بو عمير … يدخل معركة بالصدفة!
ابتسم «بو عمير» وهو يرى ما يحدث حوله … كان يجلس في هذه اللحظة في صالة مطار «لوس أنجلوس» في انتظار الطائرة التي سوف يَعبُر بها المحيط إلى «روما» … كان الجو حارًّا بعضَ الشيء، حتى إنه خلع البلوفر الذي يلبسه ووضعه فوق ركبتَيه، ثم أمسك بكتاب يقرأ فيه.
فقد حدث فجأةً أن تدافعَت أقدامٌ كثيرة حوله، لم تلفت نظرَه في البداية؛ لكن عندما توقَّفَت بجواره، ألقى نظرة سريعة على حقيبة ملابسه الصغيرة الموضوعة بجواره حتى لا تتوه في زحام الأقدام، ثم ابتسم … فقد رأى ما يُثير ابتسامتَه.
كان «بو عمير» قد خرج في مهمة خاصة كلَّفه بها رقم «صفر» في أمريكا، وعندما انتهى منها استعدَّ للعودة إلى المقر السري. ولما كان موجودًا في هذه اللحظة في «لوس أنجلوس»، فقد كان عليه أن يَصِل إلى مطارها ليركب منه الطائرة.
كان ما أثار ابتسامةَ «بو عمير» هو تصرُّفُ أحد الرجال الواقفين حوله … فقد اقترب أحدهم وأخذ الحقيبة الأصلية الخاصة ﺑ «بو عمير»، ثم وضع مكانها حقيبة مشابهة تمامًا لحقيبة «بو عمير» … واختفى في هدوء … في نفس الوقت ظلَّت الأقدام الكثيرة واقفة حوله، وكأنها تمثِّل ستارًا يُخفي سارق الحقيبة الأصلية، ليضع بدلًا منها الحقيبة المشابهة المزيفة.
فجأة … سمع سؤالًا من شخص يقول: هل أنت ذاهب إلى «روما»؟
رفع «بو عمير» عينَيه، ثم قال وهو يبتسم: هل تسألني أنا؟
وقعَت عينَا «بو عمير» على رجل هادئ الملامح، تغطِّي وجهَه ابتسامةٌ صغيرة، يلبس نظارة بيضاء، وله شارب كثيف، ووجه أحمر تمامًا.
ردَّ الرجل: نعم!
قال «بو عمير»: إنني فعلًا في انتظار الطائرة!
جلس الرجل بجواره وهو يقول: هل تسمح لي؟!
فكَّر «بو عمير» بسرعة: إن هذه الخطة ليست ذكية تمامًا من هؤلاء الرجال، لكن لا بأس بها.
أخفى «بو عمير» ابتسامتَه وهو يفكر: لقد أوقعوا أنفسهم في يد الشياطين، وقدَّموا مغامرة جديدة دون أن يعرفوا.
قال الرجل: يبدو أنك لست أمريكيًّا ولا أوروبيًّا، وأظنك من الشرق الأوسط!
ابتسم «بو عمير» وأجاب: هذا صحيح!
قال الرجل: إن ملامحك تكشف جنسيتك!
سكت لحظة، ثم قال: اسمي «فرانك»، وأعمل في مجال التجارة مع دول في منطقتكم في السودان، والكويت، والمغرب.
ابتسم «بو عمير» وقال: يُسعدني أن أتعرَّف عليك!
سأل «فرانك»: من أين أنت إذن؟
أجاب «بو عمير»: من الجزائر!
هتف الرجل، وكأنه وجد صديقًا قديمًا: أهلًا بكَ، لقد تابعتُ تاريخ كفاحكم لفترة طويلة، أنتم حقيقةً شعبٌ عظيم!
كان «بو عمير» يتحدث مع «فرانك»، لكنه في نفس الوقت كان يفكر في شيء آخر … إن هذه الحقيبة المزيفة لا بد أنها تُخفي سرًّا، وهو سرٌّ خطير، وإذا كان هؤلاء الرجال يريدون أن يستغلُّوه في نقل السير دون أن يكتشف أحد ذلك، فقد أخطئوا الطريق.
في نفس الوقت كان الرجل يتحدث إليه، وكيف أنه اشترك في حرب «فيتنام» جنديًّا في الجيش الأمريكي، وكيف زار عددًا كبيرًا من بلاد آسيا وأفريقيا …
وبرغم أن «بو عمير» كان يحاول أن يسمع كلام «فرانك» وحكاياته، التي كان يحكيها بطريقة ضاحكة؛ إلا أنه في نفس الوقت كان يفكِّر فيما سوف يفعله … إن عليه أن يُرسل رسالة سريعة … إلى رقم «صفر» يشرح فيها ما حدث الآن.
في نفس الوقت كان يقول لنفسه: إن الأمور هادئة في هذه اللحظة، لكن عندما تَصِل الطائرة إلى «روما» فسوف يتغير كلُّ شيء، وقد يتعرَّض لمخاطر لا حدودَ لها وهو وحده الآن!
ابتسم «بو عمير» ونظر إلى «فرانك» وهو يقول: أستأذنك، سوف أقضي حاجة سريعة.
حمل الحقيبة وانصرف … في الطريق إلى حيث توجد كافيتريا المطار، كان يعرف أن أعين الرجال تتابعه؛ إن لم يكن أحدهم يمشي خلفه الآن وسط هذه الحركة النشطة في المطار …
قال في نفسه، وهو يتقدم بخطوات واثقة: إنني لا أعرف أحدًا منهم سوى «فرانك». هذا الرجل العجوز؛ ولذلك فلا بد من الحذر. اتجه إلى دورة المياه، ثم اختفى فيها، وعندما أغلق الباب خلفه أخرج جهاز الإرسال، وأرسل رسالة شفرية إلى رقم «صفر». كانت الرسالة تقول: «٩ – ١٦ – ٦ – ١٢»، وقفة «١٩ – ٢٧ – ٦ – ١٩ – ٣ – ١٨»، وقفة «٦ – ٨ – ١٢ – ٦ – ٤»، وقفة «٦ – ٣٠ – ٧٠»، وقفة «٦ – ٣٠ – ٢٠ – ٧٠ – ٦ – ٢٢ – ٧٠ – ١٧»، وقفة «٢٦ – ٧٠»، وقفة «١٩ – ٢٢ – ٦ – ٣»، وقفة «٣ – ٥٠ – ١٩ – ٦»، وقفة «٦ – ٣٠ – ٢٢ – ٦ – ٦ – ٣ – ١٨»، وقفة «١٢ – ٤٠ – ٣٠»، وقفة «٦ – ٣٠ – ٧٠»، وقفة «١٨ – ١٧ – ٦ – ٢٩»، وقفة «٢٦ – ٧٠»، وقفة «٦ – ٣٠ – ٣ – ٦ – ٩ – ٢٤ – ١٨» انتهى.
وعندما انتهى منها خرج مباشرة. وكان خروجه مفاجأة جعلَته يتأكد أنه مراقب تمامًا … كان هناك رجلان يخرجان معه في نفس اللحظة، واستطاع أن يلمح نظرةً مشتركة سريعة بينهما. عاد إلى حيث «فرانك»، الذي ابتسم عندما رآه، وقال: إن الطائرة سوف تَصِل بعد قليل.
ابتسم «بو عمير» وهو يجلس قائلًا: لا بأس، ليس لديَّ ما يجعلني أتعجل الوقت؛ فقد كنت في رحلة سريعة إلى أحد أصدقائي هنا!
قال «فرانك» في ودٍّ: هذه أول مرة تزور فيها أمريكا؟!
قال «بو عمير»: لا، ليست الأولى؛ فقد زرتُها أكثر من مرة وأُعجبت بها، وهذا ما جعلني أعود من جديد.
كان «بو عمير» يضع الحقيبة المزيفة بين ساقَيه، وكأنه يهتمُّ بها اهتمامًا كبيرًا.
سأله الرجل: هل ستبقى في «روما» كثيرًا؟
ردَّ «بو عمير»: لا أظن، ربما أقضي الليلة هناك، وأرحل في اليوم التالي.
سأل «فرانك»: إلى الجزائر؟
قال «بو عمير»: نعم.
أعلن المذيع الداخلي للمطار عن وصول الطائرة المسافرة إلى «روما». وقف «فرانك» بسرعة وهو يقول: هل هذه كل حقائبك؟
ردَّ «بو عمير»: نعم؛ ففي الرحلات لا أحب أن تكون حقائبي كثيرة!
أخذ الاثنان طريقهما إلى منقطة المسافرين … كان «بو عمير» يرقب الحركة، فعرف أن الرجال لا يقلُّ عددهم عن خمسة … قال في نفسه: لا بأس؛ ففي «روما» سوف تتغير الأمور …
عندما صَعِد الاثنان إلى الطائرة كان مقعد «بو عمير» يقع في ثُلُثِها الأول، بينما كان مقعد «فرانك» عند نهاية الطائرة. أشار «بو عمير» إلى «فرانك» محيِّيًا ومتمنِّيًا له رحلة طيبة. في نفس الوقت كان يفكر: إن هذه فرصة ليستطيع فتح الحقيبة ومعرفة ما بها.
لكنه بعد لحظة فكَّر مرة أخرى: إن ذلك قد يلفت نظرهم … ينبغي أن أترك الأمور تسير بطريقة عادية.
جلس في مقعده، وفتح كتابه. لكن لم تمضِ دقيقة حتى كان «فرانك» يجلس بجواره. قال «فرانك» مبتسمًا: حرصتُ على أن نكون معًا؛ فالرحلة طويلة تتجاوز الثماني ساعات!
ابتسم «بو عمير» وقال: لقد كنت أفكر بنفس الطريقة، وكنت سآتي إليك، ولن يرفض جارك أن نتبادل المقاعد!
غير أن «بو عمير» كان يفكر في شيء آخر … فهو يعرف أن الرجال سوف يكونون حريصين على محاصرته طوال الرحلة وحتى الخروج من مطار «روما»، أو حتى قبل الخروج لاستعادة الحقيبة من جديد، وأن عليه أن يفكر جيدًا في طريقة تجعله حرَّ التصرف؛ فقد تحدث أيُّ مفاجآت … فحتى الآن لم يَصِلْه ردٌّ من المقر السري، وإن كان يعرف يقينًا أن الشياطين سوف يكونون هناك.
لم تمضِ دقائق حتى أعلن المذيع الداخلي للطائرة عن ضرورة ربط الأحزمة، ثم بدأت التعليمات التي ينبغي أن يتبعها الركاب، وهذه مسائل يعرفها «بو عمير» جيدًا.
بعد قليل … بدأت حركة الطائرة، وكان هذا يعني أن الرحلة إلى «روما» قد بدأت … ويعني أيضًا أن المغامرة التي لم يتوقعها قد بدأت أيضًا مغامرة بطلُها «بو عمير» وحده حتى الآن.
أخذت الطائرة طريقَها إلى الفضاء، حتى استقرَّت … نظر له «فرانك»، وقال: هل تلاعبني دومينو؟
ابتسم «بو عمير»، وقال: أُفضِّل أن أقرأ قليلًا حتى أنتهيَ من كتابي؛ فالمسافة لا تزال طويلة والوقت طويل أيضًا.
ردَّ «فرانك»: لا بأس.
ثم جذب مجلة كانت في مسند المقعد الأمامي وأخذ يقلِّب صفحاتِها. في نفس الوقت انهمك «بو عمير» في قراءة صفحات الكتاب، لكن الحقيقة أنه لم يقرأ … كان يفكر في هذه المغامرة التي دخلها بالصدفة.
فكَّر «بو عمير»: ماذا في الحقيبة؟ ولماذا هو بالذات؟ وهل هي مسألة خطيرة؟ … توقَّف قليلًا يبحث عن إجابة؛ لكن الأسئلة كانت لا تزال في ذهنه: إن من الضروري أن تكون في الحقيبة أوراق هامة، أو فيلم يحمل معلوماتٍ لها قيمتها، أو شريط تسجيل يحمل اعترافًا ما، أو شيء من هذا القبيل!
قلَّبَ صفحة في الكتاب بعد أن قرأ نهايتها حتى يبدوَ تصرُّفُه طبيعيًّا، وعاد لأفكاره من جديد … تساءل: هل هي عصابة، وهل هؤلاء معروفون لجهات الأمن في إيطاليا، ويخشَون أن يقع أحدهم، أم أنهم يخشَون عصابة أخرى تحاول أن تحصل على ما في الحقيبة؟
عند هذه النقطة توقَّف «بو عمير» … وأخذ يقلِّب الفكرة من جديد: لو أنه صراع عصابات، فإن هذه سوف تكون مغامرة رهيبة … فسوف يقع بين عصابتَين … لكنه عاد يفكر بطريقة أخرى: لو كان الصراع بين عصابتَين، فإنه سوف يكون في حالة تسمح له بتصرُّفٍ أحسن، وأكثر حرية؛ لأن العصابتَين سوف يدخل أفرادهما في صراع بينهما، ويكون هو حرًّا في هذه الحالة، ما لم تُحاصره عصابة «فرانك» حتى لا تفلتَ الحقيبة.
كان الوقت ينقضي، و«بو عمير» يقلِّب الموقف في ذهنه ليصل فيه إلى قرار، لكنه في النهاية قال لنفسه: إن الوصول إلى «روما» سوف يكون هو بداية التصرف.