الفصل الخامس والأربعون
انتظر التنين. تعاقبَت عليه الأيام والليالي، لكنه لم يبرح مكانه عند الجسر. كانت النجوم تملأ السماء كل ليلة مثل نُدَف الثلج المتساقِطة على حجر أسود ثم تذوب مع ارتفاع الشمس. وعندما تشرق الشمس، كانت خيوط الجسر الحمراء تذوب في السماء، ويبدو الجسر وكأنما يختفي، ولا يظهر مرةً أخرى إلا في الليل. كانت رياح قارسة البرودة تهبُّ وسط الضباب الفضي، وكانت الصخور الباردة صلبةً وقاسية. ومع ذلك ظل التنين منتظِرًا.
ولكن في الليلة الثالثة، ما إن بدأ القمر ينحدر إلى مغربه، حتى رأى ظلًّا باهتًا لشخص على الجسر. وعندما استبان الظل شيئًا فشيئًا، قفز التنين وزأر فرحًا. لقد كانت مينلي!
صاح التنين قائلًا: «لقد عُدتِ! هل قابلتِه؟ هل طرحتِ سؤالي على عجوز القمر؟»
ضحكت مينلي وهي تُعانق التنين: «نعم، نعم، سألته. وأجاب عنه. لذلك الآن أنا أعرف! أعرف كيف بإمكانك الطيران!»
سأل التنين: «كيف؟»
اعتلت مينلي ظهر التنين. وأمسكت الكُرة الحجرية التي تستقر على رأسه بكِلتا يدَيها.
قالت له: «خذ نفَسًا عميقًا»، ثم جذبَت بكل قوتها الكرةَ من رأسه حتى خلعَتها.
صرخ التنين: «آه، هذا مؤلِم!» لكن بعدَها بدأ يبتسم. وقال: «أشعر بخفة وسكينة بالِغَين.»
قالت له مينلي: «قال عجوز القمر إنك لن تتمكن من الطيران إلا عند إزالة الكرة من على رأسك. قال إنها تُثقل وزنك.»
قال التنين ضاحكًا: «هذا صحيح!» وتشبَّثت مينلي برقبته بذراعها الأخرى وهو يرتفع في الهواء. وعندما طار التنين للمرة الأولى، بدا وكأن الرياح تُشاركهما ضحكاتهما العالية وترفعهما نحو السماء. ولفَّتهما السُّحب الفضية ثم تباعدَت حين حلَّق التنين في السماء وكأنما تماوجت له صفحتها، وبدا القمر الشاحب بوهجه الناعم وكأنما يبتسم لهما. وبينما كانا يُحلقان فوق النجوم، أغمضت مينلي عينَيها في بهجة.
عندما هبطا إلى الأرض، سألها التنين: «ماذا عنكِ؟ هل أخبرك الرجل العجوز كيف تُغيِّرين قدرك؟»
صمتت مينلي. فالتفت التنين ناظرًا إليها.
سألها: «ماذا حدث؟ ألم يُخبركِ؟»
قالت مينلي: «لم أسأله. لم يسمح لي إلا بسؤالٍ واحد.»
قال التنين: «ماذا؟ لكنك بحاجة إلى معرفة الإجابة! لقد تكبَّدتِ عناء كل هذه الرحلة. يُمكننا أن نطير إلى هناك مرةً أخرى وتطرحي عليه السؤال!»
قبل أن تتمكن مينلي من الاعتراض على ما يقول، بدا أن جسر الحبال الأحمر وكأنما يَصرخ، وعندما التفتا لينظرا إليه، بدأت أوتاد الخيزران تنقلع من الأرض، مُخلِّفةً شقوقًا قبيحة، فيما سُحِب الجسر بعيدًا عن الأرض. واهتز الجسر بعُنف، وأصدرت دعائم الخيزران صوتَ قعقعة عندما سُحِب لأعلى إلى الظلام.
قالت مينلي: «لن يُقابلني عجوز القمر مرةً أخرى. ولن يُجيب على أي سؤال لمدة تسعة وتسعين عامًا أخرى.»
قال التنين مُتلعثِمًا: «لكنك … وقدَرك، ووالداك …»
قالت له مينلي: «لا بأس. عندما حان وقت الاختيار، أدركتُ فجأة أني لستُ مُضطرة لأن أسأله سؤالي.»
قال التنين: «حقًّا؟»
قالت مينلي: «نعم»، وفجأةً اجتاحتها الذكريات. وسمعت ضحكة راعي الجاموس وهو يرفُض مالها، ورأت ابتسامة الملك السمحة وهو يتخلَّى طواعيةً عن كنز عائلته، وتذكَّرَت كلمات دا-إيه-فو الأخيرة لها. فقد قالا: «ما الذي يجعلنا نُريد تغيير قدَرِنا؟» حينها، هزَّت مينلي رأسها في ارتباك، لكن الآن، أخيرًا فهمت كل ذلك. فالثروة ليست منزلًا مليئًا بالذهب واليشم، بل هي شيء أثمن من ذلك بكثير. شيء كانت تملكه بالفعل وليست بحاجة إلى تغييره. قالت مينلي مرةً أخرى وهي تبتسم: «لم أسأل سؤالي لأنني لستُ بحاجة إلى معرفة الإجابة.»