الفصل الثالث والأربعون
تقدَّمت مينلي خطوةً واحدة إلى داخل الفناء المُسوَّر ثم توقَّفت. كانت الأرض مُغطاة بخيوط حمراء لا حصر لها تُشبه نسيج الدانتيل الدقيق. وكان يتشابك مع الخيوط الحمراء آلاف التماثيل الفخارية الصغيرة، التي لا يتجاوز طول كلٍّ منها طول إصبعها؛ وفي الوسط بالضبط، مثل العنكبوت، كان يجلس عجوز القمر.
كان يجلس مُتربِّعًا يستقر في حجره كتابٌ ضخم. وكان منكفئًا على تمثالَين فخاريين في يده؛ لذا لم تَرَ مينلي إلا قمَّة رأسه. لكنها رأت يدَيه النحيلتَين المُجعَّدتَين، وهو يربط بهما بمهارةٍ التمثالَين الموضوعَين في حجره بخيطٍ أحمر. كان بجانبه حقيبة مفتوحة من الحرير الأزرق مليئة بالخيوط الحمراء، وقد ذُهِلَت مينلي عند رؤيتها. فقد رأت تلك الحقيبة من قبل! الحرير الأزرق الداكن، والتطريز الفضِّي، إنها الحقيبة التي كانت صديقة راعي الجاموس تحمِلها في تلك الليلة المُضيئة بالنجوم. أدركت مينلي أنها إلهة النسيج! إنها تغزل الخيط الأحمر من أجل عجوز القمر. كانت تعرف أن بها شيئًا مُختلفًا. لا عجب أنها عرفت أين يُمكنها العثور على الملك.
مدَّ العجوز يدَه إلى عكَّازه الذي استقر بجانبه — الذي كان عصًا خشبية مُنثنية ومُلتوية — وضرب بها الأرض. وفي صمتٍ طفا التمثالان الطينيَّان بين يدَيه، وحلَّقا في الهواء، ثم استقرَّا على الأرض على الجانبين المتقابلين للفناء. كان خيط العجوز لا يزال يربط بينهما، وانتسج مع الخيوط الأخرى المُحيطة به.
وبينما كانت مينلي تُحدق، نظر إليها الرجل العجوز. بدا شعر لِحْيته الفِضي وكأنما يتدفَّق مثل شلَّالٍ مُتوهِّج، ويختفي في ثنايا ردائه، وكانت عيناه الداكنتان تُشبِه ظلمة سماء الليل.
قال العجوز: «آه، هذه أنتِ.»
أومأت مينلي برأسها وانحنت بشدة. كانت ستجثو على رُكبتَيها على الأرض لولا أنها خشِيَت أن تُخلَّ بنظام التماثيل الفخارية التي تستقر على الأرض عند قدَمَيها.
قال العجوز بنفاد صبر: «تعالي إلى هنا، إذَن»، ونقر بعصاه على الأرض مرة أخرى. وبصوتٍ يُشبه رفرفة أجنحة الطير، تحرَّكت التماثيل الفخارية مُفسِحةً الطريق لمينلي.
قال العجوز: «أعلم أن لديكِ أسئلة لي. فكلَّ تسعة وتسعين عامًا يأتي شخصٌ ما إلى هنا ليطرح عليَّ أسئلة. لكنني لن أُجيب إلا عن سؤالٍ واحد. لذا اختاري سؤالك بعناية.»
سؤال واحد! كادت مينلي أن تتوقَّف عن المشي مذهولةً. إذا لم يكن مسموحًا لها إلا بطرح سؤالٍ واحد، فلن تتمكن من طرح سؤال التنين نيابةً عنه! إلا إذا … إلا إذا لم تطرح سؤالها.
شعرت مينلي وكأنها سمكة تُجاهد لالتقاط أنفاسها. ماذا ستفعل؟ انهمرت عليها مثل رذاذ الماء المُتناثر من البحيرة ذكريات العمل الشاق في حقول الأرز، ويدَي والدها المُتعَبتَين، والأرز البسيط في أوعية العشاء، وتنهدات أُمِّها. كان عليها أن تُغيِّر قدرَها؛ لذا لا بد لها أن تسأل عن كيفية ذلك.
لكن عندما فكَّرت مينلي في التنين الذي كان ينتظرها بصبر، شعرت كأنها تلقَّت ضربة. ومثل البذور المتساقطة من شجرة وو كانج، انهمرت عليها مثل قطرات المطر ذكرياتها مع التنين؛ ضحكاتهما أثناء مرورهما بالقرود، ومُعاناته وهو يجاهد للسير في الغابة، وزئيره المدوِّي وهو يطيح بالنمر الأخضر في الهواء، ويده الحنونة التي وضعها على كتفها عندما بكت، والنظرة المتفائلة في عينَيه عندما رحلت. قالت مينلي لنفسها: «إن التنين صديقي. ماذا ينبغي أن أفعل؟»
أخذت أفكار مينلي تَغلي بداخلها سريعًا مثل الأرز، وبدت كل خطوة تخطوها ترتج، ولم تكن مينلي متأكدةً ما إذا كان صوت الدقِّ مصدره ضربات قلبها أم فأس وو كانج بعيدًا. وأثناء مرورها بالتماثيل الفخارية، خُيِّل لها أنها ترى تماثيل لبائع الأسماك الذهبية، وراعي الجاموس، والملك، ودا-إيه-فو، تُراقبها بصمت. وشعرت أن قدمَيها تتجاهل توسُّلاتها بالتمهُّل؛ ومثل طائرة ورقية تُسحَب، كانت تنجذب نحو عجوز القمر دون تَرَوٍّ. وقبل أن تُقرِّر مينلي أي سؤال تطرح على عجوز القمر، وجدت نفسها أمامه.
نظر إليها عجوز القمر بترقُّب، بعينَيه السوداوَين الغامضتَين كسماء الليل. ونظرت مينلي إلى الكتاب المفتوح في حجره. ميَّزَت الصفحة المفتوحة، إنها الشيء المُستعار الخاص بالملك؛ إذ كانت الطيَّات الخفيفة والثقوب التي أحدثتها فيها عندما حوَّلتها إلى طائرة ورقية لا تزال موجودة. ومع ذلك، كانت الورقة مُثبَّتة في الكتاب دون أثرٍ يدلُّ على أنها مُزِّقت إلا سطرًا رفيعًا يُشبه الندبة.
وتغيَّرت الكلمات مرةً أخرى. كان هناك سطر واحد من الكلمات يمتدُّ بطول الصفحة. وعندما نظرت إليه مينلي، أدركت لأول مرة أنها تستطيع قراءة الكلمات؛ أو بالأحرى الكلمة. إذ كان السطر مكوَّنًا من كلمةٍ واحدة فقط، مكتوبة مرارًا وتكرارًا. وكانت تلك الكلمة هي «الامتنان».
وفجأة، بوضوح ضوء القمر عندما تنقشع عنه الغيوم، عرفت مينلي أي سؤال تطرح.
قالت: «هناك تنين ينتظرني عند أول الجسر. لماذا لا يستطيع الطيران؟»