مصر البداية هي مصر النهاية
كانت مصر منذ البداية منارة ومهد حضارة، وكبرت مصر وكبر نورها وتقدمت حضارتها .. فانتشر اسم مصر وصيتها وجرى على كل لسان.
اشتهرت مصر بأمور يحق لها أن تفخر بها .. فكل ما يقوله الناس عن مصر يشرفها ويرفع هامتها ويطيل قامتها ويجعلها تتطاوس وتتمايل تيهًا وإعجابًا.
راح اسم مصر يجلجل في الخافقَين، وتزداد شهرتها انتشارًا على تعاقب الملوَين وتألق النيرَين، وتطلَّع العالم كله إلى مصر .. ومضت مصر في ركاب الحضارة العالمي ترفع لواءه وترسم خطاه ومداه .. لم تتخلف مصر أبدًا، ولم تتوقف عن الركب، ولم تشغلها الشواغل، ولم تقعدها الحروب والكوارث، ولا الأزمات والنكبات .. فهي رائدة منذ البداية .. هادية منذ أول العصور .. قائدة منذ أقدم الدهور .. تقود ولا تُقاد .. وتسود ولا تُساد أو تُساق.
ومنذ البداية ولدت مصر عظيمة .. تولاها الفراعنة ففرعنوها وأغنوها .. وساروا بها فنظموها وزينوها وتوَّجوها ووحَّدوها .. وفلحوها وزرعوها وأنعشوها وبلوروها .. ورسموا لها طابعًا ممتازًا مميزًا، خلق منها أمةً عالية الهمة عظيمة القيمة .. أمة تَؤم ولا تُؤم .. تَغلب ولا تُغلب … تَنهى ولا تُنهى .. تُفني ولا تَفنى .. تَزرع ولا تُزرع .. فهي البداية وهي النهاية .. وهي القادرة على الدوام .. أولها كآخرها، وظاهرها كباطنها .. داخلها كخارجها .. هي أمة لا تتغير ولا تتبدَّل ولا تتشكَّل أو تتلوَّن .. تسعى دائمًا وراء الأفضل، ولا تنتقي إلا الأفضل، ولا تفوز إلا بالأفضل .. تسالم مَن يسالمها وتعادي مَن يعاديها .. إنها أمة قوامها الصدق، ودينها المحبة، ودَيدنها السلام والوئام .. تعرف كيف تحافظ على عزتها وكرامتها .. إن قامت قومتها فإلى حين .. وإن نامت نومتها فإلى حين أيضًا، ولكنها على الدوام متيقظةٌ ساهرة .. تغني وتنشد، وترنو وتشعر .. للغة عندها مكانة وطعم ومذاق .. فالذي خلق اللغات جميعها وضع المحاسن كلها في الضاد .. في لغة مصر .. في لغتها العربية الأصيلة .. اللغة التي نزل بها القرآن هدًى للناس .. فقرآنها هو سلاحها وقوامها ولسانها العفُّ الشريف .. هو لها بداية، وهو لها نهاية .. ومصر لا تنكر بداية على الإطلاق.
ظهر على أرضها موسى وعبر، وحكمها يوسف ودبر، وتوالى عليها الأنبياء .. كلٌّ لها يفكر ويكفر .. وجاء عيسى فما استعلى عليها ولا تكبر .. أكل من ثمارها، وشرب من مائها وباركها ومهد الطريق للنهاية الكريمة الشريفة .. وجاورها محمد .. وجاءها أتباع محمد، لتقوم فيها أكبر دولةٍ إسلامية، ولتكون القاهرة وحدها هي العاصمة ذات الألف مئذنة .. كلها تسبِّح باسم الله العلي القدير العظيم، ذي العرش المجيد، فعَّال لما يريد .. تُكبِّر وتعظِّم وتفخم بمنطقٍ سويٍّ قويم، يفهمه الجاهل والعليم.
وكانت النهاية صورة من البداية .. هداية في هداية .. لأحسن رواية تحكي النهاية السعيدة لأمة مجيدةٍ فريدة، وقديرةٍ نميرة. ذات عزم وقوة وبأس، وتشتهر بين أمم العالم جميعًا بأنضج رأس .. كانت «مصر» خير أمة أُخرجت للناس في أبهى لباس .. معجزة لبنيها .. مفخرة لخالقها وبانيها .. وذكرى عاطرة لمسميها .. ﻓ «مصر» — والحق يُقال — هي بداية الكون، وأول أمة عرفتها الدنيا .. وهي نهاية الكون بإذن الله تعالى.