الفصل الثالث والعشرون
سارت مينلي والملك في الحديقة، وأخبرته باسمها وموطنها، وحكت له عن رحلتها. وتذكَّرت تحذير السمكة، فحرصت على عدم ذِكر التنين الذي ينتظرها في الغابة. وأثناء سيرهما، كانت الممرَّات الحجرية المنقوشة تُداعب قدمَيها برفق، وكانت الشمس تأفُل كزهرةٍ تُغلق بتلاتها. وعندما اقتربا أخيرًا من السرادق، كان الليل قد حل.
قال الملك: «إذَن جئتِ إلى هنا للبحث عن حارس المدينة.»
قالت مينلي وهي تنظر إليه بترقُّب: «أجل.»
قال الملك: «وأنتِ تعتقدين أنني ذلك الحارس.»
قالت مينلي: «أجل. هل تعرف ما هو الشيء المُستعار؟ هل يُمكنني الحصول عليه؟»
كرَّر الملك: «الشيء المُستعار»، وتوقَّفا أمام السرادق. استقرَّ انعكاس القمر على سطح الماء، ورأت مينلي سبب تسمية السرادق باسم حصن القمر. فقد استقرَّت صورة القمر في الماء مُحصنة كلؤلؤة متوهِّجة، وكان الملك يُحدق فيها مُستغرِقًا في التفكير. «تعالَي، لنأكل أولًا ثم نرَ ما يمكن فِعله بشأن الشيء المستعار.»
دخلت مينلي السرادق المفتوح الجوانب. كان بانتظارهما في منتصفه كرسيان وطاولة صغيرة من خشب الجنكة المنحوت بإتقان. وكان بجانب الكرسيين سلة كبيرة من الخيزران منسوجة بدقة يبلغ ارتفاعها خصر مينلي. رفع الملك غطاءها بلهفة، ففاحت الروائح الدافئة الشهية في الهواء، فأنَّ بطنُها جوعًا.
أخرج الملك أطباق مُعجنات الروبيان الوردي الرقيقة، والنودلز اللذيذة، ولحم الخنزير، وبراعم فاصوليا لحية التنين، والثوم المُعمر الأخضر الزمردي، ووعاءً من حساء التوفو الأبيض. وكان هناك قِدر من الشاي ومجموعة متنوعة من الكعك على الطبقة السُّفلية من السلَّة ليختتما بها العشاء.
أعطى الملك لمينلي في يديها عودَي أكل ذهبيَّين مُزخرَفين شعرت بثقل وزنهما في يدِها، وبعد إلحاح منه، بدأت مينلي في تناول أشهى وجبة تناولتها في حياتها.
قال الملك لمينلي وهو يحتسي الشاي: «لستُ متأكدًا من ماهية ذلك الشيء المستعار الذي تبحثين عنه.» كانا قد انتهيا من تناول الوجبة الرئيسية، وكانت تستمتع بكعكة على شكل سلحفاة محشوة بعجينة الفاصوليا الحمراء الحلوة الطرية، التي لم تعرف مذاقها من قبل. وأثناء تناولها للكعكة، شعرت أن دسامتها تمدُّها بالدفء من حلقِها وحتى مَعِدتها. وأردف الملك: «لكن أعتقد أنني أستطيع التخمين.»
بمشقَّة، توقَّفَت مينلي عن الأكل ونظرت إليه. سألته وقد غمرها الأمل: «حقًّا؟ برأيك ما هو؟»
سألها الملك: «هل تعرفين سبب تسمية هذه المدينة باسم مدينة ضوء القمر الساطع؟»
هزَّت مينلي رأسها نفيًا.
قال الملك: «لقد غيَّر والد جدي الأكبر اسم هذه المدينة. كان يُطلَق عليها سابقًا اسم المدينة النائية البعيدة. لكن بعد تولِّيه السلطة، غيَّر اسمها إلى مدينة ضوء القمر الساطع. يعتقد معظم الناس أن السبب في ذلك طبعه الشاعري. ولكن السبب كان أكبر من ذلك. هل سمعتِ قصة الحاكم الذي حاول خداع عجوز القمر؟»
أومأت مينلي برأسها. «لقد حاول قتل زوجة ابنه التي كان من المُقدَّر أن يتزوَّجها، لكنهما تزوَّجا رغم ذلك.»
قال الملك مبتسِمًا: «إذَن تعرِفين القصة. كان هذا الحاكم هو جدَّ جدي الأكبر. وهذه المدينة هي المدينة التي أصبح ابنه ملكًا عليها بعد زواجه.»
قالت مينلي: «إذَن القصة حقيقية!»
قال الملك: «أجل، إنها قصة تَوارثَتها عائلتي لأجيال. ولكن ثَمَّة جانبًا منها لم يسمَعه معظم الناس.»
الجزء المجهول من قصة عجوز القمر
بعد أن أخبره عجوز القمر أن ابنه سيتزوَّج ابنة بقَّال، استشاط الحاكم النمر غضبًا. وبكلتا يدَيه أمسك الصفحة، وانتزعها من الكتاب. ولكن قبل أن يتسنَّى له تمزيقها إلى نصفَين، التقت عيناه بعينَي العجوز المُحدقتَين، فبدا وكأنما جعله ضوء القمر يتسمَّر مكانه. وأثناء الصمت الذي خيَّم عليهما، استحال غضب الحاكم النمر خوفًا.
لكن أخيرًا، أومأ عجوز القمر برأسه مُتجهمًا. وقال: «صفحات كتاب الأقدار لا تُمزَّق بسهولة، لكن تلك الورقة كان مُقدَّرًا لها أن تذهب إليك قبل أن أستعيرها. لذا ربما يجدُر بك أن تحوزها أخيرًا. خُذها. لقد أكسبها الكتاب بعض الصفات الإضافية، لكنها لن تكون ذات فائدة بالنسبة لك كما الورقة الأصلية.»
ودون أن ينطق بكلمةٍ أخرى، نهض عجوز القمر وانصرف عنه صاعدًا الجبل. لم يسَع الحاكم إلا أن يقف ذاهلًا، مُمسكًا بالورقة المُمزَّقة في صمت وذهول.
قالت مينلي: «مزَّق صفحة من كتاب الأقدار؟»
قال الملك: «نعم، لكنه لم يستطِع قراءتها مُطلقًا؛ لذلك بقِيَت عديمة الفائدة بالنسبة له تمامًا كما قال عجوز القمر.»
قال الملك وهو يُغادر السرادق إلى الجسر سائرًا تحت القمر: «تعالَي.» عندما تبِعَته مينلي، مدَّ يدَه إلى داخل الجزء العلوي من قميصه، وأخرج ببطء كيسًا منسوجًا من خيوطٍ ذهبية، وقال: «هذه هي الصفحة المُمزَّقة. لقد توارثَتها الأجيال، ودرسها ملوك مدينة ضوء القمر الساطع. لكن لم يفهم أيٌّ منَّا على الإطلاق ما كان يَعنيه عجوز القمر عندما قال إنها مُستعارة.»
راقبَت مينلي مذهولةً الملك وهو يُخرج من الكيس الذهبي ورقةً رقيقة مطوية. كانت الورقة أكثر شحوبًا من التوفو الأبيض الذي تناولته على العشاء، لكن كان لها وهجٌ طغى على بريق الخيوط الذهبية للكيس الذي كان يحتويها.
قال الملك وهو يفتح الورقة: «كان والد جدي الأكبر هو من أدرك أن الكلمات المكتوبة عليها لا يمكن رؤيتها إلا تحت ضوء القمر الساطع. وغيَّر اسم المدينة لمدينة ضوء القمر الساطع تذكِرة لمن يجيء بعدَه من ملوك.»
نظرت مينلي إلى الورقة ذاهلة. توهَّجت الورقة في ضوء القمر. وعلى الورقة خُطَّ بخطٍّ رديء وبلُغة لم ترَها مينلي من قبلُ، سطرٌ واحد من الكلمات الباهتة وكأنما كُتِبَت بالظلال مِدادًا لها.
قال الملك: «لذا، أعتقد أن هذه الورقة، التي قال عجوز القمر إنه استعارها، ذلك السطر المكتوب الذي مُزِّق من كتاب الأقدار، هي «الشيء المُستعار» الذي تبحثين عنه.»
قالت مينلي وهي تتَّقِد حماسةً: «بالطبع، لا بدَّ أنه كذلك!» لكن حماستها تلاشت حين نظرت إلى الورقة المحفوظة بعناية، وتذكرت كيف أن الملك يحملها معه، ويحفظها بعناية وبإجلال في كيسٍ حول رقبته. وبدا لها أنه يستحيل أن يمنحها هذا الكنز الغالي.
قال الملك: «وبعد كثير من الدراسة، تمكن والد جدي الأكبر من حلِّ لغز الكلمات. وذلك عندما أدرك أن الكلمات تتبدَّل حسب الوضع الراهن. ومنذ ذلك الحين، كلما واجَه أحد ملوك مدينة ضوء القمر الساطع مشكلة، فإنه يستشير الورقة.»
سألت مينلي: «تُخبرك الورقة بما يجب عليك فِعله؟»
ابتسم الملك ابتسامةً ساخرة وقال: «نعم. لكن ليس بالطريقة التي تَظنِّينها. فأحيانًا يكون السطر الموجود على الصفحة أكثر غموضًا من المشكلة.»
عندها نظر الملك إلى السطر. وبينما كان يقرؤه، علا وجهَه الذهول.
سألت مينلي: «ماذا يقول؟»
قال الملك بتروٍّ: «إنه يقول «لا يخسر المرء إلا ما يتشبَّث به».»
بدت كلمات الملك مُحلِّقة في الهواء. وخيَّم الصمت على المكان باستثناء حفيف الصفحة الخافت في النسيم العليل. ودون أن تنطق بكلمة، راقبَتها مينلي وهي تُرفرِف كما لو كانت تلوِّح لها.
قال الملك: «يبدو أن طلبك يستحقُّ النظر. يُخبرني السطر بذلك. دعيني أفكر.»
نظرت مينلي إلى الملك في صمت وحيرة.
قال الملك بتروٍّ: «على مدى أجيال، قدَّرت عائلتي هذه الورقة، وكرَّمناها لما لها من سلطة وقوة روحية. وتناقلتها الأجيال وتدارَسَتها واعتزَّت بها، وبَجَّلتها. هي بالنسبة لنا تفوق الذهب واليشم قيمة. ولكن ما حقيقتها في الواقع؟»
هزَّت مينلي رأسها غير واثقة من أنه ينبغي لها أن تجيب.
قال الملك: «إنها في الواقع دليل على فظاظة جدِّي وغضبه وتجرُّده من المبادئ وجشعِه الذي لا حدود له. لكننا تجاهلْنا كل هذا، بل صِرنا نحمي ونحرس هذا السطر المكتوب بشدة حتى إن حُكَّام مدينة ضوء القمر الساطع يَحملونه معهم طوال الوقت، ولا يجرءون على إخراجه من حوزتهم.»
تماوجت صفحة الماء، فبدا انعكاس القمر عليها وكأنما يرتجف. واستطرد الملك حديثه الذي كان مُوجَّهًا إلى نفسه أكثر منه إلى مينلي.
قال الملك: «لقد تشبَّثنا به، ودائمًا ما كنَّا نخشى فقدانه. ولكن إذا اخترتُ التخلِّي عنه، فلن أخسره.»
شعرت مينلي أن أنفاسها تتجمَّد في صدرها. أدركَت أنَّ الملك يُوازن الأمر بدقة في عقله. وأنه لو رفض إعطاءها الورقة الآن، فهذا يعني أنها لن تحصل عليها أبدًا.
أردف الملك: «وربما لم يكن مُقدَّرًا أن تئول لنا من الأساس حتى نتشبَّث بها. وبغضِّ النظر عن هُوية صاحب الورقة الأصلي، فهذه صفحة من كتاب الأقدار، وهو ليس مِلكًا لأحد. لذا، ربما آنَ الأوان أن ترجع إلى الكتاب.»
هبَّت ريحٌ فحرَّكت صفحة الماء، ورأت مينلي فيها وجهها القلق شاحبًا أبيضَ كالقمر المنعكِس عليها.
كرَّر الملك بصوت خافت: «لا يخسر المرء إلا ما يتشبَّث به.» وألقى نظرة خاطفة مرةً أخرى على الورقة ثم نظر إلى مينلي. وقد علت وجْهَه السكينة، ثم ابتسم بهدوء وقال: «لذلك فإن اختيار منحِك السطر يعني أني لن أخسَرَه.»
قال تلك الكلمات ثم وضع الورقة في يدَي مينلي المرتعشتَين.