مصر لا تنام
كيف لأمةٍ عظيمة كمصر، أن تنام .. كلا، لن تنام مصر، ولا يمكن أن تنام ولو لحظةً واحدة .. فمن مزايا مصر النادرة، أن تسهر على بنيها وأولادها ليل نهار، حتى وهم نيام .. فهي تسهر لتحرسهم وتقيهم وتصونهم وتحفظهم وتحميهم من شرور الليل وأذى الظلام وخطر المعتدين المتربصين لها آناء الليل وأطراف النهار.
شريان مصر نابضٌ فتيٌّ، لا يعرف الجفاف ولا يعرف الجدب .. إنه النيل الذي، أقل ما يمكن أن يوصف به، أنه نهرٌ أصيلٌ جليلٌ طويل، ماؤه عذبٌ سلسبيل، يروي العطشان الغليل، ويشفي المريض العليل.
نيل مصر دائم الجريان، لا ينام أبدًا، ولا يهدأ أو يتكاسل أو يفكر في الراحة أو الخمول .. إنه يعمل ليلًا ونهارًا .. حركته دائبة لازبة مستمرة .. تتدفق مياهه في صمت يتفق مع وقاره وعمره، وعراقته وأصالته ومنبته الأصيل القويم السوي.
كذلك أرض مصر لا تنام، فهي دائبة العمل، تُنبت وتُزهر وتُثمر، والكل يهنأ ويأكل ويتمتع بأطيب ما تخرجه أرض مصر، التي لا تهدأ ولا تسترخي ولا تتراخى أو تتواكل أو تنضب أو تجف؛ لأنها متجددة النماء، قوية الازدهار، شديدة الخصوبة، غزيرة الإنتاج، وفيرة الثمار، كثيرة الخيرات .. لا تعرف لليل طعمًا حتى تنام فيه، ولا تهدأ في النهار ولا برهة، حتى يأكل الجميع ويشبعوا وقد يتخمون.
مصر لم تنم أبدًا، ولا لحظةً واحدة أو طرفة عين، في تاريخها الطويل .. لم تغفل عينها عن عدو امتلكها، أو غاصب اغتصبها، أو متعجرف احتلَّها، أو معتدٍ اعتدى على أرضها وزرعها ومائها وأهلها .. فهي كما نعلم، ويعلم العالم أجمع، مقبرة الغزاة .. أمهلتهم ولكنها لم تهملهم، بل قامت لهم وسامتهم العذاب وكالت لهم الصاع صاعَين وأكثر وصبَّت عليهم نيرانها، وأعطتهم الويل والويلات، وطردتهم من بطنها كما تطرد النفايات والحثالات الضارة، وركلتهم في مؤخراتهم ركلات لن ينسوها .. لفظتهم لفظ النواة بعد أن ظلت ساهرة لهم بالمرصاد بعيون دونها عيون أرجوس فلم يهنأ لهم فيها عيش، ولم يطب لهم فيها مقام.
هذه هي مصر على الدوام .. إنها بلد لا ينام ولا يسام ولا يضام؛ لأن شعبها من أعرق الأقوام، وأقدم الفراعين الكرام.