الفصل الثالث
واحدة من أكثر قصص الحب عاشها دستويفسكي قوةً ترجع إلى مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر. أمَّا بطلة هذه القصة وهي أبوليفاريا سوسلوفا؛ الفتاة الشابة التي تركت أثرًا عميقًا في إبداع الروائي الروسي الكبير بعد ذلك.
يبدو أن الفتاة الشابة وقد بهرتها عبقرية الفنان العظيم، راحت تُعبِّر له عن إعجابها به، وقد استجاب دستويفسكي لهذا الشعور الملتهب الذي بثَّته فتاة في شرخ الصبا.
على أية حال لا يُخامرنا أي شك في أن قصة الحب بينهما قد بلغت ذروتها في عام ١٨٦٣م. في صيف هذا العام يسافر دستويفسكي بصحبة سوسلوفا إلى الخارج. وفي خطاباته إلى إخوته يتحدَّث بصراحة تامة عن السعادة في السفر مع كائن تُحبه. والحقيقة فإن شكوكه المعتادة وميله إلى العبوس، والأهم خسائره الفادحة على مائدة القِمار، قد عكَّرت صفو هذه الرحلة التي قام بها عبر أوروبا بصحبة محبوبته الشابة.
إن رفيقة سفر دستويفسكي تعاني من الخسارة، ترهن خاتمها، تعاني معه من رعب الإفلاس المفاجئ، عندما يحين موعد الارتجاف عن سداد مستحقات الفندق. تعكس رواية «المقامر» بشكل مرتَّب تاريخ علاقة دستويفسكي وسوسلوفا، وما تضمَّنته من العديد من المشاهد الغرامية.
في الثالث والعشرين من أبريل (الخامس من مايو بالتقويم القديم) من عام ١٨٦٧م؛ أي بعد شهرَين من زواجه بأنَّا جريجوريفنا، في الأسبوع الثاني من رحلة زواجهما، يرسل دستويفسكي من درزدن إلى سوسلوفا خطابًا يخبرها فيه تفصيلًا عن التحوُّل الكبير في حياته. وبنبرة ملؤها الحنان والصراحة، يكتب كلمات يكشف فيها عن شخصية مراسلته: «لقد ترك خطابك لي انطباعًا حزينًا في نفسي. تقولين إنك حزينة للغاية. لا أعرف عن حياتك في العام الأخير شيئًا، كما لا أعرف كذلك عن أحوالك العاطفية أي شيء، ولكن استنادًا إلى معرفتي التامة بك، فإن من الصعب أن تعرفي معنى السعادة. أواه يا عزيزتي! لست أدعوك إلى أن تأخذي طريق السعادة الرخيصة الضرورية. إنني أحترمك (وكان هذا شعوري دائمًا) لِمَا تتحلَّين به من عزيمة وإصرار، لكنني أعرف أن قلبك لا يستطيع إلا أن يسعى للحياة، وأنت نفسك تعتبرين الناس إمَّا متألقين دومًا، وإمَّا أنهم على الفور أوغاد سفلة. إنني أُصدر حكمي هنا بِناءً على حقائق، وعليك أن تصلي إلى النتائج بنفسك. إلى اللقاء أيها الصديق دومًا.»
لا بد أن ندرك أن أبوليفاريا سوسلوفا كانت محط رغبات دستويفسكي الجامحة. امرأة متطرِّفة، تندفع بمشاعرها إلى منتهاها لتصل إلى الذروة النفسية والمعيشية. لقد أظهرت طوال حياتها هذا «الإصرار» الذي يدل على طبيعة شهوانية شديدة الولع؛ طبيعة نهمة إلى المشاعر الحسية. إن ميلها لتقسيم الناس إلى قديسين وأوغاد أمر مميَّز لولعها الحسي الدائم وتفانيها، وكما يبدو لكونها كانت كائنًا جهنميًّا بحق. إن لديها قلبًا يتوق إلى المظاهر النبيلة، للتعاطف والطيبة (دموعها على شقيق دستويفسكي المريض)، وهذا القلب نفسه ليس أقل نزوعًا نحو النزوات الحسية الخرقاء واضطهاد الآخرين، بل وحتى الانتقام منهم. هذه الصفات بكل تأكيد تكشَّفت بفضل شهادة ف. ف. روزانوف، الذي تزوَّج من عشيقة دستويفسكي السابقة في نفس عام وفاته.
إن روزانوف، وقد أصبح زوجًا لها، يكشف بوضوح تام عن شخصية سوسلوفا بكل سماتها العاصفة والحادة. ينبغي فقط أن نضع في اعتبارنا أن الحديث يدور هنا عن امرأة لم تعد في شرخ شبابها (في مطلع الثمانينيات كانت أبوليفاريا سوسلوفا قد تخطَّت الأربعين)، وأن شهادة روزانوف يمكن أن تكون منحازةً إلى الجانب الرديء فيها. ومع ذلك فإن هذه الشهادة تكتسب أهميةً لا شك فيها من الناحية الفعلية، وهي تتفق في الكثير من جوانبها مع شهادات أشخاص آخرين.
يتحدَّث روزانوف عن سوسلوفا قائلًا: «تزوَّجت منها وأنا في الفصل الثالث من الجامعة، هجرتني لتقع في غرام شاب يهودي بعد ست سنوات من حياتنا معًا لتعيش في نيجني، في بيتها هناك.» فيما بعدُ وفي وثيقة قدَّمها روزانوف لإدارة السينود بشأن حياته العائلية، يتحدَّث فيها عن زوجته الأولى (متحدِّثًا عن نفسه بضمير الغائب) فيقول: «أبوليفاريا، اسم العائلة سوسلوفا، روزانوف بعد الزواج، هجرت زوجها ف. ف روزانوف في عام ١٨٨٦م بحجة أن زوجها — خلافًا لِما بذله لها من وعد — يلتقي بشاب يهودي يُدعى جولدوفسكي، وهو الشخص الذي يدير توزيع كتبه على المكتبات، وقد وقعت (أبوليفاريا) في غرام هذا الجولدوفسكي، ثم لم تجد منه تعاطفًا تجاهها. وعلى نحو لم يُسمع به من قبل، راحت تلاحقه، وبواسطة خلافات لا يمكن وصفها دفعت زوجها ليقطع كل صلة به. وجولدوفسكي شاب ينتمي لعائلة يهودية محترمة، دعته سوسلوفا نفسها لاستضافته صيفًا لدى آل روزانوف. عمومًا كانت هذه إحدى نزوات سوسلوفا البشعة من ناحية سخافتها.»
كان لهذا الانفصال أثره المؤلم على روزانوف. يكتب روزانوف في أحد خطاباته قائلًا: «أذكر عندما هجرتني سوسلوفا أنني انخرطت في البكاء، وأنني ظَلِلت لمدة شهرَين لا أعرف مكانًا أذهب إليه، ولا أعرف فيما أُنفق كل ساعة من الوقت الذي يمر بي.»
ثم يتحدَّث روزانوف بعد ذلك عن نزوات زوجته ورغبتها في الانفصال عنه، وهو ما رفضه بحسم.
قبل ذلك، عندما انتقل روزانوف من عمله في بريانسك إلى يليتس، دعا زوجته للعيش معه آملًا أن تسير الحياة في مكان جديد، ووسط أناس جدد وظروف مختلفة على نحو أفضل، لكنها رفضت وعلى نحو قاسٍ بأسلوب فظ، وأجابته بقولها: «آلاف الأزواج يعيشون في نفس وضعك (أي هجرتهن زوجاتهن)، ومع ذلك فهم لا ينبحون. الناس ليسوا كلابًا.» وحتى أبوها، الذي خاطبه روزانوف راجيًا أن يؤثر في ابنته وأن يحثَّها على العودة إلى زوجها، أجابه قائلًا: «عدو الجنس البشري يسكن في بيتي الآن، وقد أصبح من المستحيل عليَّ أنا نفسي أن أعيش فيه.» ظلَّت سوسلوفا تشك دائمًا أن هذا العجوز الذي تخطَّى السبعين من العمر سوف يتزوَّج، ومن ثم راحت تُشهِّر به أمام أصدقائه ومعارفها.»
في عام ١٨٩٧م وافق روزانوف على الطلاق من سوسلوفا، لكن حياة روزانوف العائلية ظلَّت مثقلةً بالهموم بسبب رفض سوسلوفا الطلاق. أبلغني أحد أصدقاء روزانوف أن الكاتب الراحل أوفده في عام ١٩٠٢م إلى سيفاستوبول؛ حيث كانت أبوليفاريا سوسلوفا تعيش آنذاك، لينتزع منها الموافقة الضرورية. كانت سوسلوفا قد بلغت آنذاك حوالي الستين من العمر. كانت تعيش وحيدةً في بيتها الخاص (الذي اشتهر باسم «بيت أبوليفاريا روزانوف»). كان بيتها يثير الدهشة بنظافته وأناقته، ويخلق انطباعًا بأن صاحبته امرأة عملية ذات شخصية حازمة.
وفي حديثها مع مندوب زوجها أبدت صلابةً وإصرارًا لا يلين. ولم تستطع أي حجج أن تثنيها عن إرادتها. تحدَّثت عن روزانوف بحقد بالغ. وعلى الرغم من إلحاح مبعوث زوجها، فقد رفضت أي شكل من أشكال التنازل على نحو قاطع. ووفقًا لِمَا ذكره لي صاحب الحديث مع سوسلوفا، فمن الواضح أنه ظلَّ يتذكَّر بكثير من العذاب هذه المباحثات التي دارت بينه وبين أبوليفاريا سوسلوفا الحديدية.
عمومًا فقد كانت سوسلوفا امرأةً عظيمة بالفعل. أعرف أن الناس (ومنهم صديقة لها تُدعى أنَّا أوسيبوفناج، كانت تكبرها بخمسة عشر عامًا) كانوا مفتونين بها، أسرى لشخصيتها. لم أرَ روسيةً مثلها. كانت من وجهة روحها روسيةً تمامًا، منشقةً دينية أو ربما أفضل من ذلك، السيدة العذراء لجماعة الخليستيين الذين كانوا يؤمنون في القرن السابع عشر بالتوحد مع الروح القدس.
وبمناسبة الحديث عن سوسلوفا يتذكَّر روزانوف إحدى الشخصيات من رواية «المُذلُّون والمُهانون»، تلك الأميرة التي يحكي عنها الأمير فالكوفسكي لإيفان بتروفيتش. تقول عنها الرواية: «حسناء من الطراز الأول. يا له من صدر، يا له من قوام، يا لها من مشية! كانت نظرتها حادةً ثاقبة مثل أنثى نسر، وإنما مليئتان بالقسوة دائمًا وبالحذر. كانت تتصرَّف بوقار ومنعة وبكبرياء كامرأة صعبة المنال. كانت مشهورة بسلوكها البارد مثل الشتاء القارس، وكانت تبث الخوف في قلوب الجميع بفضيلتها الرهيبة التي لا سبيل إليها. كانت تنظر للجميع نظرةً خالية من أي رغبة، مثل راهبة في كنيسة من العصور الوسطى … ما الذي يمكن قوله عنها؟
لم تكن هناك امرأة أكثر عُهرًا من هذه المرأة … كانت فتاتي شهوانيةً إلى حد أن الماركيز دي ساد كان يمكنه التعلم منها … كانت الشيطان نفسه مُجسَّدًا، ولكنه شيطان جذاب، شديد الجاذبية، لا يمكنك التغلب عليه، وهَلمَّ جرًّا.»
هذا المقطع في رأي روزانوف كان من الممكن أن يمثِّل شخصية سوسلوفا أفضل تمثيل، على الرغم من أنه لا يمت إليها بصلة. لقد كتب دستويفسكي رواية «المُذلُّون والمُهانون» قبل أن يلتقي ببالينا، لكن إشارة روزانوف ذات أهمية كبرى لفهم شخصية سوسلوفا.
روزانوف يقارن هنا بينها وبين بطلات دستويفسكي الأخريات، وهي مقارنة يمكن أن تكون واقعيةً تمامًا.
«لقد عاشت مع دستويفسكي.
– لماذا انفصلت أبوليفاريا سوسلوفا عن دستويفسكي؟
– لأنه لم يرغب في تطليق زوجته المسلولة إلى أن تموت.
– لكنها ماتت؟
– نعم، ماتت. بعد نصف عام، ماتت، لكنني هجرته.
– ولماذا هجرته؟
– لأنه لم يرغب أن يطلِّقها، أصمت. لقد سلَّمت نفسي لحبه، دون أن أسأل، دون حسابات، وكان عليه أن يفعل مثلما فعلت، لكنه لم يفعل، ومن ثم فقد هجرته.
كان هذا أسلوبها، مثل هذا الحديث وقع لي معها حرفيًّا تقريبًا. نفس الأفكار وفي جميع الأحوال.»
يؤكِّد روزانوف أن سوسلوفا لم تكن شديدة الذكاء، لكنها تميَّزت بجاذبية منقطعة النظير تمامًا. نوع من الأنوثة الطاغية الآسرة، لكنها على ما يبدو، ظلَّت «معذبة» حتى في شهواتها، حيث أظهرت فيها أيضًا قدرًا من الخروج على المعايير، لتسير في منعطفات خاطئة نتيجة طبيعتها المركَّبة من شظايا حُطام. بعد مرور ثلاثين عامًا لا يستطيع روزانوف أن يتذكَّر فتنة هذه المرأة الغربية دون أن ينتابه اضطراب عميق وشيء ما من الإعجاب الحاد، هذه المرأة التي هي ليست «يكاترينا ميديتشي»، ولا «السيدة العذراء».