بذور الحركة البشرية الأولى
كلما ذكر الإنسان القرون الوسطى خطر للذهن تسلط الكنيسة وحجرها على الحرية الذهنية، وليس شك في هذا التسلط وهذا الحجر.
ولكن يجب ألَّا ننسى أن الانحطاط لا يعني أن هناك أذهانًا متنبهة قد حجرت عليها الكنيسة وصارت تمنعها من التفكير الحر؛ لأن هذه الحال هي حال اليقظة والتنبه على الرغم من هذا الحجر، وإنما حقيقة الانحطاط في القرون الوسطى تعني أن الذهن البشري نفسه قد انحط، فصار ينظر إلى الدنيا من زاوية العقيدة والمذهب، وأخذت العقائد مكان الآراء، والجزم مكان الشك والبحث.
فمنذ القرون الأولى للمسيحية أخذ الناس، أو تلك الأقلية التي كانت تقرأ، يدرسون لغاية واحدة هي خدمة الدين، وعندئذ أصبح الرجل المثقف، وهو في الغالب راهب، يدرس السموات السبع كما ندرس نحن الآن جغرافية إفريقيا، وهو يفعل ذلك، لا؛ لأن الكنيسة تمنعه من درس الطبيعة أو العلم بل؛ لأن هذا هو مزاجه الذي اكتسبه بعد مئات من السنين عدم فيها الناس كتب الإغريق والرومان أيام نهضتها وأصبح الكتاب المقدس موضوع درسهم يقرءونه ويغلقون عليه.
وهذا هو «العصر الجليدي» الذي أصاب الذهن البشري في أوروبا، إذ أصبحت الفلسفة غيبيات غايتها إثبات حقائق الدين ورواية الرسل، وزال الروح العلمي تمام الزوال، فإن هذا الروح كان قد ابتدأ بداية ضعيفة جدًا في الإسكندرية، ولكنه ما كاد ينهض حتى مات عقب زوال البطالمة، وبقيت الحال على ذلك إلى أن عاد يتعثر على أيدي العرب في الأندلس.
- (١) النزعة الأولى: هي الرجوع إلى القدماء في الفنون، وتكاد هذه الحركة تكون نزعة وثنية، فإننا نرى الرَّسَّام أو المثَّال، مع رغبته في خدمة الدين، لا يتقهقر أمام موضوع وثني، فإنه يرسم أو ينحت الآلهة كما يرسم أو ينحت الملائكة أو العذراء؛ لا يشعر وهو يفعل ذلك أنه قد تلبس بالكفر والإثم كما كان يشعر أسلافه بين القرنين الثالث والعاشر.
- (٢) النزعة الثانية: هي درس الكتب التي لا تتصل بالدين، كأن الإنسان قد يشعر في النهضة أن آفاق الذهن تتسع لغير الدين، وأنه يجب عليه أن يحقق السعادة في هذه الدنيا، وهذه الحركة تسمى «الحركة البشرية»؛ لأن الناهضين اعتمدوا فيها على درس المؤلفات البشرية زيادة على درس المؤلفات الدينية.
- (٣) أما النزعة الثالثة: فهي الحركة العلمية، وهذه لقيت بذرتها الأولى في الأندلس عند العرب، وتكاد تكون اكتشافًا جديدًا للدنيا؛ لأنها اعتمدت على التجربة.
والقرون الوسطى لم تنته بتاريخ معين، فإن سنة ١٤٥٣ هي حد عرفي لنهايتها، ولكنها كانت في الحقيقة تنزاح عن الأذهان كما ينزاح الليل رويدًا رويدًا؛ ولذلك نجد بعد القرن الحادي عشر اضطرابات ذهنية، كأنها ارتكاض الجنين في الرحم، تنذر بالميلاد القادم، ونحن نذكر هنا رجلين عاش كلاهما في القرون الوسطى ونزع كلاهما نحو النهضة.
وأولهما هو أربيلا (١٠٧٩–١١٤٢) فإنه كان رجل دين قبل كل شيء، ولكنه دعا إلى الشك وجعل منه أساسًا للإيمان الصحيح، وعنده إننا إذا اصطدمنا بشيء لا يتفق مع العقل وجب علينا أن نعود للضمير، وهو يعتقد أنه ليس شيء في الدين لا يتفق والعقل، ولكن إذا استبهم علينا شيء من ذلك فإن علينا أن نلجأ إلى ضميرنا، ومع أنه قال ذلك في حذر، بل في اعتذار، فإن مؤلفاته حرمت بأمر من البابا.
وأما الثاني فهو توماس الاكويني (١٢٢٥–١٢٧٤) فإنه ألف في التوفيق بين العقل والدين، وهذا التوفيق هو في النظر الحديث تلفيق.
ولكنه مع ذلك محاولة من المحاولات الأولى للخروج من قيود الجزم إلى ميدان الرجم أو الخروج من النقل إلى العقل، فهو مثلًا يعصر ذهنه كي يصل إلى استنتاجات منطقية تثبت وجود الله، ثم يبرر وجود الدين بأثره في الأخلاق، بما فيه من زواجر تزجر عن الشر والعدوان.
ففي كلا الرجلين نرى جراءة على التفكير، ولكنا نرى ما هو أحسن من الجراءة في ذلك الزمن، وهو الرغبة في درس الكتب الأخرى التي لا تمت إلى الدين، فكلاهما يدعو إلى الثقافة البشرية وإلى درس الكتب الوثنية القديمة.
وهنا إذن نوى بذرة هذه الحركة البشرية التي ترى على أقواها في النهضة، وخلاصتها أن الثقافة يجب ألَّا تقتصر على درس الدين بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى ما ألفه الناس أيضًا، وأن الإنسان يجب عليه أن ينشد السعادة الدنيوية بدرس الثقافة البشرية، كما عليه أن ينشد السعادة الأخروية بدرس الثقافة الإلهية.
وكما كانت «الغيبيات» مزاج المثقفين في القرون الوسطى أصبحت «البشرية» مزاج المثقفين في أيام النهضة، ومن هنا هذه الحركة، بل هذه الحمى، التي أصابت العقول في أيام النهضة، فإن المدارس والمجامع والأفراد نهضوا فجأة يبحثون عن الكتب القديمة بين مخلفات الإغريق والرومان، ويدأبون في درسها ومناقشة آرائها لا يبالون بما فيها من كفر أو وثنية.
•••
ونحن إلى الآن ما زلنا نعيش في سياق النهضة التي انفجرت في النصف الثاني من القرن الخامس عشر في أوروبا، وبقيت في انفجارها هذا إلى نهاية القرن السادس عشر حين اتزنت وسارت سيرًا وئيدًا مطمئنًا، إلى أن عادت فانفجرت مرة أخرى في فرنسا في آخر القرن الثامن عشر.
وفي إسكتلندا وغيرها من الأقطار الأوروبية لا تزال تسمى دراسة الكتب الإغريقية واللاتينية «البشريات» ومن هذه التسمية التي ترجع إلى ما قبل أربعة قرون يدرك القارئ هذا الفرق الذي ميزته أذهان الناهضين في القرن السادس عشر، فإنهم شعروا أن أسلافهم كانوا يدرسون الموضوعات التي تتعلق بالدين، وهي التي كانت تسكن الديور في صوامع الرهبان أي: «الإلهيات» من الفلسفة واللاهوت والصوفية، وتفسير الكتب المقدسة والتعليق على شرح القدماء فيما يتعلق بالدين، ولكن الناهضين انحرفوا عن هذه الثقافة، أو كفروا بها، وعمدوا إلى الوثنيين من الإغريق واللاتين يدرسونهم، فكانت دراستهم لهذا السبب «بشرية» وليست «إلهية».
وهذه الجراءة على الدراسة البشرية كانت أشبه الأشياء بالدعوة إلى تقرير المصير للذهن البشري، أي: إن للإنسان الحق في أن يقرأ ما يشاء، ولو كان المؤلف من كفار الإغريق أو الرومان القدماء، بل له أيضًا أن ينتقدها، فسقطت بهذا الحق الجديد مكانة «أرسطاطاليس» وصار لأمثال «جاليل» أن ينقده وأن يجرب التجارب لكي يثبت خطأه، وأصبحت «التجربة» طريقة جديدة للاقتراب من الحقائق وبحثها.
وأول ثمرات الحركة البشرية الأولى هو «لوثر» المصلح الألماني، وهو نفسه كان بذرة لنهضة أخرى هي الحرية الدينية، فإنه ورث من النهضة حرية الذهن فأورث الناس حرية أخرى هي حرية الضمير، وقد كان هذا الرجل راهبًا زار روما سنة ١٥١١ فرأى من نظام البابوية وأخلاق البابوات ما أسخطه، ولكنه صمت وعاد إلى وطنه، فلما كانت سنة ١٥١٧ بعث البابا برهبانه لكي يجمعوا من المؤمنين ثمن الغفرانات، وكان على الراهب أن يعرض الغفران من العقاب في الآخرة فيشتريه الموسر ويناله الفقير بالمجان، ولكن لوثر لم يطق هذه النخاسة الدينية فعمد إلى لوحة كبيرة وكتب عليها ٥٥ اعتراضًا على بيع الغفرانات وعلقها على باب الكنيسة.
وعلم البابا بهذه الفعلة فاستدعاه لسؤاله أو محاكمته، ولكن لوثر أيقن أنه إذا سافر إلى روما فإنه لن يبرحها حيًّا؛ ولذلك بقي في مكانه يدعو إلى مذهبه فيجد المؤيدين كما يجد المعترضين، وعقدت له هيئة حاكمته وحكمت بحرمانه، ودعت الجمهور إلى مقاطعته وألا يؤاكله أو يعامله أحد، وأرسل إليه البابا «حرمانًا» يجعله مطرودًا من بركة الكنيسة ونعيم الآخرة، فأخذ لوثر ورقة الحرمان وأحرقها علنًا بين الجمهور المعجب بجراءته، ولم يقف عند هذا الموقف السلبي، بل خالف الرهبانية وتزوج، ثم خالف قواعد الكنيسة وترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية، ومات سنة ١٥٤٦ بعد أن ملأ أوروبا بالخلاف الديني وهيأها لحروب مذهبية دمرت مدنها وخربت ريفها، ولكنها أحيت نفوسها.
وأحيت نفوسها لأنها قررت مبدأ آخر إلى جنب حرية الذهن، هو حرية الضمير، و«تقرير المصير للنفس الإنسانية» وأن خلاص الإنسان ليس قضية يحكم عليه فيها الكهنة والكنيسة، وإنما هو مسألة خاصة بين الإنسان وربه، ولا شأن لحكومة أو فرد أو أي هيئة أخرى أن تتدخل فيها.
فانظر إذن في هذه الحركة البشرية الأولى، فإنها قررت استقلال الذهن البشري وحقه في أن يقرأ المؤلفين الذين ألفوا أو يؤلفون في غير «الإلهيات» حتى ولو كانوا كفارًا من الإغريق أو اللاتين، ثم قررت استقلال الضمير وحق الإنسان في أن يناجي ربه دون أن يتوسل لذلك بالكهنة والكنيسة.
ومن هذا الحق الثاني نشأت حركات أخرى اتصلت بالحقوق السياسية والاقتصادية، بل لقد رأى لوثر نفسه أن حركة حرية الضمير أدت إلى ثورة الفلاحين على الأمراء، وأصبحت «حرية الضمير» كلمة مفيدة تقال في وجه الملوك لمنع الاضطهاد، وفكرة تبعث على التفكير الاجتماعي، بلا خوف من العرف الشائع والعادات الفاشية، وإذا كان لوثر نفسه قد احتفظ بعفونات ورواسب من القرون المظلمة جعلته يكره ثورات الفلاحين وحملته على الدفاع عن حقوق الأمراء والنبلاء، فقد أثمرت هذه الفكرة أيضًا حرية السعي الاقتصادي والمزاحمة الحرة بين الأفراد، هذه الحرية التي بلغت قمتها في عصرنا حتى استحالت من الفائدة إلى الضرر، وحتى قامت الحكومات الحديثة تحد منها وتأخذ بالآراء الاشتراكية كي تحول دون ضررها، ولولا حرية الضمير هذه لما أمكن العلماء أن يكتشفوا ما كشفوا من حقائق علمية.