة الملك! ستعرف الإجابة.»
سألت مينلي: «كيف لعاملةِ نسيجٍ أن تعرف بأمر الملك؟ هل تعيش في المدينة الداخلية؟»
قال الصبي بغموض: «لا، بل تعيش بعيدًا، لكنها تعرف كثيرًا من الأشياء.»
هزَّت مينلي كتفيها. لم يكن من المُرجَّح لديها أن تعرف صديقةٌ لراعي الجاموس كيف يُمكنها مقابلة الملك، لكنها لم تكن لديها أيُّ أفكار؛ لذا لم يسعها إلا أن تأمُل ذلك.