الفصل الأربعون
وقفت الأم بجانب النافذة فيما بدأت النجوم في إحداث ثقوب في السماء المخملية الزرقاء الداكنة. في غياب مينلي، كانت الأيام تمرُّ بطيئة، والليالي أبطأ. تساءلت الأم كيف للسمكة الذهبية الفضية أن تظلَّ هادئة في وعائها، بينما تشعر هي أنها تكاد لا تستطيع التقاط أنفاسها. عندما لامس هواء الليل وجهها، فكرت في مينلي، فعضَّت على شفتها وتنهَّدت في أسًى. أغمضت عينيها مُحاوِلةً أن تُمسِك دموعها، وعندما فتحتهما وجدت زوجها يقِف بجانبها.
قال وهو يضع يدَه على يدِها: «أعلم.»
قالت الأم: «الانتظار صعب.»
قال الأب: «أجل، حالنا كالتِّنِّين الذي ينتظر علامةً تدل على لؤلؤته.»
سألت الأم: «التنين الذي ينتظر؟»
قال الأب: «أوه، لا شيء. إنها مجرد قصة.»
نسمت الريح كلمسة المُعالج المطمئنة. وقالت الأم: «لا أُمانع في سماعها. فقد تُسرِّع مرور الوقت.»
نظر إليها الأب متفاجئًا، ثم أومأ برأسه مُبتسمًا ابتسامةً خفيفة.
قصة لؤلؤة التنين
يُحكى أن تنينًا وجد حجرًا أبيض كبيرًا، دوَّره وصقله ماء المُحيط والريح. وفيما كان يتطلَّع إليه بإعجاب، بدأ يلمع في يدَيه. قال التنين لنفسه: «ما أجمله. سأُحوِّله إلى لؤلؤة.»
هكذا، قضى التنين أيامًا وشهورًا وسنوات عديدة مُنهمِكًا في صنع اللؤلؤة حتى إنه أهمل الأكل والنوم. نحت الحجر بمخالبه وصقله بحراشفه. وحمله إلى الغيوم، ودحرجه في قطرات المطر التي سقطت للتو، وغسلَه في النهر السماوي. ولمَّعه ببتلات زهرة الأقحوان البيضاء. وأخيرًا تمَّ الأمر، وأصبح الحجر لؤلؤةً كاملة الاستدارة، تسطع من فرط ملاستها. كانت جميلة لا تشوبها شائبة. عندما نظر التنين إليها، سقطت من عينه دمعةُ إرهاق وفرح، واستقرَّت على اللؤلؤة. وعندما تشرَّبت اللؤلؤة الدمعة، بدأت تتألق مُصدِرةً وهجًا مُذهِلًا. ابتسم التنين فرحًا. ونام على ضوء اللؤلؤة من فرط الإنهاك.
لكن اللؤلؤة ظلَّت مُتوهِّجةً. جذب ضوءها من فرطِ جماله انتباهَ الملكة الأم للسموات. وعندما اكتشفت أن هذا البريق مصدرُه لؤلؤة التنين العجيبة، أرسلت اثنين من خدَمِها لسرقتها. وتمكَّن الخادمان من ذلك بسهولةٍ تامة؛ فقد كان التنين الذي أرهقه العمل لسنواتٍ عديدة يغطُّ في نومٍ عميق طويل.
عندما حصلت الملكة الأم على اللؤلؤة، أذهلَها جمالها. إذ لا تُضاهيها لؤلؤة ولا جوهرة ولا كنز في السماء أو في الأرض. وسرعان ما أمرت ببناء خِزانة في أعمق جزء من مَملكتها لا يُمكن الوصول إليها إلا بالمرور عبر تسعة أبواب مُوصَدة. ووضعت اللؤلؤة في الخِزانة، وربطت مفاتيح الأبواب التسعة في حزامها.
استيقظ التنين فلم يجد لؤلؤته، وبدأ يُفتش عنها مُلتاعًا. جاب المحيطات والجبال والأنهار والوديان. وطار في النهر السماوي، مُتفحصًا كل نجم فيه. لكن لم يكن لأيِّهم الوهجُ النقيُّ الصافي للؤلؤته.
في النهاية، اضطُرَّ التنين إلى التخلِّي عن بحثه. إذ لم يَدرِ أين يبحث عن اللؤلؤة أو أين يمكن أن تكون. لكنه لم يفقد الأمل في العثور عليها. بل ظلَّ ينتظر أن يرى علامةً تدُلُّه على مكانها.
ولم يذهب انتظاره سُدًى. ففي عيد ميلاد الملكة الأم، أقامت احتفالًا كبيرًا. ودعت جميع مُخلَّدي السماء إلى «مأدبة خوخ» قُدِّمت فيها تشكيلة لانهائية من الأطباق الشهية اللذيذة المُعدَّة من خوخ الخلود. وقُدِّم نبيذ الخوخ القوي الطيب الرائحة مع كل طبق، وكلما فرغ كأس الملكة الأم منه طلبت المزيد.
هكذا، عندما أغدقها الضيوف بالمُجاملات وكلمات الإطراء والهدايا الجميلة، قرَّرت أن تتباهى بكنزها المسروق دون تفكير في العواقب. وتهوَّرت قائلةً: «أصدقائي الأعزَّاء، هداياكم وكلماتكم جميلة حقًّا، لكن لديَّ شيئًا يفوقها تألقًا.»
وأخرجت مفاتيحها التسعة، وفتحت الأبواب التسعة، وأخرجت لؤلؤة التنين. ساد الصمت في الحفل حين غمر ضوء اللؤلؤة الساطع القصر وفاض منه إلى جميع أرجاء السموات.
عندما بزغ الضوء في السماء، رفع التنين — الذي كان يقظًا دائمًا — رأسه. وقال وهو يندفع بأقصى سرعته نحو النور: «لؤلؤتي!»
عندما وصل التنِّين إلى قصر الملكة الأم، اخترق حشد من المُخلَّدين المُتملِّقين الذين يتأمَّلون اللؤلؤة بإعجاب في يد الملكة الأم وهو مُمتلئ فخرًا. وصاح: «هذه لؤلؤتي! أعيديها لي!»
استشاطت الملكة الأم غضبًا. وقالت: «بل هي لؤلؤتي، كيف تجرؤ على قول ذلك!»
قال التنين: «إنها مِلكي!» ونظر إلى وجنتَيها المحمرَّتَين وعينَيها المُتهربتَين، وسألها: «لقد سرقتِها، أليس كذلك؟»
صاحت الملكة الأم غاضبةً: «لستُ بحاجة إلى سرقة أي شيء. أنا الملكة الأم للسموات! كل كنوز الأرض والسموات مِلك لي!»
قال التنين: «لم تصنع السموات ولا الأرض تلك اللؤلؤة! بل صنعتُها أنا بعد سنوات من العمل والجهد. إنها مِلكي!»
بدأ الذعر يتملَّك من الملكة، وفرَّت هاربة من القصر إلى الحديقة مُمسِكةً باللؤلؤة. طارَدها التنين مُصمِّمًا على ألا تضيع اللؤلؤة من يده مرةً أخرى. تبعهما ضيوف الحفل، فنتج عن الإثارة والفوضى صخَبٌ عارم دفَع الجدَّ السماوي (الذي كان يميل إلى تجنُّب حفلات ابنته الصاخبة) إلى مُغادرة مكتبه لاكتشاف مصدر الإزعاج.
ركضت الملكة الأم، في ارتباك وتوتُّر، عبر الحديقة مُتقدِّمةً مطاردة عظيمة. ولما وصلت إلى سور الحديقة الذي وضع حدًّا لرحلة هربها اجتاحها الرعب؛ إذ رأت في أثرها لا التنين وضيوف حفلها فحسب، بل والدها كذلك. وعندما وصلوا إليها اجتاحتها نوبة من الهلع، وألقت باللؤلؤة من فوق السور.
صاح التنين في استياء، واندفع الجميع يُطلُّون من سور الحديقة ليروا اللؤلؤة وهي تهوي في أعماق النهر السماوي. وبدا أن اللؤلؤة كبرت حجمًا، وازدادت وهجًا في المياه الزرقاء العميقة التي تفصل بين السماء والأرض.
كان التنين يتأهَّب للغوص في النهر عندما أوقفه الجد السماوي. وقال: «اتركها مكانها، عارٌ عليكما أنتما الاثنان. لا ينبغي لأحدٍ أن يستأثر باللؤلؤة. ألا تريان أنها الآن حيث يجب أن تكون حيث يستطيع كل من في السماء والأرض رؤية جمالها والاستمتاع به؟»
أومأ كلٌّ من التنين والملكة الأم برأسيهما في خضوع، وأشاد الضيوف بحكمة الجد السماوي. وكذلك فعل أهل الأرض؛ إذ صار القمر يُطالعهم متألقًا كلما رفعوا بصرهم إلى السماء.
ساد صمتٌ تُغلفه السكينة بعد أن أنهى الأب القصة. وأخيرًا، تنهَّدت الأم وعلى وجهها ابتسامةٌ صغيرة. وقالت: «لو كانت مينلي هنا، لسألَتك ما إذا كانت هذه القصة حقيقية.»
قال الأب: «وكنتُ سأُضطر إلى إخبارها أنها على الأرجح ليست كذلك. أتذكر أنني في صبايَ لمحت لؤلؤة تنين نادرة. كانت في طريقها إلى الإمبراطور، تحت حراسة مئات الرجال، وكان القمر لا يزال في السماء.»
قالت السمكة: «تُوجَد أكثر من لؤلؤة في المحيط. لذلك بالطبع تُوجَد أكثر من لؤلؤة تنين. لكن لؤلؤة التنين التي تحوَّلت إلى القمر هي الأكبر على الإطلاق.»
نظر الأب بإمعان إلى السمكة ثم إلى الأم، لكن بدا أن كليهما لم تسمع ما قالته الأخرى، ولم ينظر أيٌّ منهما إليه.
قالت الأم: «أتذكَّر أنني سمعتُ عن ذلك الأمر. كان يُقال إن قيمة تلك اللؤلؤة تعادل ثروة الإمبراطور بأكملها. لؤلؤة واحدة. أظن أنها ربما كانت ملكًا لتنين.»
قالت تلك الكلمات غير مشوبة بالرغبة أو الحسد الذي يتملَّكها عندما تتحدث عن ثروات الآخرين. وكأنما غيَّرها ضوء القمر فمحا أثر سنين المرارة والشقاء، وأنزل عليها سكينة يُغلفها الحزن. تأثَّر الأب بذلك كما لم يتأثر منذ سنوات؛ فقد غمره شعورٌ عظيم بالودِّ تجاهها.
لكن الأم استمرَّت في التحديق حالمةً خارج النافذة، غير مُدرِكة لأفكاره ولكلام السمكة على حدٍّ سواء.