الديمقراطية: نظام المجتمع
كلمة الديمقراطية تعني حكم الشعب، أي: إن الشعب يحكم نفسه.
وكان الإغريق القدماء يعرفون الحكم الديمقراطي في المدن فقط، وكانت وقتئذ مدنًا صغيرة.
فلما زالت دولة الإغريق لم نعد نجد هذا الحكم الديمقراطي إلا منذ مئة سنة أو أقل في أوروبا وأمريكا؛ وذلك لظروف يسهل إيضاحها، فإن الشعب الذي يحكم نفسه يحتاج إلى أن يكون كله، أو على الأقل الناخبون فيه، متعلمين، وإذا عرفنا أن التعليم لم يصر إلزاميًّا في إنجلترا مثلًا إلا في ١٨٧٠ فإننا نستطيع أن نفهم أن كلمة الديمقراطية كانت من الكلمات التي تدل على معنى المستقبل وليس الحاضر الراهن، أي: إنها كانت أملًا يرجى حين يعم التعليم، ولكننا في الوقت الحاضر نذكر هذا النظام في الحكومة وليس بمعناه الكامل المرجو، ولكن بما وصل إليه من الاقتراب من هذا المعنى الكامل المرجو.
ففي سويسرا نجد الديمقراطية على أعلاها في الأمم الغربية، ولا يستطيع سويسرى أن يعقل أن أحد زعماء وطنه يمكنه إيجاد نظام نازي أو فاشي؛ لأن هذا النظام يفرض طغيان طبقة تزعم أنها ممتازة على الشعب في الكفاية والأمانة للحكم، وهذا مالا يفهمه السويسريون؛ لأنهم كلهم سواء في التعليم، وعلى مقدارٍ حسن من الرخاء، ولهم حريات مكفولة بالدستور، بل مكفولة بما هو فوق الدستور، وهو الإحساس العام بالحقوق والواجبات.
•••
كان الحكم في العصور القديمة ملكيًا، بل كان الملك عند المصريين والرومان بعد الآلهة، ولما جاء الإسكندر المقدوني إلى مصر في القرن الرابع قبل الميلاد، جعله الكهنة ابنًا للرب آمون، وواضح أنه حين يكون الملك إلهًا فإن الشعب لا يمكن أن يكون شيئًا، بل إن الثورة على الملك عندئذ تعد كفرًا وإلحادًا.
ثم نجد في القرون الوسطى ملوكًا ليسوا من الآلهة، ولكنهم يحكمون كما لو كانوا منها، وكان النظام الإقطاعي يؤيدهم في حكمهم المطلق الذي لم يكن يحد منه سوى قوة الأمراء والنبلاء، وكثيرًا ما نقرأ عن «الحق الإلهي للملوك» في الثورات التي قامت بها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وهذا الحق هو التراث الفرعوني الإمبراطوري من مصر وروما.
فلما ظهرت الطبقات المتوسطة، المؤلفة من الصناعيين والتجاريين والزراعيين، وحطمت النظم الإقطاعية، وألغت الرق الزراعي، وهدمت العروش التي كان يزعم متبوئوها هذا الحق الإلهي، شرعت الديمقراطية في الظهور، شرعت في الظهور على أيدي رجال الطبقات المتوسطة، وكانت الدائرة محدودة والمعنى مقصورًا على هذه الطبقات، أما العمال فلم يكن لهم من الشأن ما يبرزهم إلى الوجود السياسي.
ولكن منذ منتصف القرن الماضي شرع العمال في أوروبا يحسون الوجدان السياسي ويطالبون بالتمثيل النيابي، ومنذ ذلك الوقت والدائرة تتسع رويدًا رويدًا إلى الشعب كله.
•••
وهذا الذي قلت ينطوي على معنى أكبر مما تفيده كلمة الديمقراطية … فإن الديمقراطية نظام في المجتمع قبل أن تكون نظامًا في الحكم، بل هي نظام في الحكم؛ لأنها نتيجة لنظام معين في المجتمع؛ ذلك أن النظام الإقطاعي لا يمكن أن يهيئ للحكم الديمقراطي.
بل كذلك نظام الزراعة الإقطاعي أو شبه الإقطاعي الذي ما زلنا في كثير من الأمم العربية لا يمكن أن يهيئ للحكم الديمقراطي؛ إذ كيف نطالب الفلاحين في قراهم النائية، في فقرهم المدقع، في اعتمادهم الأعمى على مالك الأرض الثري، وأخيرًا في جهلهم التام بشئون الشعب، وأميتهم الكاملة في المعاني السياسية والاقتصادية، كيف نطالبهم بأن يكون لهم رأي في نظام الحكم وبرامج السياسة ومقدار الضرائب وحقوق الصحافة وحرية الخطابة؟
إن هذا محال، وقد كان محالًا في أوروبا إلى أن نقلت الفلاحين من مزارعهم إلى المصانع أو إلى أن منحت فلاحيها حقوق عمال المصانع مثل تأليف النقابات؛ ذلك أن عمال المصانع يتكتلون، وقد عاشوا في المدن، وتعلموا، وطمحوا، فصاروا يطالبون التمثيل السياسي وصار لهم نواب في البرلمانات، وأصبحت كلمة الديمقراطية كلمة حية تروح وتغدو على ألسنتهم، فتكسب الغافل تنبهًا، والذليل كرامة، والذاهل وجدانًا.
ونحن نعرف مثلًا أن الملك فؤاد ألغى الدستور في ١٩٣٠، فلم نثر عليه، بل إنه وجد من ساستنا وصحفيينا من عاونه على ارتكاب هذه الجريمة العظمى، لسبب واحد، هو أن الوجدان السياسي لم يكن عامًّا في الأمة، ولو كان عامًّا قويًّا لشنق الملك فؤاد وجميع من عاونه من الوزراء والساسة والصحفيين على إلغاء الدستور.
ولا أنكر هنا يد الاستعمار المدمرة التي كانت تعيِّن المستبدين على تحطيمنا وتفتيت قوانا في مشاغبات ومصارعات داخلية حتى لا نستطيع مواجهة مشكلتنا الكبرى وهي الاستعمار، ولكن قوة الاستعمار كانت تضعف إزاء الوجدان السياسي في الأمة … لو أنه كان موجودًا.
•••
وثم مثال آخر، فإن مجلس الشيوخ الذي كان مؤلفًا من الباشوات والبكوات وأعوانهم رفض منح الفلاحين حق تأليف النقابات، وكذلك فعل مع الخدم.
ولم يثر عليه أحدٌ للسبب نفسه، وهو أن الوجدان السياسي بين الفلاحين والخدم كان معدومًا أو كالمعدوم؛ إذ كانوا في فقرهم وأميتهم بعيدين عن العناية أو الاهتمام بحقوقهم السياسية.
ولذلك يجب أن نعترف بأن كلمة الديمقراطية كانت في السنين الثلاثين الماضية أمنية في مصر، ولم تكن قط تدل على نظام في الحكم.
-
شراء عزبة.
-
اقتناء سيارة.
-
قصر في الزمالك.
-
قصر في الإسكندرية.
-
إدارة الشركات.
-
فصوص من اللؤلؤ والماس.. الخ..
أفكار إقطاعية بعيدة كل البعد عن روح العصر، وهي أبعد عن روح الديمقراطية.
•••
إن في أوروبا الديمقراطية وزراء يقصدون إلى وزاراتهم على الأوتوبيس، وقد رأيت أنا بنفسي، بعيني «كليمنصو» وهو رئيس وزارة، ينتظر الأوتوبيس ويركبه.
إحساس ديمقراطي لا يمكن أن نتصوره عند وزرائنا السابقين أصحاب الضِّياع، بل كذلك نجد الفرق العظيم بيننا وبين أوروبا حين نقارن بين أصغر المهن وأعلاها، ففي أقطار أوروبا على اختلافها لا يزيد مرتب الوزير على خمسة أو ستة أمثال مرتب الكناس.
الكناس والوزير هما محك الديمقراطية. فإذا تقاربا في الأجر كانت الديمقراطية. وإذا تباعدا في الأجر كان النظام الإقطاعي في الروح، وإن لم يكن في الواقع والقانون، إن الثورة التي قمنا بها في مصر هي ثورة الطبقة المتوسطة، ثورة الرجل «اللي في حاله»، الرجل الذي يمد رجليه على قَدِّ لحافه، وهذا الرجل ليس من العمال، وكذلك ليس هو من النبلاء والأمراء، وإخوانهم الباشوات والبكوات.
ولكنه يحس قرابته من العمال؛ إذ هو يعمل مثلهم، وإن يكن عمله هنا بعقله وليس بيديه، فهو عامل يتعب ويعرق.
ويعرف أنه إذا لم يتعب ويعرق فإنه لن يجد لقمة العيش، ومن هنا التفات هذا الرجل، رجل الطبقة المتوسطة إلى العمال، إلى الفلاحين والخدم واعترافه لهم بحق تأليف النقابات، وسعيه لأن يكفل لهم العيش الشريف بتحديد الأجور والإيجارات ومحاولته إلغاء الرواسب الإقطاعية في امتلاك الأرض، بل كذلك محاولته تطهير الإدارة الحكومية حتى ترعى الضعيف والفقير ولا تقتصر على خدمة الأثرياء والأقوياء.
يجب أن نساعد هذا الرجل، رجل الطبقة المتوسطة، على أن يغرس في بلادنا هذه الشجرة، شجرة الديمقراطية، والفرصة الحاضرة هي خير الفرص لتحقيق ذلك، فإن لجنة الدستور تستطيع أن ترى رؤيا جديدة لوطننا بأن تهيئ للمجتمع الجديد الذي يحيا على المصانع ويأخذ بالأخلاق الديمقراطية.
ورجل الطبقة المتوسطة هو في النهاية عامل تقتضيه مصلحته رعاية العمال سواء أكانوا عمال اليد أم عمال الذهن.