الفصل الثامن والأربعون
وضع بائع الأسماك الذهبية يدَه فوق عينَيه ليستظلَّ من الشمس وهو يدفع عربته بمحاذاة نهر اليشم. أجل، ها قد أوشك على الوصول. كم مضى على آخِر زيارة؟ سنتان؟ ربما ثلاث. قال في نفسه إن قرية الجبل القاحل الفقيرة لا بد أنها على مَقربة من هنا.
لكن ربما كان مخطئًا. فآخِر مرة زارها، كان الجبل الأسود الذي تنشُر ظلاله الكآبة على القرية هو أبرز معالمها. أمَّا الآن فلا يرى خياله المُظلِم في السماء؛ في الواقع، بدا المنظر الطبيعي كما لو كان من لوحةٍ سماوية. إذ استقر أمامه جبلٌ أخضرُ مَهيبٌ يتناغم مع السماء الزرقاء العميقة، وكانت الشمس تنشُر آخِر ضوئها قبل المغيب. هل سلك مُنعطَفًا خاطئًا في مكانٍ ما؟
وبينما كان يتأمل المنظر، لفت نظرَه كائنان يطيران في السماء. كان هناك تنين أحمر ورفيقة له برتقالية، وكانا يمرحان بين السُّحب … مهلًا، تنانين؟ هزَّ بائع الأسماك الذهبية رأسه غير مُصدِّق، وفرك عينَيه، ونظر مرةً أخرى. لم يُطالعه سوى السماء ذات الضوء الخافت والسُّحب التي تُشبه مِروحةً من الريش تُحرك الرياح. قال في نفسه إن ذلك مَحضُ خيال حتمًا.
مضى بائع الأسماك الذهبية دافعًا عربته. وترقرق الماء في أوعية الأسماك وتماوج فيما حدَّقَت الأسماك في صمت، وتلألأت ألوانها الزاهية أمام الأرض الخضراء الوفيرة، مثل الذهب واليشم.
عندما دخل بائع الأسماك الذهبية القرية، راوَده الشكُّ مجدَّدًا فيما إذا كان في المكان المنشود. فقد اصطفَّت أحجار ملساء على جانبَي الطريق، وبدلًا من المنازل البسيطة المصنوعة من الألواح الخشبية التي يتذكرها، اصطفَّ على جانبَي الشارع أبوابٌ خشبية فخمة بعضها منقوش بإتقان. وبينما كان يدفع عربته في الشارع الضيق، ركض إليه أطفال مُفعَمون بالحيوية يرتدون ملابس ذات ألوان مُبهِجة كمهرجان للطائرات الورقية الحريرية. وصاحوا: «أسماك ذهبية! أسماك ذهبية! أمي! أبي! هل يُمكننا الحصول على واحدة؟»
اقترب الآباء والأمهات مُبتسِمين بسماحة في وجوه أطفالهم، وعندما حلَّ الليل كان بائع الأسماك الذهبية قد باع كلَّ بضاعته. من الواضح أن هذه ليست القرية الفقيرة التي أتى إليها من قبل، حيث لم يشترِ أحدٌ منه إلا تلك الفتاة التي ابتاعت سمكة.
لكنه تذكَّر بعد ذلك أنه سمع قصةً عن عائلة كانت تعيش بجوار نهر اليشم أهدت ملك مدينة ضوء القمر الساطع لؤلؤة تنين دون مقابل. وتعبيرًا عن امتنانه، أهدى الملك للقرية بأكملها بذورًا ومعداتٍ زراعية جلبت لها رخاءً أكثر مما يمكن أن تجلبه أي مكافأة من الذهب واليشم. ربما هي تلك القرية.
سأل بائع الأسماك الذهبية فتاةً صغيرة ترتدي سترةً من الحرير الوردي الفاتح وسروالًا أخضر: «أيتها الصغيرة، آخِر مرة كنتُ هنا، آخر مرة أتيتُ فيها إلى قرية الجبل القاحل، كانت هناك طفلة هربت من الديار. ماذا حدث لها؟»
قالت الفتاة ناظرةً إليه في استنكار كأن الفكرة غريبة عليها: «هربت من هنا؟» ثم أومأت برأسها. «لا بد أنك تقصد مينلي! حدث ذلك حينما كانت تلك القرية تُسمَّى قرية الجبل القاحل. هي الآن تُسمَّى قرية الجبل المُثمِر.»
قال بائع الأسماك الذهبية: «أجل، مينلي. أعتقد أن هذا كان اسمها. ماذا حدث لها؟»
أشارت الفتاة بذراعها قائلةً: «تسكن هي وعائلتها هناك. لقد بنَوا فناءً أمام منزلهم وخلفه. إنه خلف تلك البوابة المرسوم عليها صورتَا الطفلَين المحظوظَين.»
دفع بائع الأسماك الذهبية عربته الفارغة إلى البوابة التي أشارت إليها. كان كلٌّ من مِصراعَي الباب القرمزي يحمل لوحةً لطفلٍ باسم مُستدير الوجه يرتدي ملابس حمراء زاهية. كان من المُستحيل ألا يبتسِم المرء عند رؤية وجنتيهما الورديَّتَين وابتسامتهما المرحة، وعندما أمسك بأحد مقبضَي الباب المعدِنيَّين اللذَين يتخذان شكل رأس أسدٍ مبتسم، أدرك أن اللوحة على اليسار كانت لفتاة، وأن اللوحة على اليمين كانت لفتًى.
انفتح الباب بمجرد أن طرقه بائع الأسماك الذهبية، وظهرت أمامه امرأة لم يتعرف عليها. وازدادت حيرته حينما ألقت بذراعَيها حوله وكأنها صديقة قديمة.
قالت له وعلى وجهها ابتسامات مُبتهِجة: «أنت! تفضل، تفضل! سيسعد زوجي برؤيتك!»
تبع بائع الأسماك الذهبية، الذي انعقد لسانه من الدهشة، الأمَّ عبر البوابة. هل هذه هي الأم ذات العينَين الغاضبتَين التي التقى بها في الغابة منذ فترةٍ طويلة؟ نعم، هذه المرأة ذات الوجه البشوش، والمعطف الأرجواني المطرَّز بنقوش لأشجارٍ مُزهِرة، المرأة نفسها. هزَّ رأسه غير مُصدِّق.
عندما نظر أمامه، أدرك أن الفناء كان بمثابة بِرْكة من نبع السماء؛ إذ بدا أن النجوم والليل يتدفَّقان إليه بلا انقطاع. تساءل في نفسه: هل بُني الفناء لهذا الغرض فقط؟ تدفَّق الضوء من المنزل خلال الأبواب ذات الزخارف الشبكية، فأضاء الفناء مثل مصباحٍ مضيء. في الداخل، كان الأب مُحاطًا بزوَّاره من الأطفال الذين عرفهم بائع الأسماك الذهبية؛ إذ اشتروا منه الأسماك قبل قليل. كان بعض الأطفال يلعبون على الأرض بألعاب من الفخار على شكل صِبيان وجواميس وقرود وأرانب، بينما كان الأب يقدم الشاي للبعض الآخر. قال وهو يقدم كوبًا لطفل: «هذا الشاي هدية من أصدقائنا الذين يقطنون بعيدًا عن هنا. إنهم يُسمونه «شاي تعافي التنين» …»
صاحت المرأة: «زوجي. زوجي! انظر من جاء!»
عندما رأى الأب بائع الأسماك الذهبية قطع حديثه، وعلَت وجْهَه ابتسامةٌ عريضة. وصاح قائلًا: «مرحى! إنه صديقي العزيز!»
قبل أن يتسنى له أنه ينحني بكياسة تحيةً له، احتضنه الأب بحرارة مثلما فعلت الأم. وقال: «تعالَ، تفضل باحتساء بعض الشاي. ستُحضر زوجتي بعض الكعك والأطعمة الخفيفة.»
أخيرًا انفكَّ لسان بائع الأسماك الذهبية. وقال: «يسرُّني أن أراك أنت وزوجتك في غاية السعادة والازدهار. مررتُ بكم فقط لأرى ما إذا … فآخِر مرة التقينا كانت … كيف حال ابنتك؟»
قال الأب ضاحكًا وهو يشير بيده نحو البيت: «مينلي؟ إنها في الخلف. ستسعد برؤيتك أيضًا، لكنها ستأتي بعد قليل. فهي تُحب أن تُراقِب القمر في هذا الوقت من الليل.»
قال بائع الأسماك الذهبية: «هذا يعني أنها عادت. كنتُ أعرف أنها ستعود. ماذا حدث؟»
ضحك الأب مرةً أخرى وقال: «آه يا صديقي. لقد أتيتَ في الوقت المناسب. لماذا تعتقد أن هؤلاء الأطفال موجودون هنا؟ إنهم يأتون إلى هنا كل ليلة لأنهم يريدون سماع القصة مرةً أخرى، قصة رحلة ذهاب مينلي إلى الجبل اللامُتناهي وعودتها منه! تعالَ اجلس! ستسمعها للمرة الأولى.»
جلس بائع الأسماك الذهبية بحماسة على مقعدٍ حجري يحتسي كوبًا من الشاي طيب الرائحة. تجمَّع الأطفال حول الأب مُتحمِّسين ومُتلهِّفين لبدء القصة. ولكن عندما دخلت الأم إلى المنزل لإحضار الأطعمة الخفيفة، تركت الباب مفتوحًا على مِصراعَيه، ولم يستطِع بائع الأسماك الذهبية منع نفسه من أن يسترق النظر إلى داخله.
من خلال المنزل، رأى الفناء الخلفي حيث جلست فتاةٌ صغيرة على مقعد، واستقرَّت عند قدمَيها بركة أسماك صغيرة. تدفَّق ضوء القمر غامرًا كلَّ شيء وكأنه ماء الذهب والفضة؛ مما جعل الأسماك تلمع مثل اللآلئ، والفتاة تتألق بوهجٍ سِحري لا يليق إلا بنجوم السماء. لكن من الواضح أن مينلي كانت غير مُدرِكة لكلِّ ما حولها، منغمِسةً في أحلامٍ بعيدة. وحتى في الضوء الضبابي، رآها بائع الأسماك الذهبية تبتسم ابتسامةً سِرية إلى السماء، حيث يلتقي الجبل والقمر.