الفصل الثالث
السمكة الذهبية كانت حقيقية، وعندما عاد والِداها من الحقول لتناوُل العشاء، لم يَسُرَّهما أن عرَفا أن مينلي أنفقت مالها على السمكة.
قالت الأم وهي تضع أوعية الأرز على الطاولة بعُنف: «كيف يمكنك إنفاق أموالك على سمكة! على شيء هكذا عديم الفائدة؟ وسيتعيَّن علينا إطعامها! لا يكاد الأرز يكفي ثلاثتنا.»
قالت مينلي بسرعة: «سوف أُشارك حصتي من الأرز معها. لقد قال بائع الأسماك الذهبية إنها ستجلب الثراء لمنزلنا.»
قالت الأم: «الثراء! لقد أنفقتِ نصف المال الموجود في منزلنا!»
قال الأب وهو يجلس بهدوء: «يا زوجتي العزيزة، لقد كان هذا مال مينلي. ويحق لها أن تفعل به ما تشاء. لا بد من استخدام المال في وقتٍ ما. فما النفع من الاحتفاظ به في وعاء؟»
قالت الأم بنفاد صبر: «ذلك أكثر نفعًا من سمكةٍ ذهبية في وعاء.»
قال الأب: «من يدري. ربما تجلب الثراء لمنزلنا.»
قالت الأم وهي تنظر بمرارة إلى الأرز البسيط في وعائها: «حلم آخر مُستحيل. سوف يتطلَّب الأمر أكثر من مجرد سمكة ذهبية لجلب الثراء لمنزلنا.»
سألت مينلي: «مثل ماذا؟ ماذا نحتاج لجلب الثراء هنا؟»
قال الأب: «هذا سؤال عليك أن تطرحيه على عجوز القمر.»
قالت مينلي: «عجوز القمر مرةً أخرى»، ونظرت إلى والدها. «أبي، لقد قلتَ إنك ستُخبرني بقصة عجوز القمر مجددًا اليوم.»
قالت الأم وهي تضرب بعُودَي الأكل باطِن وعائها الفارغ بامتعاض: «المزيد من القصص! ألم نكتفِ منها؟»
قال الأب مُجددًا: «يا زوجتي العزيزة، القصص لا تُكلفنا شيئًا.»
قالت الأم: «ولا تُكسبنا شيئًا كذلك.»
ساد صمتٌ مُطبِق أطرق خلاله الأب بحزن إلى وعاء الأرز الخاص به. جذبت مينلي كُم قميصه وقالت: «أرجوك يا أبي؟»
هزَّت الأم رأسها وتنهَّدت، لكنها لم تقُل شيئًا، فبدأ الأب يروي القصة.
قصة عجوز القمر
يُحكى أنه كان هناك حاكم قوي ومُتغطرِس جدًّا. وكان من فرطِ غطرسته يفرض على رعيته إبداء الاحترام له على نحوٍ لا ينقطع. كلما سافر خارج المدينة، بغضِّ النظر عن الساعة من النهار أو الليل، كان على الناس الخروج من منازلهم، والجثو على رُكَبهم والانحناء له أثناء مروره، وإلا واجهوا عقابًا وحشيًّا من جنوده. كان غضبه لا يقلُّ ضراوةً عن غطرسته. حتى إنه يُقال إنه كان يتوقع من القرود أن تنزل من الأشجار لتنحنيَ له.
كان الحاكم شديدًا على أعوانه، قاسيًا على أعدائه، عديم الشفقة على رعيته. كان الكل يخشى حنقه، وعندما كان يجأر بأوامره، كان الناس يرتعدون. في غيبته، كانوا يُلقِّبونه بالحاكم النمر.
كان أكثر ما يطمع فيه الحاكم النمر هو الانتساب إلى العائلة الإمبراطورية. كان كل قرار يصوغه يستهدف تلك الغاية، وكل مناورة يقوم بها جزءًا من خطةٍ هدفها نيل استحسان العائلة الإمبراطورية. وما إن وُلِد ابنه حتى بدأ يسافر في رِحلات ويتقصَّى الأخبار بغرض كسب النفوذ، على أمل أن يتمكن من تزويج ابنه لإحدى بنات العائلة الإمبراطورية.
وذات ليلة، بينما كان الحاكم مسافرًا بين الجبال (في رحلةٍ أخرى لدعم زواج ابنه مُستقبلًا)، رأى رجلًا عجوزًا جالسًا وحدَه تحت ضوء القمر. لم يلتفت الرجل العجوز إلى الخيول والعربات المارَّة، بما عليها من أقمشة حريرية مطرَّزة، وشعار حكومي، بل استمر ببساطة في قراءةِ كتابٍ كبير استقر في حِجره، وهو يُداعب بأصابعه بهدوء كيسًا مليئًا بالخيوط الحمراء بجانبه. أثارت لا مبالاة العجوز غضب الحاكم النمر، وأمر سائق العربة بالتوقف. لكن حتى ضجيج توقف العربة لم يستحثَّ العجوز لأن يرفع بصره عن الكتاب. وأخيرًا، نزل الحاكم النمر من عربته وذهب إلى الرجل العجوز الذي كان ما يزال مُستغرقًا في قراءة كتابه.
سأله مُزمجرًا: «ألا تنحني لحاكمك؟!»
واصل الرجل العجوز القراءة.
سأله الحاكم وهو ينظر لصفحات الكتاب: «أي شيء مُهم ذلك الذي تقرؤه بهذا الانهماك؟» كانت الصفحات مليئةً بشخبطات ورموز مُبهَمة لا تنتمي إلى أي لغة يعرفها. «عجبًا، إنه مجرد هراء!»
قال العجوز وهو يرفع بصره إليه أخيرًا: «هراء! يا لك من أحمق! ذلك كتاب الأقدار. وهو يحتوي على كل المعرفة الموجودة بالعالم؛ الماضي والحاضر والمستقبل.»
نظر الحاكم مرةً أخرى إلى الرموز المكتوبة على الصفحة. وقال: «لا أستطيع قراءته.»
قال الرجل: «بالطبع لا تستطيع أنت قراءته. أما أنا، عجوز القمر، حارس كتاب الأقدار، فأستطيع قراءته. وبالاستعانة به، يُمكنني الإجابة على أي سؤال في العالم.»
قال الحاكم هازئًا: «يمكنك الإجابة عن أي سؤال في العالم؟ فليكن. بمن سيتزوج ابني عندما يبلغ رُشده؟»
قلَّب عجوز القمر صفحات الكتاب. وقال لنفسه: «همم. أجل، ها هي … زوجة ابنك مستقبلًا هي الآن الابنة ذات العامَين لبقَّال في القرية المجاورة.»
صاح الحاكم غاضبًا: «ابنة بقَّال!»
تابع عجوز القمر: «نعم. وهي الآن ملفوفة في بطانية زرقاء مُطرَّزة برسوم لأرانب بيضاء، وتجلس في حِجر جدَّتِها الكفيفة أمام منزلها.»
قال الحاكم: «لا! لن أسمح بذلك!»
قال الرجل العجوز: «هذه هي الحقيقة. فقدرُهما أن يكونا زوجًا وزوجة. أنا بنفسي عقدتُ الخيط الأحمر الذي يربطهما.»
سأل الحاكم النمر: «أي خيط أحمر؟»
«أجاهلٌ أنت؟ أنا أربط جميع من ستتلاقى دروبهم بهذه الخيوط الحمراء.» تنهَّد الرجل العجوز ورفع كيسه المليء بالخيوط الحمراء. وقال: «لمَّا وُلِدتَ، ربطتُ كاحلك بكاحل زوجتك بخيطٍ أحمر، ولم يزل الخيط يقصُر بتقدُّم عُمريكما حتى تلاقيتما في النهاية. كل من قابلتَهم في حياتك جاءوا إليك عن طريق الخيوط الحمراء التي ربطتُكم بها. لا بد أنني نسيتُ ربط طرف أحدِها؛ ولهذا تقابلنا الآن. لن أُكرر ذلك.»
قال الحاكم: «لا أُصدقك.»
قال الرجل العجوز وهو ينهض حاملًا الكتاب الكبير على ظهره: «صدِّقْ أو لا تُصدق. لقد وصلنا إلى نهاية الخيط الذي يربطنا، وسأُغادر الآن.»
حدَّق الحاكم، وقد ألجَمَه الذهول، في عجوز القمر الذي انصرف عنه صاعدًا الجبل.
أخيرًا قال الحاكم: «عجوز مجنون. يا لها من مَضيعة لوقتي!»
عاد الحاكم إلى عربته وواصل رحلته. لكن أثناء عبورهم القرية المجاورة، رأى امرأة عجوزًا كفيفة تحمل طفلةً أمام أحد المنازل. كانت الفتاة ملفوفة في بطانية زرقاء مطرَّزة برسوم لأرانب بيضاء، تمامًا مثلما وصف عجوز القمر.
استشاط الحاكم النمر غضبًا. وأقسم قائلًا: «لن أدعَ ابني يتزوج ابنة بقَّال!» لذلك، بعد وصوله إلى دار الضيافة، أمر الحاكمُ سرًّا أحدَ خدَمِه بالعودة إلى منزل البقَّال وطعن الفتاة بخنجر. قال في نفسه إن ذلك سيفي بالغرض.
بعد سنوات عديدة، تحقق للحاكم النمر حُلمه. وتمكَّن أخيرًا من تزويج ابنه لإحدى حفيدات الإمبراطور العديدات، وكان من المُقرَّر أن يرث ابنه حكمَ مدينةٍ نائية. وفي يوم الزفاف، تفاخر الحاكم النمر أمام ابنه بترتيبه لزوجته تلك وخداعه لعجوز القمر. لم يقُل الابن (الذي لم يكن مثل والده) شيئًا، لكنه بعد مراسم الزفاف، أرسل خادمًا مؤتمنًا للبحث عن أُسرة البقَّال لتعويضها. وفي غضون ذلك، تعرَّف على عروسه، فسرَّه أن أُعجبَ بها وأُعجبَت به. ووجد أن زوجته الجديدة جميلة، ولكن كان لها تصرُّف غريب واحد، وهو أنها كانت تضع دائمًا زهرة رقيقة على جبينها.
سألها: «زوجتي العزيزة، لماذا تضعين تلك الزهرة دائمًا؟ أنتِ لا تنزعينها أبدًا حتى وأنت نائمة.»
قالت وهي تلمس جبينها في حرج: «أضعها لإخفاء ندبتي. وأنا طفلة لا يزيد عمري عن عامَين، طعنَني رجل غريب بخنجر. نجوتُ من الحادث، لكني ما زلتُ أحمل هذه الندبة.»
في تلك اللحظة، دخل الخادم الأمين مسرعًا. وقال: «سيدي، لقد تقصَّيتُ عما طلبته منِّي. لقد لقِيَت أسرة البقَّال حتفها جرَّاء فيضانٍ وقَع منذ سنوات عديدة، باستثناء الابنة. حينها تبنَّى ملك المدينة (الابن التاسع للإمبراطور) الابنة، وقام بتربيتها كإحدى بناته … هذه الابنة هي زوجتك!»
قالت مينلي: «إذَن كان عجوز القمر على حق!»
أجاب الأب: «بالطبع كان كذلك. فعجوز القمر يعرف كل شيء، ويمكنه الإجابة عن أي سؤال تطرحينه.»
قالت مينلي: «إذَن يجب أن أسأله كيف نجلب الثراء إلى منزلنا! سأسأله لأنه سيعرف الإجابة. أين يُمكنني العثور عليه؟»
قال الأب: «يُقال إنه يعيش على قمَّة الجبل اللامُتناهي. لكن لا أحد ممن تحدثتُ إليهم من قبل يعرف مكان هذا الجبل.»
قالت مينلي: «ربما يُمكننا اكتشاف مكانه.»
قالت الأم وقد فاض بها: «أوه، مينلي! جلب الثراء لمنزلنا! وجعل الجبل القاحل يزدهر! أنت تتمنَّين دائمًا القيام بأشياء مُستحيلة! كُفِّي عن تصديق القصص وإضاعة وقتك.»
قال الأب: «القصص ليست مَضيعة للوقت.»
نهضت الأم عن الطاولة وضربَتها بيدَيها، فتأرجح الماء في وعاء السمكة، وقالت: «القصص هي ما أهدر المال على هذه السمكة الذهبية.»
حدَّقَت مينلي في وعاء الأرز الخاص بها؛ استقرَّت حبات الأرز البيضاء القليلة المتبقِّية في قاع وعائها كلآلئ ثمينة. ربَّتَ الأب على ذراعها. وقال: «فلْتأكلي أرزك كلَّه يا بُنيتي»، وبيده المرتعِشة، أخذ آخر ما تبقى من أرزه ليُطعم به السمكة.