مصر الخلود
يشهد تاريخ مصر بأنها خُلقت للخلود .. ولم تخلق لتُسترقَّ أو لتستعبد .. ولدت حرة فلا بد أن تظل حرة إلى أبد الدهر .. فقد دخلها من دخلها، كما يحكي التاريخ .. وغزاها من غزاها، بل وأحرقها أهلها يومًا، ومع ذلك بقيت مصر .. وما انهارت ولا انمحت أو حذفت من خريطة الدنيا .. بل بقيت لتمسك بيد الزمن، لا لتكون ألعوبة في يد الزمن.
مصر الخلود رمز للبقاء الإنساني الشريف العفيف .. ففي مصر توجد القيم والمثل، ومن مصر خرجت تعاليم الإنسان كلها .. فهي مهد الحضارات، ومنارة الثقافات، وجامعة الهندسة والمعمار والكيمياء .. ولا يرجع خلود مصر إلى خلود آثارها فحسب، بل إن خلود آثارها هو العنوان الواضح والدليل الدافع على أن مصر قد خلقت للخلود وليس لتحذف أو تنمحي من الوجود.
مهما يحاول الاستعمار حاليًّا القضاء على مصر وعلى أرض مصر، واستقلال مصر .. فلن يتمكن هذا الاستعمار، بأية حال من الأحوال، أن يقضي على روح مصر .. فروح مصر في بنيها وأهلها، وكلهم أسودٌ أشدَّاء يموتون فداءً لمصر، ولكي تحيا مصر .. إنهم ساهرون متيقظون متحفزون ليكتبوا الخلود لمصر .. فهي بأولادها الشجعان باقية، كما تبقى قصص الأبطال، وتخلد أعمال الصناديد الشجعان .. مصر لا تهزُّها الأحداث مهما عظمت تلك الأحداث؛ لأنها تقف على قاعدةٍ صلبة من ملايين الفدائيين، الذين لا يخافون الموت ولا يرهبون الردى، حتى ولو جاءهم من كل حدب وصوب.
لئن خلد الفراعنة مصر من قبلُ بآثارهم وأهراماتهم ومعابدهم وفراعينهم الجبارة، فاليوم يخلدها شعبٌ جديد لا يقلُّ روعة عن شعب مصر القديم .. شعب قُدَّ من حديد، بل من فولاذ .. شعب واعٍ مدرك لا تخيفه الأخطار ولا تفزعه أبواق الحرب الضروس .. شعب جُبل على التضحية والفداء .. شعب فُطر على الجود والسخاء .. يجود بالروح والنفس والجسد والمال .. شعب يضع مصر فوق كل اعتبار .. لا يهمه أن يموت، ولكن يهمه أن تبقى مصر خالدةً مرفوعة الرأس، منتصبة القامة، تمسك بأغصان الزيتون في يد وبالمدفع في اليد الأخرى، ولسان حالها يردد شعارها: «نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا» .. هذه يا سادة، هي مصر الخلود.