الفصل الثامن والثلاثون
أثناء اتباع مينلي والتنين لدا-إيه-فو عبر الأراضي ذات التضاريس القاسية، كانت الرياح تهبُّ بعُنف. ومع ذلك لم يكن السفر صعبًا. فقد كان التنين يعبُر بهم أي شقوق أو فتحات كبيرة؛ كانت مينلي قد نسِيَت كم هو مُمتع السفر برفقته. وبدا دا-إيه-فو، اللذان كانا يضحكان ببهجةٍ خالصة وهما يركبان على ظهر التنين، مثل ثمرتَين يانعتَين من توت الزعرور. أضفَت بهجتُهما واللون الأحمر الزاهي لثيابهما، الذي كان لون التنين كذلك، الدفء على تضاريس صفحة الأرض الباردة. ولم تُدرك مينلي شدة برودة الجو إلا حين أخرجت يدَيها من كُمَّيها في الهواء الشديد البرودة.
قالت لهم إيه-فو بعد أن قطعوا مسافةً قصيرة: «لقد اقتربنا. قريبًا يلُوح أمامنا الجبل اللامتناهي.»
سألت مينلي: «هل سبق لكما أن رأيتما عجوز القمر من قبل؟ هل سبق لأيِّ أحدٍ أن رآه؟»
هز دا-إيه-فو رأسيهما. وقال دا-فو: «لم يرَه أحد من قبل. لا أحد في تاريخ عائلتنا أو قريتنا.»
قالت إيه-فو: «على الرغم من أننا نعلم أنه هو الشخص الذي نقل أجدادنا إلى هنا.»
سألت مينلي: «عجوز القمر هو من أحضر أجدادكم إلى هنا؟ كيف؟»
قصة أجداد دا-إيه-فو
بذل أجدادنا قصارى جهدهم لإرضاء الحاكم، إلا أنهم لم ينجحوا في إسعاده. وذات يوم، هُرع أحد الجيران إلى منزل أجدادنا، وحصانه يلهث من العَدْو.
صاح الجار قائلًا: «لقد عُدتُ للتوِّ من المدينة. وهُرعتُ إلى هنا لتحذيركم. الحاكم مُقتنِع بأن ردَّكم عليه كان خدعة، وأنكم تُخفون السر الحقيقي عنه. وهو الآن في طريقه إليكم لإنزال العقاب بكم. وينوي تدمير دياركم والقضاء على عائلتكم! اهربوا فيما لا تزال الفرصة سانحة! ليس لدَيكم متَّسَع من الوقت؛ إذ سيصل جنوده إلى هنا غدًا!»
بكى أسلافنا خوفًا. لم يسَع العائلةَ الكبيرة — المكوَّنة من العديد من الأبناء والبنات والعمَّات والأعمام والأطفال والأحفاد — إلا أن تهلع. لكن يي يي، الجد الأكبر ورب العائلة، رفع يده ليلفتَ انتباههم.
وقال: «يبدو أن المِحنة في طريقها لأن تنزل بنا، وليس بيَدَينا ما يُمكن فِعله. لن نهرُب. إن فعلنا فسيعثر علينا الجنود بسهولة، وسيكون ردُّ فعل الحاكم أشدَّ ضراوة. وأنا لا أُريد لنا أن نقضي لحظاتنا الأخيرة ونحن نَفِرُّ مذعورين.»
رفع يي يي بصرَه إلى السماء الزرقاء الزاهية والشمس الساطعة على الجبل خارج ديارهم. كان يصعب تخيُّل فداحة المُصاب الذي سيحلُّ بهم. قال للأطفال: «أيها الصغار، اذهبوا وأحضروا طائراتكم الورقية المفضَّلة.» ثم التفت يي يي إلى الكبار. وقال: «أيها الأبناء والبنات، استعدُّوا لأفضلِ نزهة على الإطلاق، وجهِّزوا ما يكفي من الطعام والشاي للجميع. لن نُهدِر ما تبقَّى لنا من وقت. سنقضيه كما فعلنا دائمًا، في سعادة.»
أومأت العائلة برأسها استحسانًا لكلمات يي يي الحكيمة. وبسرعةٍ انطلقوا لتنفيذ ما طلب. فأعدُّوا قدورًا كبيرة من شاي الأقحوان الأفضل لدَيهم، وملئوا سلالًا مُميزة بالكعك الذهبي وفطائر الكاسترد والدجاج المسلوق ولحم الخنزير المقرمش والكعكات الهشَّة المَطهية على البخار وبيض الشاي. وأخرجوا طائراتهم الورقية ذات الألوان الزاهية وأشكال الحشرات والفراشات من خزَّاناتهم.
ابتسم يي يي لعائلته وهم يُتمُّون مَهامهم. وحمل كُتبه المفضَّلة من الشِّعر والقصص والأغاني في حقيبة. وقال: «هيا، لنصعد الجبل.»
هكذا، سلكت العائلة طريقَها صاعدةً الجبل، فيما لاحت لهم أوراق الأشجار مُودِّعة. صعدوا عاليًا كي تُحلِّق الطائرات الورقية دون أن تعترض الأشجار طريقَها. ولمَّا لم يعُد ثمة حائل بينهم وبين السماء، توقَّفوا عن المسير.
قضَوا وقتًا مُمتعًا. وضحك الأطفال وهم يرَون طائراتهم الورقية تنطلق مُحلِّقةً في الهواء. وابتسمت النساء أثناء احتسائهن الشاي وأكل الرجال بسعادةٍ الحلوى اللذيذة. وتلا يي يي شعرًا تنهَّدت له النساء، وسرد قصصًا شهق لها الرجال، وأنشد أغانيَ حثَّت الأطفال على مُشاركته الغناء.
ولكن سرعان ما انقضى اليوم. وكان القمر قد بدأ يطلع في السماء عندما طُلب من الأطفال أن يُنزلوا طائراتهم الورقية.
سأل ولدٌ كبير: «لماذا نُنزل الطائرات الورقية؟ تلك هي آخِر مرة سنتمكَّن فيها من اللعب بها.»
قالت فتاة: «أجل. لِندعها تُحلق لأطول فترة ممكنة.»
لذا بدلًا من إنزال الطائرات الورقية، قطعوا الخيوط التي تربطها. وعندما حُرِّرت الطائرات الورقية، هبَّت عاصفة ريح قوية من السماء. واختفت الفراشات والتنانين واحدةً تلوَ الأخرى كما لو كانت تطير إلى موطنها في القمر. وعندما اختفت الطائرات الورقية عن الأنظار أُطلِقَت تنهيدةٌ حزينة. لم ينطق أحد، لكنهم جميعًا تمنَّوا الهروب من مأساة الغد.
وفي هدوء، حزمت الأُسرة أغراضها وبدأت رحلة نزول الجبل. وظلُّوا سائرِين طويلًا حتى ارتفع القمر فوق رءوسهم، وبدءوا يرتجفون من البرد.
سأل طفل: «هل ضللنا الطريق؟ هذا لا يبدو الطريق إلى المنزل.»
قالت له والدته: «هذا مُستحيل. كيف يمكن أن نضل الطريق؟ لا يُوجَد اتجاه إلا نزولًا.»
قال يي يي: «لكن الصبيَّ مُحِقٌّ. انظروا إلى تلك الصخرة أمامنا. لقد تسلَّقنا هذا الجبل عدة مرات، ومع ذلك لم أرَ هذه الصخرة أو أيَّ صخرةٍ تُشبهها من قبل.»
قالت فتاة صغيرة: «كما أنه لا تُوجَد أشجار، لطالما كانت تُوجَد أشجار تحتنا، أما الآن فلا يُوجَد سوى مزيد من الصخور.»
قال آخَر: «كما أن البرودة أشد. أشد مما تكون عادةً في ليالي مَطلع الخريف.»
سألت امرأة: «ماذا حدث؟»
قال يي يي ببطء: «أعتقد أننا لم نعُد على جبلنا. بطريقةٍ ما صِرنا على جبلٍ مختلف.»
سأل رجل: «كيف يُعقَل أن يحدُث ذلك؟ ولمَ؟»
قبل أن يتسنَّى ليي يي أن يفتح فمه للإجابة، صاحت إحدى الطفلات.
قالت: «الديار! ها هي ديارنا!»
وبالفعل كانت الديار أمامهم، كانت البوابة الحمراء الداكنة مفتوحة على مِصراعَيها، فرأوا الضوء الساطع من نوافذ منازلهم. صاح دجاجهم مُرحبًا بهم، وخرجت إليهم الكلاب واثبةً عبر البوابة تنبح مبتهجة.
لم يُصدِّق أجدادنا أعيُنهم. فقد كانت القدور والمقالي المتَّسِخة التي تركوها في الصباح لا تزال في حوض الغسيل، وكانت الأحذية المبعثرة والغسيل المُعلَّق حيث تركوها بالضبط. حتى الكتاب الذي تركه يي يي كان مفتوحًا على الصفحة نفسها. جال يي يي من غرفة إلى أخرى ومن منزل إلى آخر، يتبعه باقي أفراد الأسرة وكأنما في موكب. وأخيرًا، عثر على رقعة من الحرير اللامع عالقة في مفصلات البوابة. ثم استدار لينظر إلى العائلة التي تجمَّعت حوله.
قال لهم: «إنها معجزة. لقد نُقِلنا إلى هنا، بمنأًى عن الحاكم. لقد نجونا!»
هلَّل أفراد العائلة، ولكنهم لم يستطيعوا منع أنفسهم من التساؤل: «كيف؟ من فعل هذا؟»
نظر يي يي إلى الأرض الخلاء حوله والسماء الزرقاء الداكنة والقمر بالأعلى، ثم إلى قطعة الحرير الرقيقة في يده. ثم قال وهو يُشير إلى الأعلى: «هذا الحرير من إحدى طائرات الأطفال الورقية. لقد أوصلت الطائرات الورقية رغباتنا إلى عجوز القمر، ولا بدَّ أنه قد قرَّر أن أقدارنا تكمُن هنا. إذ لا يُوجَد الليلة إلا شيء واحد سِوانا هنا. إنه القمر.»
سأل التنين: «وهل مكثَت عائلتكما هنا منذ ذلك الحين؟»
أومأ الطفلان برأسيهما. «عاشت عائلتنا على الجبل لأكثر من مائة عام، وما زال عددُنا يزداد. ننزل الجبل أحيانًا، وأحيانًا يأتي الناس إلينا؛ ونُرحِّب بأي شخصٍ يزورنا ويَعتبر ديارنا دياره.»
قالت مينلي: «إذَن …» لكن كلماتها تلاشت عندما أشار دا-فو نحو الأفق. اتَّبعَت مينلي والتنين يدَه ببصريهما، فرأيا أخيرًا جبلًا لا بد أنه الجبل اللامُتناهي، موطن عجوز القمر.