التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
كان التاريخ يكتب كي يكون معرضًا، تسير فيه مواكب العظماء من الملوك والقواد والساسة والعلماء أو الأدباء، تروى فيه سيرهم وما اشتبكوا فيه من المعارك الحربية أو المناضلات الدينية، فلما ظهرت نظرية «التفسير الاقتصادي للتاريخ» أصبح المؤرخون يبحثون العوامل والعلل الاقتصادية لإحدى الثورات أو الحروب كما يبحثون عنها لتعليل أحد المستكشفات أو المخترعات.
وهذه النظرية تقول بأن العلاقات الاقتصادية بين طبقات الشعب وأفراده هي الأساس الذي ينبني عليه سائر ما في الأمة من علاقات اجتماعية أو حقوق سياسية، وأن ما يصدر عن الأمة من فلسفات أو مذاهب أو نزعات أدبية إنما يعبر في الحقيقة عن الحالة الاقتصادية التي في الأمة، وذلك؛ لأن المركز الاقتصادي للفرد يقرر له المركز الاجتماعي، وأولئك الحاصلون على السيادة الاقتصادية هم أيضًا الحاصلون على السيادة الاجتماعية أو السياسية. وما عند الأمة من نظم اجتماعية أو سياسية أو ثقافية انما هو في الحقيقة ثمرة النظام الاقتصادي الأساسي؛ لأن غاية هذه النظم في النهاية صيانة الحقوق أو الامتيازات الاقتصادية.
والقائلون بهذه النظرية لا ينكرون اعتبارات أخرى في تطور الأمة ولكنهم يضعون هذا الاعتبار الاقتصادي في المقام الأول، وقد يجد المتأمل خروقًا في هذه النظرية تجعلها لا تستوعب جميع التغييرات الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، ولكنه لا يتمالك من الاعتراف بأنها على وجه العموم صحيحة، وليس المعنى المقصود من التفسير الاقتصادي للتاريخ أن الناس لا ينبعثون إلى العمل والنشاط والسعي إلا للفائدة الاقتصادية التي تعود عليهم، وإنما المقصود أن الحالة الاقتصادية العامة في الأمة تقرر سائر الأحوال فيها، إذ هي بمثابة الشجرة وهذه بمثابة الثمرات التي تنبت عليها، ووسائل الإنتاج وطرق الارتزاق تعين الطبقات وتبعث العواطف.
وفي ضوء هذه النظرية نستطيع أن نقول: إن القرون المظلمة التي أعقبت سقوط الدولة الرومانية في أوروبا إنما كانت نتيجة لغارة الهمج من القبائل الجرمانية على المدن الرومانية وتخريبها، وهؤلاء الهمج لم يخرجوا من أقاليمهم إلَّا لأسباب اقتصادية، فلما خربت المدن الرومانية عاد الوسط الأوروبي وسطًا ريفيًّا قرويًّا بعد أن كان وسطًا عالميًّا مدنيًّا، والوسط الريفي يلازمه الانحصار والجمود والتأخر وقلة الثقافة والاستبداد، في حين يلازم المدينة رقي في الصناعات وتوسع في التجارة وثقافة تتعلق بالتجارة والصناعة؛ ولذلك تفشو الآراء والانتقادات في المدينة كما يفشو التسليم والعقائد في الريف.
ثم جاء العرب في القرن السابع فمنعوا أوروبا من الإتجار مع آسيا، فلم تعد الآفاق الفكرية تنبسط للأوربي؛ لأن وجدانه الكوكبي زال وأخذ مكانه وجدان قروي محدود يعيش في السكان بالمقايضة.
والقرون المظلمة سواء في الشرق أم في الغرب، بل سواء في الزمن الحاضر أم الأزمنة الماضية، هي قرون الوسط الريفي كما نفهمه في مصر، أي: هذا الوسط القائم على الزراعة اليدوية، ولسنا نعني ذلك الوسط الريفي الجديد في الولايات المتحدة مثلًا حيث العمل يجري بالآلات الضخمة، فإن عقلية المزارع هنا لا تختلف عن عقلية الصانع.
فلما بلغت أوروبا سنة ألف أو حواليها بدأت المدن تتكون وتجذب إليها عمال الريف أو عبيد الريف، فعاد التاجر والصانع إلى الظهور، وأخذت فنون المدينة تظهر رويدًا رويدًا بعد أن كانت قد ماتت نحو ٧٠٠ سنة في الريف، فإذا كان القرن الخامس عشر، فإننا نجد المدينة عامرة بالصناعات، وفي كثير منها كليات ومدارس، ونرى للتاجر مقامًا كبيرًا، ونرى للمدينة أثرًا في تركيز الحكم، فإن الريف من طبيعته — وخاصة إذا كان جبليًّا — أن يوزع الحكم ويعمل للاستقلال الإقطاعي فيعود صاحب الأرض وهو «كونت» أو «دوق» له حكومته المستقلة التي يمكنه أن ينازع بها الملك نفسه، أمَّا المدينة فإنها تحصر السكان في بقعة معينة فلا يمكن الأمراء أن يستقلوا بجزء منها.
وحاجات الوسط الزراعي قليلة؛ لأن كل زارع يمكنه أن يستغني بقليل جدًّا من الصناعات البدائية عن شراء الملابس والأحذية والأطعمة؛ لأنه يمكنه أن يستخرج كل هذه الأشياء من أرضه، وقد كانت هذه حاله مدة القرون المظلمة، بل الوسطى؛ لأن الغزل والنسيج كانا عامين في جميع القرى، أما في المدينة فإن التخصص ضروري، ومن هنا تنشأ الصناعات على الاختراع والاكتشاف والثقافة الفنية، ومتى كبرت المدينة عظم شأن التجارة فيها وعندئذ تعرف البحار ويخرج تجارها لمبادلة السلع مع الأقطار الأخرى، فينشأ من ذلك الاكتشاف الجغرافي ثم الحروب ثم الاستعمار، ثم تتجمع الثروات فينشأ الترف ويبعث الفنون الجميلة والصناعات الأنيقة.
وعلى ذلك إذا أردنا أن نعين الفرق بين القرون الوسطى وبين النهضة أمكننا أن نقول: «إن النهضة هي انتقال الناس من سكنى الريف، حيث كان الجمود وحكم النبلاء، والصبر على القائد، إلى سكنى المدن حيث التجارة والصناعة وتجمع السكان في بقعة واحدة، وحيث الرأي فوق العقيدة، بل حيث الفرصة للاكتشاف والاختراع».
وهذه الحركة التي فشت في مدن أوروبا في القرن الخامس عشر، في الدرس العلمي الجديد والتنقيب عن المؤلفات الإغريقية واللاتينية، إنما كان مبعثها ظهور التاجر والصانع في المدن بعد غيابها نحو ألف سنة، وامتداد أوروبا بالملاحة إلى القارات الثلاث ثم الأربع الأخرى، فأصبح للأوربيين وجدان بالتاريخ في الجغرافيا، وأصبحوا يعيشون على كوكب الأرض بعد أن كانوا ينحجزون في القرى ولا يعرفون غير التفكير القروي المحدود، بل يمكن أن نفسر الجمود الذي يغشى الشرقيين أو بعضهم الآن بأنهم لا يزالون يعيشون في وسط زراعي قروي يشجع الإنسان على أن يكون أبله، يحترم جميع التقاليد ويسلم بجميع العقائد ويقنع بعيشه، كما يمكن أن نفسر رقي الغربيين بأن معظمهم يعيشون في المدن التي يجبرهم مجرد السير في شوارعها على أن يكونوا أذكياء متنبهين، وهم في هذا الوسط المدني يرتئون الرأي وينقضونه، ويرون في التقاليد شبهات، وفي الجمود كارثة.