الفصل الثاني والأربعون
كانت السماء حول مينلي هادئةً وهي تمشي على جسر الحبال الأحمر. فلم تسمع سوى صوت أنفاسها وخفقان قلبها في صدرها. وبعد أن تلاشى التنين والأرض عن نظرها، لم تعُد مينلي ترى شيئًا حولها سوى الليل. وفي صفحة الليل اللامُتناهية، لم تستطِع تحديد المسافة التي قطعتْها من الجسر أو المسافة المُتبقِّية منه. بدا الجسر وكأنما لا نهاية له، وبدأت تتساءل إن كانت قد سارت لساعات أم أيام.
لكنَّ ظُلمة الليل خفَّت ببطءٍ شديد حتى إن مينلي لم تلاحظ ذلك. ومع كل خطوةٍ كانت تخطوها، كان العالم من حولها يزداد استضاءة. وفي هذا الضوء، رأت مينلي أن السماء تحتها قد تحوَّلت بطريقةٍ ما إلى بحيرة شاسعة من المياه النقية، وأنَّ سُحب الليل ما هي إلا زنابق طافية. وفي الأفق، رأت جدارًا مرتفعًا بدا مُتوهجًا، يمتد أمامها مثل ساحل ناءٍ. كان الجدار أملس ذا لونٍ أبيضَ مائل للصفرة وكأنما صُنِع من اللؤلؤ. وبدا أيضًا لانهائيًّا؛ إذ لم تَرَ أوله ولا آخره.
لكن عندما اقتربت مينلي منه، رأت فتحةً دائرية في الجدار أمامها مباشرة. وفي هذا الممر الدائري، وقف أرنب أبيض مُتسمِّرًا كتمثال من اليشم. لم تُدرك مينلي أنه حي إلا حين نزلت من الجسر فهبَّ واثبًا نحوَها.
قال الأرنب: «مرحبًا. لقد تأخرتِ قليلًا. هل واجهتْكِ مشكلة مع القرود؟»
انعقد لسان مينلي من فرطِ دهشتها. كان الأرنب يُشبه إلى حدٍّ كبير ذلك الأرنب المرسوم على وعاء الأرز الأزرق الذي تملكه. أومأت برأسها فاغرةً فاها.
قال الأرنب: «حسنًا إذَن، لنذهب. عليكِ ألا تُطيلي الحديث مع العجوز؛ فهو مشغول للغاية، ويكره الكلام غير الضروري.»
تبعت مينلي الأرنب عبر الفتحة المُستديرة إلى فناء أبيض وفوق جسرٍ حجري مصقول بدا وكأنما ينبثق من الأرض. وأثناء عبورها الجسر، رأت مينلي صفحة الماء الملساء تتماوج برفق، وسمعت صوتًا يُشبه قرعًا خافتًا. ومن بعيد على أحد الجانبَين، رأت مينلي خيال رجلٍ يقف لقاء صفحة الأرض المُستوية، يقطع شجرةً وحيدة، بفأس تُحدِث ضرباته إيقاعًا هائلًا. ومع كل ضربة فأس، كانت أغصان الشجرة تهتزُّ وتتطاير أوراقها وأزهارها وبذورها في الهواء، وتتساقط في الماء مثل قطرات المطر.
سألت مينلي: «هل هذا عجوز القمر؟» قال الأرنب مُتبِعًا بصرَه نظر مينلي: «هذا؟ أوه، كلا. إنه وو كانج.»
سألت مينلي: «لماذا يقطع الشجرة؟» فقد بدا لها أنه من المؤسِف أن تُقطع الشجرة الوحيدة على الجبل اللامتناهي.
قال الأرنب: «كثيرة هي أسئلتك. حريٌّ بي أن أجعلك تنتظرين حتى تطرحي هذه الأسئلة على العجوز، ولكن إشباعًا لفضولك، فإن وو كانج يحاول قطع تلك الشجرة كل ليلة.»
لم تستطِع مينلي منع نفسها من أن تسأل: «كل ليلة؟»
قال الأرنب «أجل.»
قصة وو كانج
يعتقد معظم الناس أن وو كانج كان محظوظًا جدًّا. إذ كانت له زوجة جميلة وأبناء أصحاء، وكانوا جميعًا يعيشون في كوخ مريح في مزرعة بالريف. كان يسكن معه والداه وشقيقه الأكبر، وكان جيرانه أصدقاء مُخلصين له. لكن وو كانج كان دائمًا يطمع في المزيد. لذلك عندما نمت محاصيله وازدهرت، قرَّر أن الزراعة لم تكن مُرضية له بما فيه الكفاية، وفي اليوم الذي حصد فيه محصوله المُثمر، أخبر أصدقاءه أنه سيُغادر الريف لينتقل إلى البلدة.
سألوه: «لماذا؟»
قال وو كانج: «أريد المزيد.»
قالوا: «لكننا سعداء هنا جميعًا معًا.»
قال وو كانج: «لا يكفيني ذلك.»
هكذا، حزم أغراضه وباع كوخه ومزرعته وأرضه. ثم انتقل مع زوجته وأبنائه ووالدَيه وشقيقه إلى البلدة. كان منزله الأضيق هناك مزدحمًا وغير مُريح، لكن وو كانج الْتحق بالعمل في ورشة صانع أثاث ليتدرب على يده، وبدأت عائلته في التكيُّف مع منزلهم الضيق. لكن كان اليوم الذي تمكن فيه من صناعة كرسي من خشب الزان هو اليوم الذي ترك فيه هذه المهنة وقرَّر الانتقال إلى المدينة.
سأله والداه: «لماذا؟»
قال وو كانج: «أريد المزيد.»
قالا: «لكننا سعداء هنا معًا.»
قال وو كانج: «لا يكفيني ذلك.»
هكذا ترك وو كانج والدَيه وشقيقه، وانتقل مع زوجته وأطفاله إلى المدينة سعيًا وراء المزيد. كان منزلهم الجديد عبارة عن كوخ صغير من الطين محشور بين منازل أخرى مُتداعية في شارع قذِر، وكان أسوأ بكثير من منزله الدافئ الضيق في البلدة أو كوخه المريح في المزرعة. ورغم ذلك تكيَّفت زوجته وأطفاله مع الحياة في المدينة بينما كان وو كانج يبحث عما يُرضيه. لكنه لم يقنع بشيء. فبعد إتقان استخدام المعداد، قرَّر وو كانج ترك التدريب ليعمل مدير متجر. وبعد أن تعلم كيفية حمل فرشاة الرسم، توقف عن الدراسة ليتقلد منصبًا حكوميًّا. كان وو كانج دائمًا يسعي وراء المزيد.
قال له ابنه الصغير: «ربما يجب أن تحاول أن تُصبح مُخلدًا. ذلك غاية ما يتمنَّاه أي أحد.»
قال وو كانج: «أعتقد أنك ربما تكون محقًّا.»
هكذا حزم وو كانج حقيبةً صغيرة، وترك زوجته وأطفاله للبحث عن مُخلَّد يتعلَّم منه. توسَّلت إليه زوجته المفطورة الفؤاد وهو يخرج من الباب.
قالت: «لا ترحل. نحن هنا معًا.»
قال وو كانج: «لا يكفيني هذا.»
بحث وو كانج طويلًا وارتحل بعيدًا، وذات ليلة وجد عجوز القمر. قال وو كانج: «أخيرًا وجدتُ مُخلَّدًا! سيدي، هلَّا علَّمتَني؟»
آثَر عجوز القمر الرفض، لكن وو كانج أصرَّ وتوسَّل إليه. لذلك وافَق العجوز على مضض، وجلب وو كانج إلى الجبل اللامُتناهي.
وبدأ العجوز يُعلِّم وو كانج دروسًا مليئة بالعجائب، لو عرفها الناس لانبهروا بها. لكن امتثالًا لطبعه، لم يتأثر وو كانج بها، وظل يطمح إلى المزيد. عندما علَّمه العجوز كيفية جلب الخيوط الحمراء من حفيدته، إلهة النسيج، عن طريق عبور بحر النجوم بواسطة جسر من طيور الليل، شاهده وو كانج وحذا حذوه، ولكن بعد ثلاثة أيام أدركَه السخط. قال وو كانج: «سيدي، لا بد أن هناك شيئًا آخر يمكنك أن تُعلِّمني إيَّاه.»
هكذا علَّم العجوز وو كانج كيفية ربط خيوط القدر، وإحكام العُقَد بشعاع من ضوء القمر. ودرس وو كانج ذلك وقلَّده، ولكن بعد يومَين شعر بالضجر مُجدَّدًا. قال وو كانج: «سيدي، أعلم أنه يمكنك تعليمي المزيد.»
من ثَم أخرج العجوز كتاب الأقدار المقدَّس، وبدأ في تعليم وو كانج كيفية قراءة نصه. ولكن بعد يومٍ واحد، صاح وو كانج: «لا بد أن هناك ما هو أكثر من هذا!»
حينها أغلق الرجل العجوز الكتاب بقوة. وقال مُوافِقًا: «نعم، هناك ما هو أكثر من هذا.»
ودون أن ينبس ببنت شفة، قاد الرجل العجوز وو كانج إلى منطقةٍ قاحلة في الجبل اللامتناهي. وضرب الرجل العجوز الأرض بعكازه، فنبتت شجرة فضيَّة من بين الصخور. وأثناء تحديق وو كانج، ربط الرجل العجوز أحد خيوط القدر حوله وحول الشجرة.
وقال الرجل العجوز لوو كانج وهو يُسلِّمه فأسًا: «لم يبقَ عليَّ سوى أن أُعلمك درسَي القناعة والصبر. وسأعلم أنك تعلَّمتهما عندما تتمكن من قطع هذه الشجرة.»
هز وو كانج كتفَيه استخفافًا، وبدأ في تقطيع الشجرة بجدية. لم يُدرك أنه مع كل مرة تقطع الشجرة كانت تنمو مرةً أخرى، ومع كل ضربة فأس كانت بذورها تنتثر في بحيرة سماء الليل.
هكذا كلَّ ليلة يقطع وو كانج الشجرة. ولمَّا كان مربوطًا بها بأحد خيوط القدر، فهو لا يستطيع تركها، وصار مُقدَّرًا له أن يُعيد قطع الشجرة حتى يتعلَّم درسه أو ينتهي الزمان.
سارت مينلي في صمتٍ بعد أن أنهى الأرنب القصة، ولبعض الوقت، لم تسمع إلا صوت سقوط البذور المُتطايرة من الشجرة في الماء.
خطر لمينلي أن هذه البذور تسقط فعلًا عبر السماء إلى الأرض. إنها البذور التي تسقط على قرية مطر القمر! محاولات وو كانج لقطع الشجرة هي مصدر مطر القمر العجيب. والأشجار المُزهرة تنبت من بذور الشجرة الموجودة على الجبل اللامُتناهي …
لكن في تلك اللحظة، قاطع الأرنب، الذي توقف فجأةً، أفكار مينلي.
قال الأرنب مشيرًا نحو فتحةٍ دائرية في جدار حجري: «هناك بالداخل، ستجدين عجوز القمر.»