الفصل التاسع والثلاثون
كان الجبل اللامُتناهي هائلًا إلى حدِّ أن الجبل القاحل بدا كالحصاة مُقارنةً به. لم تستطِع مينلي رؤية قمَّته أو سفحه؛ إذ بدا أنه ينبثق من وادٍ عميق جدًّا لدرجة أن سفحه لا بدَّ أنه يستقر في باطن الأرض. شعرت مينلي وكأنها تقف على حافة العالَم وهي تُحدق إلى الجانب الآخر من الهاوية الكبيرة التي تفصل بينها وبين الجبل اللامُتناهي. وقف الجبل شامخًا كشظيةٍ من الرخام الأخضر تمتدُّ إلى عنان السماء حتى تختفي وراء الضباب الفضي.
قال دا-فو: «ها هو ذا الجبل اللامتناهي!»
قالت إيه-فو: «أراهن أن عجوز القمر يعيش بالأعلى هناك. إذ لا بد أن قمَّة هذا الجبل تصِل إلى القمر.»
سألت مينلي: «كيف سنصعد إلى هناك؟» كانت تشعُر بالدُّوار من التحديق لأعلى لفترةٍ طويلة.
بدا التنين مغمومًا. وقال: «لو كان بإمكاني الطيران لاستطعتُ الصعود إلى هناك لمقابلة عجوز القمر.»
ضحكت إيه-فو وقالت: «لو كان بإمكانك الطيران لما احتجتَ إلى مقابلته!»
قالت مينلي: «لكن يبدو أن الطيران هو السبيل الوحيد لمقابلة عجوز القمر.»
قالت إيه-فو: «على الأرجح تُوجَد طريقة أخرى.»
قال دا-فو: «أجل، على الأرجح ما عليكما سوى إبلاغ عجوز القمر بأنكما ترغبان في الصعود إليه.»
سأل التنين: «كيف نفعل ذلك؟ نُرسِل له رسالة؟»
نظرت مينلي إلى السماء فيما واصل التنين ودا-إيه-فو الحديث. «نُرسِل له رسالة، نُرسِل له رسالة». تردَّد صدى كلمات التنين في أذُنَي مينلي، وشعرت وكأنما تُفتش عن عود ثقاب لتُضيء به مصباحًا. ضربتها عصفة ريح وكأنما تُحاول إخبارها بشيء. ورأت جديلة إيه-فو تطير في الهواء؛ ولمَّا مدَّت يدَها لتجذبها لأسفل، رفرف طرف كُمِّها المُمزَّق كذيل طائرةٍ ورقية …
قالت مينلي بحماسة: «وجدتُها! سنفعل مثلما فعل أجدادكما!» وجثت بسرعة على رُكبتَيها، ودسَّت يدها في حقيبة سفرها بحثًا عن الشيئين المُستعارَين. نظر إليها التنين والطفلان باستغراب وهي تلوِّح بالورقة والخيط أمامهم.
صاحت مينلي: «يُمكننا أن نُرسِل طائرةً ورقية إلى عجوز القمر. سأصنع طائرةً ورقية من الشيئين المُستعارين، هذا كفيل حتمًا بلفتِ انتباهه.»
ابتسم دا-إيه-فو والتنين، وتعاونوا جميعًا على صُنع طائرة ورقية من الشيئين المستعارين. فثبَّتوا الصفحة الممزَّقة من كتاب الأقدار على عودَي الأكل الخاصَّين بمينلي، وربطوا أحد طرَفَي الخيط الأحمر بالطائرة الورقية. ولكن أثناء محاولتهم قصَّ جزءٍ من الخيط — فقد رأت إيه-فو أنها ستبدو أجمل إذا لم يتدلَّ طرَفُ الخيط منها — اكتشفوا أن الخيط المُستعار لا يمكن قصه.
قال التنين وهو يُحاول مرةً أخرى قصَّ الخيطِ بمِخلبه دون جدوى: «إنه خيط من خيوط القدَر. من المنطقي أن نعتقد أنه غير قابل للقص.» كان كلٌّ منهم قد حاول تباعًا أن يقصَّه، حتى دا-فو حاول أن يقضمه بأسنانه.
قالت مينلي: «حسنًا، لسنا بحاجة إلى قص الخيط الزائد لجعل الطائرة الورقية تطير. لكننا هكذا لن نستطيع قص الخيط لإطلاق الطائرة الورقية كي تطير إلى القمر.»
قال دا-فو: «دعيها ترتفع حتى يبلغ الخيط نهايته ثم أفلتِيه من يدِك.»
أومأت مينلي برأسها. كان الاقتراح منطقيًّا. وفيما وقفوا يُحدقون في الخيط الملفوف، قالت مبتهِجةً: «على أي حال، سيبلغ نهايته سريعًا. فهو ليس طويلًا!»
قالت إيه-فو: «آمُل فقط أن يكون هناك ما يكفي حتى تطير الطائرة.»
بدأت الطائرة الورقية تطير، وبدأ دا-فو يركض معها. راقبت مينلي الخيط الملفوف في يدِها بينما كانت الطائرة ترتفع.
ظلَّ كلٌّ منهم يسأل مرارًا وتكرارًا: «هل وصل الخيط إلى نهايته بعد؟» لكن مينلي كانت تهزُّ رأسها نفيًا في كل مرة. بدا أنه لا نهاية للخيط. وحتى حين ارتفعت الطائرة الورقية حتى صارت بحجم خاتمٍ صغير، ظلَّ الخيط مُمتدًّا. ورُويدًا رُويدًا اختفت عن الأنظار، ولم يبقَ ظاهرًا منها سوى الخيط الذي بدا لونه الأحمر باهتًا في السماء المُظلِمة.
قال دا-فو في رهبة: «إنه خيط سحري.»
ردَّ عليه التنين سريعًا: «بالطبع. إنه خيط من خيوط القدَر. إذا كان مُقدَّرًا لنا مقابلة عجوز القمر، فسوف يمتدُّ حتى يصِل إليه.»
قالت إيه-فو مُنبهِرةً: «ربما من المُقدَّر لكما مقابلته إذَن.» لكنها عبست عندما نظرت إلى السماء المُظلمة. وأردفت: «لكنه ليس مُقدَّرًا لنا. دا-فو، يجب أن نعود إلى المنزل. لقد تأخَّرنا كثيرًا. وبعد ما حدث مع النمر الأخضر، يجب أن نحاول تجنُّب إثارة قلق الجدة وإيه-جونج علينا كثيرًا.»
سألت مينلي: «أليس لديكما أي شيء تريدان أن تسألا عجوز القمر عنه؟ يمكنكما تغيير قدركما أيضًا.»
قال دا-فو ضاحكًا: «بلى. ما الذي يجعلنا نُريد تغيير قدرنا؟»
ركض الطفلان نازلَين الجبل، تتلاشى ضحكاتهما في الهواء. هزَّت مينلي رأسها في حيرة، لكنها لوَّحت لهما مُودِّعةً. وبينما راقبتهما يتحوَّلان إلى ظِلَّين بدا وكأنما يرقُصان عائدَين إلى منزلهما وقريتهما، فكَّرت في أُمِّها وأبيها اللذين ينتظرانها في منزلها البعيد.
لما ازدادت السماء قتامةً كما يتخمَّر الشاي، نظرت مينلي والتنين في صمت إلى الخيط الأحمر الممتدِّ إلى السماء. ولكن ما إن بزغ القمر في الظلام حتى شعرت مينلي بالخيط يهتزُّ فجأةً. وبدأ ينشدُّ ويتلوَّى.
صاحت: «شيءٌ ما يحدُث!»
قال التنين: «اسحبي الطائرة الورقية! أعيديها إلى هنا!»
قالت مينلي وهي تشدُّها: «شيءٌ ما تغيَّر! لقد صارت ثقيلةً جدًّا!»
مدَّ التنين يدَه فوق رأس مينلي وأمسك الخيط. وسحبا وشدَّا الخيط معًا. وأثناء سحبهما للخيط، شعرت مينلي وكأنما يسحبان القمر نفسه.
لكن بدا أن الخيط لا نهاية له. وفيما كانا يلفَّان الخيط بدا لهما أنه يزداد سُمكًا. ولما صار بسُمك خنصر مينلي، دوَّت في الهواء قعقعة غريبة تُشبه رنين أجراس الرياح الخشبية.
قال التنين لاهثًا: «شيءٌ ما حدث للخيط.»
بالفعل، حدث له شيء غريب. إذ يبدو أن الخيط — الذي صار أشبه بحبلٍ حريري سميك — قد تشعَّب صانعًا شبكةً طويلة عجيبة تدعمها أعواد خيزران. شهقت مينلي حين دنت منهما الشبكة المُقعَّرة الشكل التي لا نهاية لها.
وقالت لاهثةً: «الخيط، لقد صار … صار جِسرًا!»