الفصل السادس والأربعون
بدأ القمر يختفي، وبدت من خلاله السماء التي تزداد سطوعًا. بدأت الشمس تشرق، واجتاحت مينلي رغبة في العودة إلى ديارها في أسرع وقتٍ مُمكن. وكان التنين قد نال كفايته من الراحة بعد أن أرجآ الرحيل ثلاثة أيام وليالٍ؛ لذلك قرَّرا مُغادرة الجبل اللامتناهي في الحال.
عندما حلَّق التنين في السماء، انزاح عن مينلي كل ما كان يُثقل كاهلها. فقد بدا التنين وكأنما يرقص في الهواء، وجعلتها سعادته تشعُر أنها خفيفة كالسُّحب التي تُحيط بها. وبدا أن الشمس كانت تُدفئ قلبها والفرحة تملؤها. إذ أدركت أنها قد طرحت السؤال الصحيح.
قبل مغادرتهما، حلَّقت مينلي والتنين فوق قرية مطر القمر. رآهم دا-إيه-فو والجدة وإيه-جونج وأهل القرية، فخرجوا من أكواخهم الحجرية، ولوَّحوا لهما بأكمامهم المُمزَّقة. وصاحت الجدة وعلى وجهها ابتسامة عريضة: «لا تتوقَّفا، عُودا إلى الديار.» أومأت مينلي برأسها، وظلَّت تلوِّح لهم مُودِّعةً حتى بدت الأشجار المزهِرة مثل ضربات فرشاة من الطلاء الذهبي على الجبل.
أصبح السفر أسرع بكثير على ظهر التنين الطائر. ففي لمح البصر أصبحا فوق مدينة ضوء القمر الساطع، ومن السماء بدت شوارع المدينة الداخلية والمدينة الخارجية كمتاهةٍ عملاقة، وبدا الحارسان الحجريَّان كما لو كانا حليتَين من الفخار نُحتتا على هيئة كلبَين. ورأت مينلي سقف كوخ راعي الجاموس المُتهالِك، لكنها لم تلمحه هو شخصيًّا. خطر لها أنه على الأرجح في الداخل نائم، وتساءلت إن كانت إلهة النسيج قد زارته ليلة أمس.
ولكن أثناء عبورهما الخليج المُتاخِم للمدينة، رأت مينلي شيئًا غريبًا كأنه ظِلٌّ برتقالي يندفع بسرعةٍ عبر السماء. رآه التنين أيضًا فأبطأ من سرعته. لمَّا اقترب منهما الظل البرتقالي، اتضحت لهما ماهيته. كانت تنينة!
كان لونها برتقاليًّا كلون ثمرة مانجو ناضجة من الداخل. وعندما رأت مينلي والتنين، ابتسمت في دلال.
قال التنين بنبرةٍ غير معتادة: «مرحبًا.» فنظرت مينلي إليه متفاجئة.
لكن التنينة البرتقالية واصلت الطيران دون أن تنبس ببنت شفة. وفي أثناء مرورها بهما، غمزت لهما بعينها. تسمَّر التنين في الهواء، وكأنما صُعِق. وراقب التنينة البرتقالية تبتعد هابطةً نحو الماء في الأسفل حتى أصبحت بحجمِ نقطةٍ برتقالية.
سألت مينلي التنين وهو يُواصل التحديق: «هل أنت بخير؟ لا بد أنك مُتحمِّس لرؤية تنينٍ آخر أخيرًا.»
قال التنين وكأنه في حالة ذهول: «هذا صحيح.» ثم انتفض وكأنما يُحاول إيقاظ نفسه. «لكنني سأعثر عليها مرةً أخرى لاحقًا. سأُعيدك إلى الديار أولًا.»
هزَّت مينلي كتفَيها. كان التنين يتصرَّف بغرابة. ولكن كان هناك شيء مألوف في تلك التنينة البرتقالية، ربما انعكاس ضوء الشمس على حراشفها وكأنها حراشف سمكة تتلألأ في الماء، وتلك العينان المُطلعتان اللتان تُومئان كما لو كانت تعرفها. حينها علت ابتسامةٌ وجْهَ مينلي.
مرَّت الساعات، وصارت معالم الأرض من تحتهما مُبهَمة. من آنٍ لآخر كانت مينلي تغفو؛ فقد كانت الرحلة على ظهر التنين وهو يطير سلِسةً، فساعدتها على النوم بسهولة. وانبهرت مينلي بالمسافة التي قطعاها وسُرعتهما في السفر جوًّا. كانت الشمس قد بدأت في الغروب في الأفق عندما رأيا حافة غابة الخوخ. وبدت قِمم أشجار الخوخ تتأرجح وكأنما تُرحِّب بهما أثناء تحليقهما فوقها، ومع استمرارهما في الطيران، خُيِّل لمينلي أنها رأت القرود لا تزال عالقةً في شبكة صيد السمك حول قِدر الأرز.
لكن التنين كان لا يزال يتصرف بغرابة. وعندما ظهر الجبل القاحل، بقمَّته السوداء المألوفة التي كانت تخترق سماء الغروب المتَّشِحة باللونَين البرتقالي والوردي، كاد التنين يتوقف عن الطيران.
وسأل مينلي: «أي جبل هذا؟»
قالت له مينلي: «إنه الجبل القاحل. ويقع منزلي خلفه مباشرةً بجوار نهر اليشم.»
قال لنفسه: «الجبل القاحل»، ومع أنه واصل الطيران بدا ذاهلًا. تساءلت مينلي عما إذا كان الطيران قد جعله بطريقةٍ ما يشعر بالدوار. لكن قلقها عليه أفقدها تركيزها. وحل المساء، وتلاشت الحدود المُظلمة للجبل القاحل في السماء المليئة بالظلال. مع ذلك كانت مينلي لا تزال ترى أنهما يقتربان من نهر اليشم والجبل القاحل مع كل لحظة تمُر. ها قد أوشكت على الوصول إلى بيتها!
لكن، عندما وصلا إلى الجبل القاحل، توقَّف التنين فجأةً. وهبط بخفَّة عند سفح الجبل القاحل، حيث أخذت مينلي منذ فترة طويلة قطعةً من الحجر لصُنع بوصلتها.
قال التنين: «هذا هو الجبل القاحل»، ونظرت إليه مينلي مرةً أخرى. لقد كان يتصرف بنحوٍ خارج عن المألوف بكل تأكيد.
قالت مينلي وقد احتارت بعض الشيء: «نعم. تقع قريتي وراءه على مقربة. يمكنني متابعة الطريق مشيًا من هنا إن أردت.»
سأل التنين: «هل تُمانِعين في بقائي هنا؟ لسببٍ ما، أشعر أنني لا أريد أن أبرح ذلك المكان.»
قالت مينلي: «كلَّا، لا مانع لديَّ. هل أنت بخير؟»
نظر إليها التنين وابتسم. وقال: «نعم. أشعر أنني في دياري، وهو شعور أستغربه.»
قطَّبت مينلي جبينها في حيرة، لكنها كانت مُتلهفة جدًّا للعودة إلى المنزل إلى والدَيها؛ لذا لم تطرح مزيدًا من الأسئلة. عانقت مينلي التنين مُودِّعةً إيَّاه. ومع أنه عانقها بحرارة، شعرت أنه مُشتَّت الذهن. ومدَّت إليه يدَيها بالكرة التي كانت قد خلعتها من رأسه. وقالت: «هل تريد هذه؟»
نظر إليها التنين شاردًا وقال: «لا. يُمكنك أخذها.»
هزَّت مينلي كتفيها مرةً أخرى، لكنَّ رغبتها في العودة إلى المنزل بدأت تلحُّ عليها بقوة. فلوَّحت للتنين مُودِّعةً، وانطلقت تعدو نحو القرية.
كان الوقت متأخرًا في الليل عندما وصلت أخيرًا إلى المنزل. وكانت القرية النائمة ساكنة، وعندما تسلَّلت مينلي داخلةً منزلها، استقبلتها السمكة الذهبية الباهتة.
قالت لها السمكة: «لا تُحدِثي ضوضاء. والداك نائمان. مَرحبًا بعودتك إلى المنزل.»
تفاجأت مينلي قليلًا لرؤية سمكةٍ ذهبية، لكنها حيَّتها بابتسامة. كسا ضوء القمر الأرضية الخشنة، فملأ الردهة البسيطة بوهجٍ فضِّي، وبدا وعاء السمكة الذهبية وكأنه قمر ثانٍ. وبدت الجدران المُتهالِكة والأحجار البالية متلألئةً كما لو أن حجابًا شفَّافًا من الحرير يُغطيها، ويُخفي أي عيوب بها، ويحول المنزل إلى مُستقَر للضوء الساطع والظلال الرقيقة. لم ترَ مينلي منزلها بهذا الجمال من قبل.
وضعت حقيبتها وحجر التنين على الطاولة، ودخلت إلى غرفتها ماشيةً على رءوس أصابعها. وبابتسامة على وجهها أوَت إلى فراشها وخلدَت إلى النوم.