الفصل الرابع والعشرون
انتظر التنين خارج أسوار المدينة. وحتى بعد أن اختفت مينلي عن نظره، ظل يسترق النظر من مَكمنه بين الأشجار. كان قد راودَه شعورٌ غريب عندما مرَّت بين الأسدَين العتيقَين المنحوتَين من الحجارة، وانغلق الباب خلفَها. إذ أدرك أنه لم يحظَ بصديق من قبلها، ويا له من شعورٍ جميل أن يكون للمرء صديق!
ربما كان ذلك ما دفع التنِّين لأن يتسلَّل من بين ظلال الأشجار، ويقترب من المدينة النائمة المُغلقة أبوابها في الليلة الثانية، عندما أظلمت السماء وارتفع القمر. وبالرغم من عدم اعتراف التنين بذلك لنفسه، فقد اعتقد أن مجرد الوقوف بجانب المدينة المسوَّرة قد يُخفِّف من شعوره بالوحدة قليلًا.
ألقى القمرُ الفضيُّ وهجًا بلوريًّا على الجدار الحجري الخشن وتمثالَي الأسدين الحارسَين. حدَّق التنين فيهما عندما اقترب من البوابة. بدا أن جسديهما الضخمين يُثقِلان المنصَّتَين الحجريَّتَين اللتين يستقرَّان عليهما؛ وجعل ظلام الليل لِبْدتَيهما الكثيفتَين، المُموَّجتَين تبدوان وكأنهما صفوفٌ من الأزهار المنحوتة. كان أحد الأسدَين يُحكِم ساعِده على كرةٍ مُستديرة، بينما كان الآخر يضع قبضته على شبلٍ بدا أنه يبتسم له. في الواقع، بدَت جميع الأسود وكأنها تبتسم له كما لو كان مزحةً غامضة تُشاهدها.
سألهم التنين أثناء مروره: «أتجدونني مُضحكًا جدًّا؟»
قال الشِّبل الصغير فجأةً مُتملصًا من قبضة أُمِّه: «نعم! أنت مُضحك جدًّا!»
عندما تراجع التنين مُتفاجئًا، ضحك الشبل بصوتٍ عالٍ؛ من الواضح أنه كان مُستمتعًا للغاية بوقْع الصدمة على التنين. ولكن عندما ضحك، حرَّر كلٌّ من الأسدَين الكبيرَين أنفسهما من منصَّتَيهما.
وبَّخَته أمُّه قائلةً: «ولدي! لا تضحك على التنين التائه. عِلاوةً على ذلك، أنت تعرف القواعد. يجب ألا تتحرك في وجود الآخرين.»
قال الشبل: «لكنه تنين، ولا يعُدْ من البشر. وبهذا لا تنطبق عليه القواعد، أليس كذلك؟ هذا إلى جانب أنه مضحك! فهو تنين ضخم يحاول أن يمشي مُتسللًا على أطراف أصابعه مثل الفأر!»
دوَّى الصوت الذكوري الجهور للأسد الآخَر في الهواء قائلًا: «ولدي!». فارتسمت على وجه الشبل نظرة خِزي فاتِرة، ثم هدأ وصمت على الفور.
في تلك اللحظة انفكَّت عقدة لسان التنين.
قال: «أنتم إذَن أحياء.»
قال الأسد وهو يُمعن النظر في التنين بعينَين مُهتمَّتين: «بالطبع نحن كذلك. فكل الأشياء حية؛ الأرض التي تمشي عليها، ولحاء تلك الأشجار. لطالما كنا أحياءً، حتى قبل أن نُصبح أسودًا، وكنا مجرد حجارة خام. لكنَّ نَحْتنا على تلك الهيئة أضفى علينا شيئًا من التميز.»
قالت أنثى الأسد برفق: «أنت تنينٌ صغير السن نوعًا ما، أليس كذلك؟ يبدو أنك تبلغ من العمر مائة أو مائة وخمسين عامًا فقط. لا تقلق، ستتعلَّم قريبًا ما فيه الكفاية.»
قال الشبل: «مائة عام! أنا أكبر منك بكثير. فعمري ثمانمائة وثمانية وستين عامًا!»
قال له الأسد الأب: «وما زلتَ لم تبلُغ الحكمة. لا تُضايق التنين الصغير.»
سأل الشبل بلطف: «ماذا تفعل هنا إذَن؟ فالتنانين عادةً لا تهبط إلى الأرض كثيرًا. هل أنت تائه؟»
على غير العادة، كانت الأسود ودودة؛ لذلك هدأ التنين وحكى لها القصة كلها؛ ولادته، وإقامته في الغابة، ومقابلته لمينلي، ورحلتهما للعثور على الشيء المستعار وعجوز القمر. لم تقاطعه الأسود على الإطلاق، لكن من آنٍ لآخر كانت تصدُر عن الشبل ضحكات مكتومة.
قال الشبل عندما انتهى التنين: «لقد كنتَ مِلك الحاكم النمر؟ هذا يعني أنك التنين الرهيب! أنت من دمَّر قصر والد الملك. لقد تسبَّبتَ في حدوث مشاكل كثيرة!»
نظر التنين إلى الأسدَين البالِغَين بتساؤل.
قالت أنثى الأسد: «منذ حوالي مائة عام، هرب والد الملك من قريته. كان تنينٌ قد دمَّر قصره، فطردَه قومه قائلين إنه يجلب الحظَّ السيئ. وجاء إلى هنا، عازمًا على أن يستقرَّ مع ابنه ويعتمِد في عيشته على ثروته وسُلطته بوصفه مَلك مدينة ضوء القمر الساطع. مرَّت المدينة بأوقاتٍ عصيبة؛ إذ كان والد الملك والمسئولون الذين أحضرهم معه فاسِدِين وجشِعِين. كنَّا قلقِين للغاية.»
سأل التنين: «أنتم؟ وما شأنكم بذلك؟»
قال الأسد: «ما سبب قلقِنا؟ ذلك هو شغلنا الشاغل! فنحن حرَّاس المدينة. وتقع على عاتقنا مسئولية حراسة المدينة وحفظها. وقد أقلقَنا بشدة أن نشهد بداية تصدُّعها.» ومدَّ الأسد يدَه بالكرة التي يُمسكها ليُري التنين صدعًا قديمًا غائرًا كان قد بدأ يمتلئ تدريجيًّا بغبار الأرض.
سأل التنين: «ماذا فعلتم؟»
خيط القدر
خشينا انهيار المدينة. ومع تصاعد الاضطرابات التي صاحبت الاجتماعات السِّرية وأعمال العنف، شاهَدْنا الصدع في عالمنا يتَّسِع. كنا نظن أنها مسألة وقتٍ فقط وتنقسم الكرة إلى نصفَين.
وذات ليلة، كان اليأس قد تملَّك منَّا حين رأينا شخصًا يسير في ضوء القمر. كان عجوزًا مُقوَّس الظهر يتوهَّج مثل المصباح. عندما رأينا أنه يحمل كتابًا كبيرًا وكيسًا صغيرًا، عرفنا على الفور أنه عجوز القمر ونادَيناه.
توسَّلنا إليه قائلين: «أرجوك ساعِدْنا، نحتاج إلى الحفاظ على تماسُك المدينة.»
نظر عجوز القمر إلينا وإلى كُرتنا المتصدِّعة الممدودة إليه ووجوهنا المتوسِّلة. ودون أن ينبس ببنت شفة جلس أمامنا وفتح كتابه، وأخذ يُقلِّب صفحاته مُمسِّدًا لحيته.
بعد عدة دقائق من استشارة كتابه، فتح كيسَه وأعطانا خيطًا أحمر.
وقال لنا الرجل العجوز: «احتفِظوا بهذا لحين الحاجة إليه»، ثم أغلق كتابه بقوة وسار مُبتعدًا، مُتجاهلًا كلمات الشكر.
كنا نعلم أن عجوز القمر قد أعطانا أحد خيوط القدَر، تلك الخيوط التي يَستخدمها لربط الناس بعضهم ببعض. ويا لها من هدية رائعة! وعلى الرغم من أنه لم يترك لنا أي تعليمات، فقد توقَّعنا أننا سنستخدمه لنربط به المدينة إذا بدا لنا أنها على شفا الانقسام.
بعد ذلك، ظلِلْنا نُراقِب كُرتنا ليلةً بعد ليلة ونحن على استعداد لاستخدام الخيط عند أول علامات انكسار نرصُدها. ولمَّا كنا نجهل قوَّته أو قُدرته، فلم نجرؤ على استخدامه إلا في أحلك الظروف.
لكن الصدع توقَّف عن الاتساع. وتخلى الملك عن والده فجأة. فنفاه هو ورجاله من المدينة وعاد الوئام. وتدريجيًّا امتلأ الصدع بالتراب الناعم والحجارة. واحتفظتُ بالخيط دون استخدامه.
عندما انتهى الأسد الأب من سرده، رفع يده ليكشف عن خيطٍ أحمر مُستقيم.
قال التنين: «الشيء المستعار! هذا هو! قالت مينلي إنها بحاجة إلى الحصول على الشيء المُستعار من حارس المدينة! أنت الحارس وهذا هو الشيء المُستعار الذي نحتاج إليه!»
قال الأسد وهو ينظر إلى الخيط: «أفترض أنه كذلك. إذن ربما كنتُ أحتفظ به طوال هذا الوقت حتى أتمكَّن من إعطائه لك.»
ووضع الأسدُ الخيط في يد التنين الممدودة.