من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
إذا ذكرنا النهضة الأوروبية مثل للذهن رجلان، كلاهما يعرف باسم بيكون وكلاهما إنجليزي: الأول هو «روجر بيكون» الذي ولد في ١٢١٤ وهلك في ١٢٩٤. والثاني هو «فرانسيس بيكون» الذي ولد في ١٥٦١ وهلك في ١٦٢٦.
ومع الزمن الطويل الذي يفصل بين الاثنين نجد تشابهًا في النزعة أو اشتراكًا في الطريقة يوهمنا الاتصال الذهني بينهما، وقد كان هذا الاتصال توهمًا فقط لا يزيد عن الرجم والظن، ولكن اتضح من الأبحاث التاريخية الحديثة أن بيكون الثاني قد عرف سميه الأول، وقرأ مؤلفاته على استاذه «جلبرت». وأولئك الذين يؤمنون بتسلسل الثقافة يجدون في هذا الاتصال دليلًا جديدًا يؤيد نظريتهم في هذا التسلسل، فإنه قلما يحدث أن يشترك اثنان في اكتشاف أو اختراع، فإذا وجدنا مثل هذا الاشتراك وجب علينا أن ننظر إليه نظرة الريبة والشبهة.
ونحن عندما نتكلم عن النهضة الأوروبية نقصد إلى تلك الثورة التي أصابت الذهن الأوروبي فوقف فجأة عن متابعة السير في ثقافته، وأخذ يتساءل هذا السؤال المؤلم: هل الطريقة التي أتبعها في الدرس حسنة أم سيئة؟
هذا هو الموضوع الذي شغل أذهان رجال النهضة من الأدباء والعلماء، فإن الشك فشى على أذهانهم فشرعوا ينتقصون من قيمة ما يدرسونه من المعارف ويصرحون لأنفسهم بأن طريقة جمع المعارف التي ألفوها منذ الصغر هي طريقة مخطئة، وأنه يجب ابتكار طريقة جديدة.
وقبل أن نبسط الكلام في الطريقة الجديدة، التي هي أساس النهضة، بل أساس الثقافة الحديثة، يجب أن نشرح في كلمة مختصرة تلك الطريقة القديمة التي ثار عليها رجال النهضة.
فقد كانت غاية العلوم والمعارف خدمة الدين والدين فقط، وما عدا ذلك فهو عبث أو كفر، وإذن اتجهت النهضة في ناحية من نواحيها إلى الاستقلال من الدين، حتى علم السياسة ظهر له من يدافع عنه في شخص «ميكافلي» الذي كان يطلب لهذا العلم استقلالًا كي يبحث في نزاهة فلا يخضع الباحث فيه للدين أو الأخلاق، وإذن يمكن أن نقول إن أول واجب قام به الأدباء والعلماء في بداية النهضة كان الاستقلال من سلطان الدين.
وناحية أخرى اتجهت إليها النهضة هي الإقلاع عن الرجم الفلسفي والمنطق الذهني إلى التجربة، فقد كان المألوف عند العالم من علماء القرون الوسطى أن يبحث الموضوع الذي يتناول درسه بحثًا فلسفيًّا، وكأنه يضارب بذهنه مضاربة، فهو يرجم بالفلسفة ويحاول أن يصل النتائج بالأسباب، ولكن رجال النهضة رأوا خطأ هذه الطريقة فقاموا يدعون إلى التجربة.
فيجب ألا نؤمن بشيء حتى نجربه في ظروف مختلفة وعلى أيدي أناس كثيرين، ومن هنا يمكن أن نقول: إن النهضة كانت إلى حد ما، وفي تعبيرها الحديث، ثورة العلم على الفلسفة. أو ثورة التجربة على التفكير المنطقي الفلسفي.
ثم نجد إلى هاتين النزعتين حركة جديدة اكتسبها الأوروبيون من عرب الأندلس هي الرغبة في تحويل المعادن والبحث عن إكسير الحياة، فقد اشتغل العرب بنوع غريب من المعارف مزجوا فيه الغيبيات بالكيمياء، فصاروا يتكلمون عن الحياة الأبدية في الوقت الذي يتكلمون فيه عن تحويل الرصاص إلى ذهب، والكيمياء الآن أبعد العلوم من الغيبيات ولكن بذرتها الأصلية نبتت في تلك التربة الأندلسية العربية، وقد نستطيع أن نرجع بهذه البذرة إلى المصريين القدماء الذين أكبروا من شأن الذهب ونسبوا إليه صفات الخلود، وكلمة كيمياء معناها مصر أو العلم المصري، وهو التحويل للمعادن الذي أفشى روح التجربة بين العلماء.
وبعد هذه المقدمة المختصرة يجب أن ننظر الآن في حياة هذين العالمين الإنجليزيين فقد كان روجر بيكون راهبًا انجليزيًّا، مثل معظم العلماء في وقته، إذ كان الدير موئل الثقافة، ومما يدل القارئ على روح العصر أن بيكون هذا كان يبرر درس الرياضيات بأنها تساعد على فهم الدين، وهو من هذه الناحية يعد من رجال القرون الوسطى وليس من رجال النهضة، إذ كان يظن أن الغاية من المعارف الإنسانية هي خدمة الدين، وليس هذا غريبًا منه، فقد مات في ١٢٩٤ والتاريخ الرسمي لبداية النهضة هو سنة ١٤٥٣.
أما الناحية التي خدم بها النهضة فتنحصر في دعوته إلى جمع المعارف بملاحظة الطبيعة دون جمعها من الكتب، ثم كان ينتقص الذهن فيقول: إننا إذا فكرنا في موضوع فيجب ألا نأتمن ذهننا، ولا نثق بالنتيجة التي وصلنا إليها إلا بعد أن نمتحن هذه النتيجة بالتجربة، لنرى هل هناك افتراق بين قياس الذهن وقياس اليد، أو بين التفكير المجرد والتجربة العلمية.
ثم كان يدعو الأوروبيين إلى درس اللغة العربية، وقد كان علماء العرب في ذلك الوقت قد اتجهوا، كما قلنا، نحو التجربة، عندما تكلموا عن الكيمياء التي مزجوها بالغيبيات، وقد اتهم بالهرطقة لهذه الدعوة كما كان يتهم المجددون في مصر بالكفر عندما كانوا يدعون إلى الطريقة الأوروبية في التثقيف.
وقد حبس روجر بيكون ١٤ سنة، وجمد البابا مؤلفاته، وفي هذه المؤلفات نرى كلامًا غريبًا من هذا الخارج من ظلمات القرون الوسطى عن سفن تجري في الماء بقوة البخار، وعن آلات تكبر وتصغر مثل التلسكوب والمكروسكوب، وعن أشياء أخرى اتهم من أجلها بالسحر.
«إني أعتقد أن البشر سوف يعتنقون المبدأ الذي أرصدت له حياتي، مبدأ البحث كما لو كان، أي البحث، من البدهيات؛ لأن البحث هو مذهب الأحرار، إذ ينطوي على إتاحة الفرصة للتجربة وعلى حقنا في أن نخطئ ونتشجع ونعود إلى التجربة، ونحن العلميين في الروح البشري سنجرب ونجرب ودائمًا نجرب، وعلينا في القرون القادمة مع المحاولات والأخطاء، ومع آلام البحث ومتاعبه أن نجرب في القوانين والعادات وفي نظم النقود ونظم الحكومات، حتى نرسم الطريق الوحيد إلى أبعادنا البشرية، كما اهتدت الكواكب إلى أفلاكها … ثم نسير معًا في وفاق بحافز إنشائي عظيم نحو الاتحاد والنظام والقصد».
•••
لما ظهر بيكون الثاني كان الزمن قد تغير وتطور كما نرى من الحرفة التي احترفها، إذ كان محاميًّا وسياسيًّا بينما بيكون الأول كان راهبًا، وهكذا انتقل العلم من الدير إلى المدرسة والكتب.
ومعنى هذا الانتقال أن الدين كان في المقدمة يغمر كل شيء في القرن الثالث عشر، ولكنه تراجع في القرن السادس عشر وأصبحت هناك حرف جديدة غير الدين يحترفها العلماء والخاصة، وليس بيكون الثاني سوى بيكون الأول قد بولغ في نزعته الأولى، وهي الاعتماد على التجربة، وقد وجد في عصره قبولًا لم يجده سميه السابق.
«الإنسان خادم الطبيعة ومفسرها».
«هناك عدة أدلة تدل على أنه لا يزال في جوف الطبيعة أسرار كثيرة لها قيمتها العظمى، وليس لها شبه أو قرابة مما نعرفه نحن الآن، وهي بعيدة عن خيالنا لم نقف على كنهها بعد».
«ولنا هنا أن نلاحظ كيف أن الأطباء قد كفوا عن استعمال تلك الطريقة المفيدة التي كان أبقراط يتبعها حين كان يدون العلاجات الخاصة بجد ودقة حيث كان يصف طبيعة المرض وظروفة». «… وهذا التدوين للتقريرات الطبية نجده الآن ناقصًا وخاصة من حيث إيجاد مجموعة منظمة قد هضمها البحث والتمييز».
فمن هذه المقتبسات يتضح للقارئ أنه يريد الاعتماد على التجربة، ثم جمع التجارب وتدوينها لاستخراج النتائج، وقد اقترح إيجاد كلية أطلق عليها اسم «بيت سليمان» تجمع فيها طوائف العلماء للدرس والتجارب، وبهذه الكلية آلات وأجهزة وأفران لهذه الغاية، ويمنح المشتغلون فيها إجازات طويلة مع النفقات الضرورية لكي يرحلوا إلى الأمم الأخرى، ويجمعوا منها بالمشاهدة ما يزيد معارفهم.
ثم نجد في جميع مؤلفاته أقوالًا تشبه ما كان يقوله روجر بيكون لدعوته إلى التجربة المباشرة بدلًا من القياس المنطقي، وأخيرًا نرى في ختام حياته رمزًا للغاية التي نشدها إذ إنه أصيب بالإنفلونزا؛ لأنه وقف يحشو طائرًا ميتًا بالثلج كي يرى أثر البرودة في منع العفونة.
وليس كل من بيكون الأول ولا بيكون الثاني عالمًا، بالمعنى الذي نفهمه الآن من هذه الكلمة، ولكنهما كانا يدعوان إلى الطريقة العلمية وهي التجربة، فكلاهما يدعو إلى المذهب العلمي ولكن لم يكن أحدهما «عمليًا» أي: إنه لم يتخصص في تجارب عملية.
وميزة فرنسيس بيكون إنه نقل أوروبا من التفكير الفلسفي الإغريقي إلى التفكير العلمي التجريبي، والفرق بين الاثنين عظيم جدًّا؛ لأن الفيلسوف الإغريقي كان يضع المذهب ثم يجمع الحقائق التي توافقه، أي: توافق هذا المذهب، كأنه كان يعتقد أن في الكون أصولًا ومبادئ يجب التسليم بها قبل دراسة الأشياء، ولكن التفكير العلمي يعتمد أولًا، وفقط، على التجربة، أو ما يقابل التجربة من الاختبارات ثم يستنتج من التجارب مبادئ وأصولًا، وقد تبلور هذا الأسلوب في فلسفة هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩) المادية حتى قصر موضوع الفلسفة على المادة وحركتها.
وبكلمة أخرى نقول: إن الإغريق اعتمدوا على التفكير ولم يعتمدوا على المشاهدة، ومن هنا عنايتهم الكبيرة بالمنطق؛ لأنه حركة ذهنية محضة، وكتاب بيكون «نوفوم اورجانوم» أو «الوسيلة الجديدة» هو دعوة إلى التجربة، وإننا لن نفهم أكثر مما نعاين، ولكن حتى بعد المعاينة يجب ألَّا نثب إلى الاستنتاج، إذ يجب أن نعيد المعاينة والتجربة قبل أن نصل إلى الاستنتاج، أما اجترار المنطق ونحن بعيدون عن المشاهدة والتجربة فعقم وضرر.
ومن أحسن ما التفت إليه بيكون في كتابه هذا هو التنبيه إلى الخطأ السيكولوجي في التفكير الشائع في عصره وقبله، وهو نقل المنطق البشري بل المقاييس الاجتماعية إلى الطبيعة، وهذا هو ما وقع فيه الإغريق، حتى إنهم ظنوا أن الكون منتظم في دوائر؛ لأن الدائرة هي الشكل الكامل، وما دام الكون كاملًا فيجب أن يسير في دوائر.
وكذلك التفت إلى ضرورة ايجاد لغة خاصة للتفكير بحيث لا تتحمل كلماتها التباسات اللغة الدارجة بين العامة أو بين الكتاب، وهذا هو ما انتهى إليه العلميون في أوروبا، إذ إنهم يتخذون كلمات خاصة للعلوم يتعارفون عليها مهما اختلفت لغات الكلام بينهم، بل هذا ما نحتاج إليه في مصر حيث نجد مشقة كبيرة في استقطار معنى علمي من كلمات مشتبهات، كقولنا: الشعور بمعنى الاحساس، والكبت بمعنى الكظم الخ.
وفى كتابه هذا نصح بيكون أيضًا أن نتجرد من أهوائنا واستغراضاتنا.
وأخيرًا نصح بأن تتلخص الفلسفة من الدين حتى تنطلق حرة بلا عائق من العقائد.
•••
ولم يكن بيكون مع ذلك مكتشفًا أو مخترعًا، ولم يكن له مَعْمَل للاختبار والتجربة؛ لأن مهمته لم تكن مهمة الاكتشاف أو الاختراع، وإنما كانت مهمة وضع الخطط ورسم المناهج للوصول إلى الاكتشاف والاختراع.
وذلك بأن لا نبحث العلم من حيث إنه دراسة الكرسي والمكتبة والتأمل والفلسفة، وإنما ندرس العلم بحيث نقصد منه إلى نتيجة عملية في الصناعة؛ لأننا بالصناعة نزيد الثراء والرفاهية للبشر؛ ولذلك يقول: «إن الحقائق تكشف وتعرف بما تؤدي إليه من عمل وليس لأنها تتفق مع المنطق، وقولنا هذا يعني في النهاية أن تحسن حظ الإنسان، وتحسين عقل الإنسان كلاهما شيء واحد».
ومعنى هذا أن معارفنا لا قيمة لها إلا من حيث إننا ننتفع بها في الرقي البشري؛ ولذلك حمل على فلاسفة الإغريق لأنهم استخدموا عقولهم للتفكير المجرد وليس للاختراع والاكتشاف، فهو يقول عن «أرسطوطاليس» إنه «سوفسطائي متعوس، وكتابه في المنطق هو كتاب في الجنون، وغيبياته هي نسيج العنكبوت الذي يبنيه على أساس واهٍ».
ويقول عن «أفلاطون»: إنه «مفكر غيبي أبله زائف».
ولسنا نجد هنا أكثر من النزعة والاتجاه اللذين يلخصان في قولنا: «دعونا من القدماء، دعونا من التفكير في المكتبة بين الكتب، واخرجوا إلى الورشة والمصنع، وإلى الطبيعة، جربوا واخترعوا، استخدموا ما تعرفونه في زيادة الخير والرفاهية للبشر».