الفصل الثاني والعشرون
أفاقت مينلي من ذهولها. وقالت: «الملك! يجب ألا أدَعَه يتوه عن نظري!» وانطلقت تعدو في هلع على إثر ذي الملابس الرثة.
وقد كانت مطاردةً استثنائية، أو كانت ستُصبح كذلك لو أدرك المتسوِّل أنه مُلاحَق. فقد كان يشقُّ طريقه بين الناس وحاويات الأرز، وكانت كل خطوة تُقربهما من المناطق الشاغرة في المدينة. اعتقدت مينلي أنها فقدت أثرَه خلف كومةٍ من السلال المُهمَلة، لكن لحُسن الحظ لمحت الكُم الرمادي لسترته الفضفاضة، ورأته بالقرب من زاوية سور المدينة الداخلية. وفيما توارت عن نظره خلف عربةٍ مهجورة، رأته يدفع جزءًا من الجدار. فتحرَّك الجدار مُصدِرًا صريرًا رتيبًا!
شهقت مينلي قائلةً: «إنه بابٌ سِري للمدينة الداخلية»، وتمكَّنَت من الوصول إليه قبل أن ينغلق تمامًا. وبكِلتا يدَيها دفعته بقوة فانفتح الباب.
ومثل غطاء صندوق مجوهرات، انفتح الباب كاشفًا عن منظرٍ طبيعي من الألوان الزاهية. التمعت أوراق الخيزران والصنوبر والبرقوق في ضوء الشمس كما لو كانت منحوتةً من الزمرد، وبدت الأزهار بألوانها الوردية والحمراء مثل أحجار الياقوت المتراصَّة. وعلى بُعد خطواتٍ من قدمَيها رأت مينلي مسارًا مُزخرفًا مرصوفًا بحصًى صقلَه الماء. وعكست صفحة البحيرة الخضراء الموجودة بالمنتصف الأسقُف المقوَّسة المكسوَّة بالقرميد للسرادقات وجمال التماثيل الحجرية الكبيرة العتيقة القاسية الملامح. وكان هناك ممرٌّ مسقوف مُتعرج يرتفع عن المياه المُعتِمة مثل زهرة اللوتس. لا بد أن هذه حديقة القصر.
لكن مينلي كادت لا تلاحِظ كل هذا. إذ وقفت تُحدق بعينَين ذاهِلتين في الشخص الواقف أمامها. فقد كان المتسوِّل يمسح وجهه بقطعة قماشٍ بيضاء ناعمة، ولاحظَت مينلي مرةً أخرى أنه لم يكن عجوزًا على الإطلاق. في الواقع، كان أصغر من أبيها — كان قد مسح أثر الشيب من شعره بقطعةِ القماش أيضًا — وكانت لحيته ورأسه سوداوَين لامعين تمامًا كشعر مينلي. كان قد خلع ملابسه الرثة وكوَّمها بجانبه. وكان يرتدي الحرير الأصفر الفاقع كلَون الشمس. وكان رداؤه مطرزًا برسومٍ دقيقة لتنانين وسُحب مُتعدِّدة الألوان تلمع في ضوء الشمس، وتتماشى مع زخارف سواره الذهبي. لم يعُد لدَيها أي شكٍّ الآن في أنه الملك.
في تلك اللحظة، استدار الملك ورآها. وعندما نظر إليها، خرَّت مينلي ساجدةً على الأرض مُنكمِشة في خشوع.
قالت هامسةً وقلبها ينبض بشدة في صدرها حتى إنها شعرت بصداه في ركبتَيها: «جلالة الملك.»
سمِعَته مينلي يقول: «فُضِح أمري»، واسترقت النظر إلى الملك، فرأته ينظر إليها بنفس التعبير المبتهِج الذي كان يعلو وجهَه وهو يُراقب الناس يأكلون الخوخ وهو مُتنكِّر في هيئة المتسوِّل. هز رأسه لها. وتطلع لها بعينَيه اللامعتَين، فكادت تحسبه أبًا شابًّا لفتاةٍ صغيرة من قريتها. وأردف: «وعلى يدِك أنت، أيتها الصغيرة المُحسِنة. كنتُ أعلم أنكِ ذكية.»
حمل إليهما الهواء مجموعةً من الأصوات: «جلالة الملك! جلالة الملك!» ورأت مينلي من بعيد حشدًا من الخدم يركضون على الجسر المتعرِّج.
قال الملك لمينلي: «اسمعي، يجب ألا يمسكوا بكِ! حينها سيفتضح أمر مغامراتي الصغيرة، كيف سيكون موقفي آنذاك؟» عاون مينلي على النهوض ودفع بها خلف أحد التماثيل الحجرية العملاقة المُتجهِّمة، وركل نحوها ملابسه البالية. وقال: «بسرعة، بسرعة! ولا تنبسي بكلمة. أنا آمركِ ألا تنبسي بكلمة أو تخرجي حتى آذن لكِ.»
تشبَّثت مينلي بالحجر الخشن، وحاولت أن تختبئ قدْر الإمكان. كان يقترب منهما وقْع المئات من الخطوات كصوت المطر المُنهمِر من عاصفةٍ رعدية.
سأل الملك: «ما هذا؟ هل أُعلِنت الحرب على المدينة؟»
قال صوتٌ لاهث: «جلالة الملك، لقد كنَّا نبحث عنك …»
قال الملك: «تبحثون عني؟ أنا هنا في الحديقة منذ ساعات.»
قال الصوت متلعثِمًا: «لا بد … لا بد أننا لم نُلاحظك. فلم يستطِع أحدٌ العثور عليك … ولم يرَك الحراس فخشينا …»
قال الملك ضاحكًا: «خشيتم أن تكون الأرواح قد اختطفت ملك مدينة ضوء القمر الساطع؟ ليس هذه المرة أيها المُستشار تشو. لكني تلك الليلة أودُّ أن أتواصل مع القمر.»
قال الصوت: «جلالتك؟»
قال الملك بحزم: «أجل. الليلة، أودُّ أن أكون وحدي في الحديقة برفقة القمر. أحضِر لي وجبةً في سرادق حصن القمر ولا تُزعِجني حتى الصباح.»
قال الصوت: «أمرُك يا جلالة الملك.» لم تستطِع مينلي منعَ نفسها من استراق النظر. فرأت صفوفًا عديدةً من أشخاصٍ يرتدون ملابس أنيقة ساجدين على الأرض أمام الملك. تلألأت ملابسهم الحريرية الفخمة في ضوء الشمس الواهن. وجثا رجل يرتدي ثيابًا سوداء بالقُرب من الملك بمعزل عن باقي الحاشية. خمَّنت مينلي أنه المستشار تشو.
قال الملك: «في الواقع، أحضر لي وجبتَين»، واسترق النظر إلى مينلي. التقت عيناهما فتراجعت مُتواريةً عن الأنظار.
سأل المستشار تشو بصوتٍ يحمل نبرة تساؤلٍ واهنة: «وجبتان يا جلالة الملك؟»
قال الملك: «نعم، وجبتان. سأُكرم روح القمر بوجبة خاصة؛ لأنها ستجود عليَّ بصحبتها. هذا ما يقتضيه الإنصاف.»
قال المستشار: «حسنًا يا جلالة الملك.» لم يسَعْ مينلي إلا أن تُخمن مقدار حيرته، لكنه كان مُدربًا جيدًا بما يكفي لإخفائها من صوته.
قال الملك: «في غضون ساعة، سأكون في سرادق حصن القمر. أريد أن أجد الطعام بانتظاري هناك دون سواه. لا أريد أن يُزعجني أحدٌ هذا المساء.»
قال الصوت مرةً أخرى: «سمعًا وطاعة يا جلالة الملك»، وسمِعَت مينلي وقْع الأقدام وحفيف الحرير أثناء نهوض الحشد واستئذانه بالانصراف من أمام الملك.
قال الملك بصوتٍ خافت: «لقد ذهبوا. يمكنكِ الخروج الآن.»
خرجت مينلي مُتسلِّلةً من وراء التمثال.
قال لها: «حسنًا إذَن يا صديقتي الصغيرة، الآن وقد عرفتِ من أنا، تعالَي سِيري معي وأخبريني من أنتِ.»