داعية الشك الفلسفي
نستطيع أن نقول إن «فرنسيس بيكون» الإنجليزي قد وضع المنهج للتفكير العلمي بالإكبار من شأن التجربة، أما «ديكارت» الفرنسي (١٥٩٦–١٦٥٠) فقد وضع المنهج للتفكير الفلسفي بالإكبار من شأن الشك، حتى لا نسلم بشيء إلا بعد أن نعالجه كما لو كان مسألة أو نظرية من نظريات «إقليدس».
- (١)
لا اعترف بصحة شيء ما لم أجده كذلك بلا تعجل أو استغراض.
- (٢)
تجزئة الصعوبة إلى أجزاء، وحل كل منها على حدة.
- (٣)
ثم التأمل بالترتيب ابتداء من الأشياء البسيطة التي يسهل فهمها، ثم الانتقال خطوة بعد خطوة إلى الأشياء الصعبة.
- (٤)
الإحاطة والتعميم بحيث أثق أني لم أترك شيئًا.
وهذه القواعد الأربع تشبه بل تطابق التدليل في نظريات إقليدس، ولكن هنا الفرق الأساسي بين بيكون التجريبي وبين ديكارت التفكيري؛ لأن البرهان عند ديكارت عقلي مهما قلنا إن منهجه يحوط هذه البراهين بما يمنع الخطأ، ولكن البرهان عند بيكون تجريبي، يجري باليد كما يجري بالعقل، أي: يجب أن نجرب أكثر مما نفكر، وهذا هو منهج المدرسة الإنجليزية على وجه عام، إذ هي مدرسة العلم وليست مدرسة الفلسفة، فقد حدث أن «جينر» الطبيب الذي اهتدى إلى لقاح الجدري أرسل إلى «هنتر» خطابًا يقول فيه: «أنا أرتأي أن …» فرد عليه هنتر بقوله: «لا ترتأي ولكن جرب».
منطق ديكارت يقول: «أقعد على كرسيك، وتأمل، وفكر بعقلك، واحترس من الخطأ بالقواعد الأربع التي ذكرت».
ولكن منطق بيكون يقول: «انهض، وشاهد بعينيك وافحص بسائر حواسك، ثم جرب بيديك».
وقد انتفعت الأبحاث التجريبية العلمية من منطق ديكارت من حيث النفور من التسليم بصحة الأقوال أو العقائد أو الفروض التي لم يفحص عنها، ولكن حضارة أوروبا القائمة هي ثمرة المنهج البيكوني، أي التجربة أو التفكير بالعقل واليد معًا.
- (١) التفكير الأصلي أو اللدني: مثل بديهيات الرياضة: ٦ أكبر من ٥.
- (٢) التفكير الاستنتاجي من الحواس: وقد شك هو في قيمة هذا التفكير، ولكنه عاد فقال إن هذا التفكير يجب أن يكون سليمًا، فإذا قلت مثلا: إن هذا المنزل موجود مع إنه غير موجود، ففي هذه الحال يكون الله الذي خلق لي الحواس التي أعاين بها هذا المنزل قد غشني، وهذا غير معقول.
- (٣) التفكير الكاذب أو الخرافي: كالإيمان بالجن الخ.
والحقيقة الأولى عند ديكارت تكاد تكون بمثابة الامتحان العلمي؛ ولذلك يضع شروط هذا الشك الواقية من الخطأ. أي إنه شك منهجي أو شك منظم.
- (١) أرواح مخلوقة: مثل نفس الإنسان التي تفكر، وهي متصلة اتصالًا غير وثيق بالأجسام.
- (٢) روح غير مخلوق: هو الله وهو عنده بالطبع رب المسيحية.
- (٣) أجسام مخلوقة مادية: لها خاصة التحيز مكانًا وزمانًا، وهي خارجة عن تفكيرنا مستقلة منه، وهذا التقسيم، بل هذا الإدمان على «مخلوق» و«غير مخلوق» ثم «روح» و«مادة» هو بعض تفكير الرهبان في الدير أيام القرون الوسطى، وقد وجد ديكارت نفسه في مأزق عندما حاول أن يفهم كيف يحرك الجسم «= مادة» النفس «= روح» …
وصعوبات ديكارت هي صعوبات سيكلوجية؛ لأن محاولاته فلسفية عقيمة؛ ولذلك لم يستطع تفسير المعرفة بعد أن ربك نفسه بالفصل بين المادة والروح.
وعندما نتعمق مؤلفات ديكارت تتأكد لنا صحة القول بأنه ينزع إلى الفلسفة، وليس إلى العلم.
- (١)
فإن ديكارت يقول: «إن الله كائن كامل أبدي غير محدود، وهو الذي خلقني، وأنا محدود؛ ولذلك لا أستطيع أن أخترع كائنًا غير محدود زمانًا ومكانًا».
- (٢)
إذا كنت أعرف شيئًا أكمل مني فهذه المعرفة قد جاءتني من الخارج، ولست أنا أصلها، جاءتني من كائن كامل هو الله.
- (٣)
إنه يمكن بالاعتماد على الصفاء والوضوح أن نجد الله.
فهنا نجد أن منهج ديكارت هو منهج المفكر القاعد على الكرسي يعالج المشكلة كما لو كانت سيكلوجية فقط خاصة به.
ولكن منهج بيكون التجريبي في هذه المشكلة يطالبنا ببحث الأديان جميعها كما عرفها الإنسان، والفكرة الخاصة بالله عند جميع الأمم القديمة والحديثة، ثم البحث عن حلقات التطور في سلسلة العقائد إلى أن نصل إلى الإيمان العصري، أي: إننا نعتمد على المشاهدة والاختبار اللذين يقومان هنا مقام التجربة باليد بدلًا من أن نعتمد على التفكير المجرد، ونحن قعود على كراسينا.
وقد أوذي التفكير الأوروبي بالفصل الذي أقامه ديكارت بين العقل والمادة، أو الروح والجسم، ولكن ديكارت وهو يحاول الوصول إلى اليقين عن سبيل الشك المنظم قد زاد الشكوك وحطم الثقافة التقليدية، أي: ثقافة القرون الوسطى، وقد احتاجت أوروبا إلى سبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧) كي تحقق اتزانًا جديدًا يجعل الروح، أي: العقل والنفس، خاصة من خواص المادة والجسم، فقد ناقض سبينوزا ديكارت ووحدت فلسفته بين المادة والعقل، ولكنه اتفق مع ديكارت أن الفلسفة لا تكون صحيحة إلا إذا استطعنا التعبير عن حقائقها بالرياضيات …