الحركة البشرية الثانية
كانت إيطاليا البادئة بالنهضة في القرن الخامس عشر؛ لأنها كانت مركز البابوية الحافل بالديورة والمكتبات، وكان للمطبعة أثرها في بعث الكتب القديمة وتحريك الأذهان بمناقشتها والتفكير في موضوعاتها، ويمكن أن يقال على وجه الإجمال أن هذه النهضة الإيطالية بدأت أدبية ثم انتهت علمية «بجاليل» الفلكي وغيره من أساتذة الطب الذين شرعوا يدرسون الجسم البشري بالتشريح.
وتفشت هذه الخميرة الإيطالية في أقطار أوروبا الكبرى فظهرت في ألمانيا نهضة دينية على يد «لوثر» وظهرت نهضة علمية محضة في إنجلترا على يد «بيكون» ثم «نيوتن» الذي ولد يوم وفاة جاليل، كأن الأقدار تواطأت على أن تبقى السلسلة متصلة الحلقات، ثم ظهرت نهضة أدبية أخرى في فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على يد فولتير، وديدرو، وروسو.
إذا تأملت هذه النهضات جميعها ألفيتها حركات بشرية غايتها الاستقلال الذهني، والاعتماد على التفكير البشري في مواجهة هذا الكون، فإن لوثر يفصل النفس من حكم الكنيسة، ونيوتن يجرؤ على قياس الكواكب ووزن الأرض، ثم يأتي هؤلاء الأدباء الفرنسيون فيدعون إلى «بشرية» لا تزال فروعها تمتد في الثقافة الحديثة، كما لا تزال النزعة الآلية التي نزع إليها نيوتن واضحة في النهضة الصناعية الآلية الحديثة.
- (١) فولتير: الذي دعا إلى الاعتماد على الذهن البشري دون التقاليد فخدم الروح العلمي الحديث، وفسح الميدان للتفكير الفلسفي الحر، ولم يكن عالمًا ولكنه كان بعد نيوتن أعظم إنسان في العالم.
- (٢) روسو: الذي دعا إلى تحرير الذهن من التقاليد، ولكن دون الاعتماد على العقل وحده كما فعل فولتير، بل يعتمد روسو على القلب.
- (٣) ديدرو: الذي شرع يجمع المعارف ويدونها في موسوعة؛ اعتمادًا على أن معارف القدماء لا قيمة لها وعلى أن الذهن البشري جدير بأن تجمع آثاره وتدون.
وكانت نتيجة هذه النهضة، التي يمكن أن توصف بأنها الحركة البشرية الثانية في أوروبا، أن ثارت الثورة الكبرى في فرنسا، وهي ثورة تجد فيها أثر «فولتير» في الدعوة إلى الذهن والمنطق، وأثر روسو في الحملة على التقاليد والظلم.
وقد عاشت أوروبا في القرن التاسع عشر وهي تستظل بهذه النهضة الفرنسية في ثقافتها أو نزعتها الثقافية، فإن روسو هو الذي حرك الأذهان إلى درس «الرجل الفطري» حين قال بأن الطبيعة حسنة والاجتماع سيِّئ، فكان بذلك سببًا لدرس الأتنولوجية، والأنتروبولوجية، والسيكلوجية، والطبيعة، ولا شك في أن البحث العلمي قد نقض آراءه في أن الرجل الفطري خير من الرجل المدني، ولكن هذا لا يعني أنه ليس الأساس لهذا البحث نفسه، ثم لا ننسى هذه الثورة التي بعثها في الآراء التعليمية وهي ثورة لم تنته بعد إلى نتيجتها.
ومع أن فولتير قد بالغ في حملته على الأديان، فإن هذه الحملة نفسها كانت من الأسباب التي بعثت رجال الذهن على درس الأديان القديمة والحديثة والاهتداء إلى كشف كثير من الأسرار والعقائد التي انعقدت وتراكبت في النفس الإنسانية، وما يسمى الأديان «المقارنة» انما هو درس خصب يعزى إليه الفضل فيه.
ولولا هذه الحركة البشرية الثانية لبقي الاستبداد السياسي مسلطًا على أوروبا، وكان يكون منه هذا الوليد الذي تراه مرافقًا له في كل مكان وزمان وهو الاستبداد الذهني في الأدب والعلم، فإن الجامعة الحرة التي تدرس العلوم وتمارس الكشف العلمي لا يمكنها أن تعيش في ظل الاستبداد، وهذه النهضة الفرنسية عندما حطمت الاستبداد تناولته من جميع وجوهه، وأطلقت الذهن من جميع قيوده وأوغلت في هذا الانطلاق وارتطمت بعقبات أوقعتها في جرائم، ولكنها بعد كل ذلك استقرت على الاعتراف بحرية الذهن في التفكير، فجعلت الأدب والفلسفة موضوعًا منفصلًا عن اللاهوت كما جعلت العلم ممكنًا بل مندوبًا إليه من كل إنسان.
ولا نكاد نستطيع التمييز بين النهضة الإيطالية «القرن الخامس عشر» والنهضة الفرنسية «القرن الثامن عشر» فإنهما تنزعان نزعة بشرية واضحة، ولكن النهضة الإيطالية تسير في تردد وتعثر ومراقبة، أما النهضة الفرنسية فتجرؤ وتصادم وتتحدى، وبأي شيء تتحدى؟
بالذهن البشري الذي ليس فوقه سلطان سوى سلطان القلب أو سلطان الإنسانية.