رجل العلم ورجل الأدب
لا يزال العالم الأوروبي من حيث الثقافة يندفع في تيار النهضة التي اضطرمت في القرن الخامس عشر حتى ما نكاد نجد الآن حركة ثقافية إلا ولها بذرة أصلية في تلك النهضة.
وما زلنا نجد عادات وتقاليد ونزعات ثقافية ترجع إليها، وليس لها من أسباب البقاء غير أنها تتصل بالنهضة، حتى إني لأجد أدبيًّا عصريًّا مثل «ﻫ. ج. ولز» الذي مات في ١٩٤٧، يؤلف آخر ما يؤلف من الكتب كتابًا ضد البابا والديانة المسيحية. كأنه لا يزال يحس بأنه في الصراع القائم في القرن الخامس عشر بين الغيبيين والناهضين.
- إحداهما: تنحو نحو التاريخ والنقد الديني وفنون الإغريق والرومان — نعني بها موجة الآداب التي كان يمثلها «أرازموس» الهولندي (١٤٦٦–١٥٣٦).
- والموجة الثانية: كانت تنحو نحو العالم وكان قوامها التجربة وكراهة التقاليد، أو قلة الإيمان بفائدتها، ثم الجراءة على الابتكار وبحث النظريات العلمية و«الحقائق» الموروثة بروح الشك والرغبة في الإصلاح والاهتداء إلى سبل جديدة للوصول إلى استخدام الطبيعة، وكان يمثل هذه الموجة «دافينشي» الإيطالي (١٤٥٢–١٥١٩) وﻫ. ج. ولز كان في سياق هذه النهضة.
وما زلنا إلى الآن نجد هذين الطرازين من رجال الثقافة وقد تشتد أحيانًا بينهما الكراهة فيتبادلان السباب، وكل منهما يتهم الآخر بأنه لا فائدة منه للعالم، وقل أن تجد من يجمع بين النزعتين، أي: الأدب والعلم، وليس ذلك فقط؛ لأن المجهود يتجاوز قدرة الفرد بل أيضًا؛ لأن المزاج العلمي يختلف، بل أحيانًا يناقض المزاج الأدبي، فإن الأديب لتعلقه بالتاريخ والتقاليد والمأثور من الشعر والنثر، واحترامه للكتب، يحب الماضي ويفكر فيه كثيرًا ويميل إلى الاجترار الذهني والبحث عن الحقائق الذاتية، أمَّا العالم فإنه يتشكك في النظريات والفروض القديمة ولا يبالي التاريخ أو الكتب، وعنده أن كثيرًا من جد الأدباء إنما هو لهو وسمر، ثم هو لا يبحث عن كنه الحقائق، وإنما ينشد فوائدها كي يستخدمها لمصالح الناس.
ولو أن مؤرخًا شاء أن يشرح النهضة الأوروبية واقتصر على ترجمتي أرازموس ودافينشي لكان له منهما ما يكفي لإيضاح النزعتين الكبيرتين اللتين غمرتا النهضة، ولإخراج تاريخ مفيد عنها ولتمييز النزعات المتناقضة أو المتساوقة.
فقد كان أرازموس يمت إلى القرون الوسطى، كما يمت جميع الأدباء الآن سواء في الشرق أم في الغرب، إذ تعلم في دير ونشأ راهبًا ثم صار بعد ذلك قسيسًا، ويعرف القارئ أن الثقافة كانت طوال القرون الوسطى مقصورة على الأديرة ورجال الدين، أي إنها رجعت إلى ما كانت عليه في الأمم القديمة مثل المصريين والبابليين القدماء، ولم يكن رجال النهضة قد تخلصوا من هذه العادات، وتعين أرازموس سكرتيرًا لأحد الأساقفة، ثم اشتغل بعد ذلك بتحرير الكتب القديمة اللاتينية والإغريقية تجهيزًا للطبع، وكان يعلق عليها بالشروح.
ومن الأقوال المألوفة إن أرازموس حضن البيضة التي فقسها «لوثر» المصلح الألماني وزعيم البروتستنتية، وذلك بما كان يؤلفه عن الفضائح في الديورة، وعن جهل القسوس وتعصبهم، وعن سخافات الرهبان ونحو ذلك، حتى إذا جاء لوثر وجد الحنق عاما في قلوب الجماهير، فاستطاع أن يعمم بينهم دعوته على البابا والكهان، وكل من أرازموس ولوثر هو في حقيقته داعية إلى الديمقراطية الدينية.
فالعلم الذي عاش فيه أرازموس هو عالم الكتب القديمة، والموضوع الذي اختاره للتأليف هو الإصلاح الديني، وتقويم الأخلاق في أسلوب يلهي ويسلي، ولا يزال لأرازموس سلالة تنتمي إليه بصلة الثقافة وتعيش على طريقته وتهتم لهمومه.
أما الطراز الثاني فهو طراز دافينشي الذي لم يؤلف كتابًا، ولعله أيضًا لم يقرأ كتابًا قديمًا، ولكنه كان موسوعي الثقافة فيما عدا ذلك، يرسم وينحت ويبحث الرياضيات ويخترع، فقد اخترع طواحين تدور رحاها بتيار الماء، واخترع دبابات حربية ومدافع، وبحث عن البارود وكيف يؤلف، وحاول أن يستعمل قوة البخار للسفن، وفكر في خرق نفق تحت الجبال، وأوشك أن يهتدي إلى نظام الدورة الدموية في الإنسان، واخترع طيارة وجربها بالفعل ثم كف عن هذه المحاولة الخطرة بعد أن أصيب منها أحد تلاميذه، واستطاع أن يقسم المملكة الحيوانية إلى فقاريات وغير فقاريات، وبحث واهتدى قبل «كوبرنيكوس» إلى حركة الأرض.
هذان هما طرازان بارزان لرجال النهضة: أحدهما رجل الأدب والكتب، والتاريخ والسمر والقصص، والوعظ والنظر إلى الماضي، والآخر رجل العلم الذي لا يقرأ إلا قليلًا ولا ينظر إلا إلى المستقبل، وهو دائب في الاختراع، والعالم بالطبع في حاجة إلى الاثنين، وإن كان أبناء المستقبل سيبالون رجل العلم أكثر جدًّا مما يبالون رجل الآداب.