الفصل الرابع
«لقد اشترى ستيلوفسكي مني مؤلفاتي في صيف عام ٦٥ على النحو التالي؛ بعد وفاة أخي في عام ٦٤ تحمَّلت عنه الكثير من ديونه، وقد استخدمت أموالي الخاصة، وهي عشرة آلاف روبل (حصلت عليها من عمتي) في مواصلة إصدار مجلة «العصر»، مجلة أخي، لصالح عائلته، دون أن يكون لي أي حصة فيها، وحتى دون أن يكون لي الحق في وضع اسمي على غلاف (ترويسة) المجلة باعتباري مُحرِّرًا.
لكن المجلة أفلست، واضطُررت لتركه، ثم واصلت بعد ذلك سداد ديون أخي وديون المجلة قدر استطاعتي. لقد أعطيت كمبيالات كثيرةً لديميس وحده بالمناسبة (الآن بعد وفاة أخي). لقد جاء هذا المدعو ديميس إليَّ ورجاني أن أُعيد توقيع كمبيالات أخي باسمي (كان ديميس هذا هو الذي يبيع الورق لأخي)، ووعدني أنه سوف ينتظر ما شاء لي الانتظار، وقد فعلت ذلك بحماقة بالغة.
وفي صيف عام ٦٥ بدأ الجميع بملاحقتي بشأن كمبيالات ديميس وغيره (لا أذكر مَن)، ومن جانب آخر أظهر جافريلوفا عاملُ المطبعة أيضًا كمبيالةً لديه قيمتها ألف روبل، كنت قد أعطيتها له؛ لاحتياجي للمال حتى تستمر المجلة التي لا أملكها في العمل. لم يكن باستطاعتي أن أُثبت قانونًا عدم مسئوليتي عن الكثير من الكمبيالات، لكنني كنت أعلم علم اليقين (وخاصةً فيما يخص كمبيالات ديميس) أن الأمر قد تمَّ بتدبيرٍ من ستيلوفسكي، الذي ألَّب عليَّ جافريلوف أيضًا آنذاك. وفي الوقت نفسه إذا به يُرسل إليَّ فجأةً عرضًا؛ أن أبيع له رواياتي مقابل ثلاثة آلاف روبل، بالإضافة إلى كتابة رواية خاصة بأكثر الشروط إهانةً وتعجيزًا. ولو أنني انتظرت لتسلَّمت من باعة الكتب ضعف هذا المبلغ مقابل طبع الرواية على أقل تقدير، ولو أنني انتظرت عامًا آخر لحصلت على ثلاثة أضعاف المبلغ؛ أي سبعة آلاف روبل، مقابل بيع الطبعة الثانية من «الجريمة والعقاب» أُسدِّد بها ديون المجلة وبازونوف وبارتس ومُوَرد الورق.
ملحوظة: على هذا النحو أكون قد أنفقت على مجلة أخي وديونها اثنَين وعشرين أو أربعةً وعشرين ألفًا؛ أي أنني أضعت جهودي كلها وأصبحت فوق ذلك الآن مدينًا بخمسة آلاف روبل.
عدت في أكتوبر ومعي الأجزاء الأولى من رواية «الجريمة والعقاب» التي بدأت في كتابتها في الخارج، ثم قمت بالاتصال بمجلة «البشير الروسي» التي تسلَّمت منها مقدَّمًا بضعة …
بذلت كل ما في وسعي لإنهائها قُبيل الأول من نوفمبر عام ٦٦، وقد نجحت في ذلك (لو لم أسلِّمها في الموعد لكان قد التهمني)».
على الرغم من العقد المرعب، فقد ظل دستويفسكي يعمل طوال عام ١٨٦٥م على إنجاز روايته «الجريمة والعقاب»، ولم يكن لديه سطر واحد مكتوب منها حتى الأول من أكتوبر؛ أي قبل موعد تسليم الرواية إلى ستيلوفسكي بشهر واحد.
هُرع أصدقاء الكاتب لمساعدته، وعندما رفض بحزم اقتراحهم بأن يتولَّوا كتابة العمل سويًّا بأن يقسموا فصوله عليهم، فقد أشاروا عليه إلى المخرج الوحيد من المأزق الذي هو فيه؛ إذا كان من المستحيل عمليًّا كتابة رواية من عشر ملازم خلال شهر واحد، فربما يصبح بالإمكان إملاؤها.
تشبَّث دستويفسكي بهذا الاقتراح، وسرعان ما ظهرت لديه — بتوصية من أصدقائه — أفضل تلميذة في فصول الاختزال؛ أنَّا جريجوريفنا سنيتكينا.
كان الانطباع الأول الذي تولَّد لدى دستويفسكي تجاه أنَّا جريجوريفنا مؤلمًا على نحو لا يمكن تصديقه. تتذكَّر أنَّا بعد خمسين عامًا (في شتاء عام ١٩١٧م) لقاءها الأول مع زوج المستقبل بشعور بالعذاب لا يُنسى:
«لا يمكن لأي كلمات أن تُعبِّر عن هذا الانطباع الثقيل المؤسف الذي تركه في نفسي فيودور ميخايلوفيتش لدى لقائنا الأول. بدا لي حائرًا، مهمومًا بشدة، عاجزًا، وحيدًا، مضطربًا، مريضًا، وأنه يعاني وطأة البؤس، وأنه لا يرى وجهك، وليس بمقدوره أن يُقيم معك حوارًا … والحقيقة أن هذا الانطباع قد زال عني في اللقاءات التالية …»
لم تضمَّ أنَّا جريجوريفنا هذه الكلمات في «مذكراتها»، وإنما وردت في واحدة من مذكراتها الأولى المؤرَّخة ٢٦ مايو ١٨٨٣م، وقد تحدَّثت هنا بصراحة مطلقة: «أود أن أذكر انطباعًا واحدًا: لا يوجد أحد في هذا العالم، من قبلُ أو من بعد، ترك في نفسي مثل هذا الانطباع الثقيل، الانطباع الخانق في الحقيقة، مثل الذي تركه عليَّ فيودور ميخايلوفيتش في لقائنا الأول. لقد رأيت أمام عينيَّ إنسانًا تعيسًا، مقتولًا، مُعذَّبًا. كانت ملامحه تشي بأنه إنسان فقد لتوِّه اليوم أو بالأمس شخصًا عزيزًا على قلبه، وأن مصيبةً ما مؤلمةً حلَّت به. عندما تركت فيودور ميخايلوفيتش، تبدَّد مزاجي الوردي السعيد مثلما يتبدَّد الدخان. انقشع قوس قزح أحلامي، وانتابني حزن وكدر شديدان، ورحت أسير في الطرقات وقد غشيني إحساس ما مبهم.»
ومن المشاهد المميَّزة لخبرة الإملاء الأولى: طلب مني الجلوس إلى مكتبه، وراح يقرأ بضعة سطور من «البشير الروسي». لم أتمكَّن من الكتابة، ونبَّهته إلى أنني لا أستطيع أن أُتابعه، وأنه عند الحديث أو الإملاء لا يتحدَّثون بمثل هذه السرعة. راح يقرأ ببطء أكثر، ثم طلب مني أن أُترجم ما كتبته اختزالًا إلى الحديث العادي. كان يتعجَّلني طوال الوقت قائلًا: «أَخ، وقت طويل، هل يستغرق الأمر كل هذا الوقت للكتابة؟»
أسرعت، ولكنني لم أضع نقاطًا بين عبارتَين، على الرغم من أن الجملة التالية كانت تبدأ بحرف كبير، وكان من الواضح أنني أسقطت نقطةً فقط. استاء فيودور ميخايلوفيتش بشدة بسبب إسقاط النقطة، وكرَّر عدة مرات عبارة: «هل هذا ممكن؟»
بعد انتهاء الكتابة المسائية في اليوم الأول لم يتبدَّل انطباعي. «عدت إلى البيت تحت تأثير نفس الانطباع الثقيل. كنت آسفةً على آمالي التي انهارت، وكنت مشفقةً على هذا الإنسان الغريب، التعيس وغير المفهوم بالنسبة لي. أمطرتني أمي، التي كانت تنتظرني على أحر من الجمر، بالأسئلة، ولكنني اكتفيت بأن أُجيبها بقولي: أَخ، ماما، لا تسأليني عن دستويفسكي …»
لكننا، وفي «مذكرات» أنَّا جريجوريفنا أيضًا، يمكننا على نحوٍ واضح أن نتلمَّس هذا الانطباع الحزين وقد تسلَّل بين السطور.
أمَّا البيت الذي عاش فيه دستويفسكي فكان يُذكِّرها بهذا المسكن القبيح الذي عاش فيه راسكولنيكوف؛ بيت من بيوت بطرسبورج المؤجرة من منتصف القرن يضم عددًا كبيرًا من الشقق التي يسكنها تُجار وحرفيون. في الشقة رقم ١٣ عاش دستويفسكي. كانت غرفة مكتبه يسودها الظلام والصمت: «… كان المرء يشعر هنا بنوع من الكآبة والانقباض من جراء الضجيج والسكون …»
«للوهلة الأولى بدا لي دستويفسكي رجلًا تقدَّم به العمر كثيرًا، ولكن ما إن بدأ في الحديث حتى أصبح أصغر عمرًا، ورأيت أنه من المرجَّح أن يكون قد تجاوز الخامسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين. كان متوسطَ الطول، منتصب القامة للغاية، شعره كستنائي فاتح، حتى إنه يميل قليلًا للحمرة، مدهون بدهان عطري وقد صُفِّف بعناية، لكن ما أدهشني فيه هو عيناه؛ كانتا مختلفتَين؛ فإحداهما بنية اللون، والأخرى متسعة الحدقة بحيث لا تكاد القزحية أن تُرى. أضفت هذه الازدواجية على نظرة دستويفسكي شيئًا من الغموض في التعبير. بدا لي وجه دستويفسكي الشاحب مألوفًا للغاية، ولعل مرجع ذلك أنني شاهدت صورًا له من قبل. كان يرتدي معطفًا قديمًا للغاية من الجوخ الأزرق، ولكن قميصه كان ناصع البياض …»
بدأ العمل اليومي في اختزال رواية «روليتنبورج»، التي تغيَّر اسمها فيما بعدُ إلى «المقامر»، من الثانية عشرة صباحًا وحتى الرابعة بعد الظهر، وذلك على مدى شهر بأكمله تقريبًا. من الرابع وحتى التاسع والعشرين من أكتوبر، تمَّت كتابةُ واحدةٍ من أكثر أعمال الكاتب روعةً فنية، ومن صوته الحي مباشرة. أمَّا الأمر الذي فاق التوقع؛ فقد تمثَّل في سرعة إيقاع العمل ليعكس على نحو مثمر للغاية تماسك البناء الفني العام للرواية، ويُضفي عليها توتُّرًا شديدًا واندفاعًا جذابًا. تقع الرواية في عشر ملازم كُتبت في ستة وعشرين يومًا.
في الثلاثين من أكتوبر، يُسلِّم دستويفسكي مخطوطة «المقامر» إلى ناشره. وبفضل هذا التوتر الإبداعي الفريد استطاع دستويفسكي أن يتجنَّب خطورة «الغرامات البشعة»، فضلًا عن ذلك فقد تفادى دستويفسكي تهديدًا آخر كان يعذِّبه طوال الوقت؛ مستقبله وحيدًا، وخطورة أن تطول حياته الشاقة باعتباره كادحًا مريضًا دون أن يجد العزاء مع إنسان يحمل له مشاعر الحب. إن دستويفسكي الذي دخل عقده الخامس قد وجَّه كل رصيده الضخم من الحنان الذي ادَّخره طوال هذه السنين إلى موظَّفته ذات العشرين ربيعًا.
إبَّان حمية العمل أخبر دستويفسكي كاتبته ذات مرة أنه يقف الآن عند مفترق الطرق، وأنه أمام اختيارات ثلاثة؛ إمَّا أن يذهب إلى الشرق، القسطنطينية أو أورشليم، وأن يبقى هناك إلى الأبد. أو أن يذهب إلى الخارج ليلعب القِمار وينغمس في هذا الولع بكل جوانحه. أو، أخيرًا أن يتزوَّج للمرة الثانية ويبحث عن السعادة والسرور في الحياة العائلية. ما هي إلا أيام معدودة بعد انتهاء الكتابة، وإذا بدستويفسكي يروح يقص في الثامن من نوفمبر على أنَّا جريجوريفنا قصة حياته في شكل رواية اختلقها ليطلب يدها في خاتمتها. بعد مرور ثلاثة أشهر، وفي الخامس عشر من فبراير عام ١٨٦٧م، يتزوَّجان، وفي ربيع العام نفسه، وبسبب الظروف المنزلية المرتبكة وتهديد الدائنين، يسافر الزوجان معًا إلى الخارج.
يُسجِّل دستويفسكي المرحلة الأولى من هذه العلاقة الغرامية في خطاباته. إنها ليست كراسات (يوميات)، مثل تلك التي كان يرسلها في الخمسينيات إلى ماريا ديمترييفنا إيسايفا، وإنما هي مذكرات تميَّزت بنبرة الخطابات الثلاثة الأولى التي كتبها دستويفسكي إلى زوجة المستقبل، تُمثِّل دون أدنى شك نوعًا فريدًا في المراسلات الغرامية في كل العصور. إنها تُفسِّر لنا الانطباع المضني الذي اكتنف أنَّا جريجوريفنا من أثر لقائها الأول بالكاتب. كم كانت بائسةً حزينة إلى ما لا نهاية هذه السطور الأولى التي كتبها هذا الكاتب الكهل إلى هذه الفتاة الغضة، التي وافقت أن تُصبح رفيقة حياته. تُرى ما الذي كتبه دستويفسكي في خطابه القصير الأول؟ وماذا لو عرفنا أنه كتبه لأنَّا جريجوريفنا في نفس يوم عيد ميلادها؟ يا لها من تهنئة! دستويفسكي يتحدَّث في خطابه عن مرضه، عن ضعفه، عن أعماله، عن ضرورة لقائه بالناشر، عن عمله المضني الشاق، عن جلوسه إلى المائدة وحيدًا … فقط عندما يقترب الخطاب الحزين من نهايته إذا به يخط سطرَين ثلاثةً يرسل لها فيها تحيَّاته بنبرة ودودة. تبدي أنَّا جريجوريفنا ملاحظةً مثيرة على الخطاب الأول الذي أرسله لها زوج المستقبل: «كان التاسع من ديسمبر يوم ميلادي، وكذلك ميلاد أمي أ. ن. سنيتكينا. كان من المعتاد أن يجتمع لدينا في هذا اليوم أقاربنا ومعارفنا. ألححت في دعوة فيودور ميخايلوفيتش لحضور مأدبة الغداء في هذا اليوم.
كان من الصعب عليه الحضور بسبب الضعف الذي أصابه بعد نوبة الصرَع التي داهمته منذ فترة قريبة، والتي لم تكن آثارها قد زالت بعد. كما كان من المرهق له أن يلتقي لدينا بمجتمع لا يعرفه بعد؛ فمثل هذه اللقاءات، وهو في حالته المرضية هذه، كانت تمثِّل عبئًا مضاعَفًا عليه، ومن ثم فقد فضَّل فيودور ميخايلوفيتش عدم الحضور، وكلَّف ربيبه بافل ألكسندروفيتش إيسايف بالحضور وتهنئة صاحبتي بعيد الميلاد. وقد حمل إليَّ هذا الخطاب وسوارًا ذهبيًّا هو أول هدية أتلقَّاها من فيودور ميخايلوفيتش.»
لقد تبيَّن لي أن دستويفسكي، إلى جانب المرض والوساوس والأوضاع الصعبة التي كانت تحيط عمله ومشقة العمل ذاته، كان يعاني أيضًا من نوبات النفور من الناس. وإذا كان ثمة فتاة شابة تتطلَّع بأمل وحماس إلى مستقبلها، فليس هناك شك في أن صاحبة عيد الميلاد الأكبر سنًّا قد قضت يوم التاسع من ديسمبر ١٨٦٦م في رعب وخوف على مصير ابنتها.
ما هي إلا أسابيع ثلاثة مضت حتى تلقَّت أنَّا من موسكو، حيث سافر دستويفسكي ليحصل على نقود للزفاف المرتقب، الخطاب الثاني. على مدى صفحتَين يتحدَّث دستويفسكي ثلاث مرات تفصيلًا وبتنويعات مختلفة عن آلام أسنانه التي عذَّبته طوال الرحلة، ثم يأتي على ذكر «مذكِّرات من العالم السفلي» على نحو عابر. ها هو يبدأ خطابه بوصف متذمِّر للرحلة نفسها: «عربات النوم فظيعة؛ رطوبة، برد، كتمة إلى حد البشاعة …» وفي نهاية الخطاب يقدِّم خلاصةً لحالته النفسية: «حزن، قلق، إنهاك …» ومن جديد نجد كلمتَين ثلاثًا تائهةً وسط هذه الشكايات والهواجس يُحيي بها فتاته.
دستويفسكي يكتب الخطاب الثالث فقط إلى خطيبته بنبرة كلها حيوية وسرور. لقد كان ذلك بتأثير النجاح الكبير الذي أحرزه عند كاتكوف، الذي أعطاه المال الضروري ليدبِّر به أموره الشخصية.
إن النبرة التي سادها التجهُّم بشكل عام، والتي كتب بها العريس دستويفسكي خطاباته، لم تكن سوى مقدمة لكل مراسلاته القادمة إلى زوجته. هنا تنفتح على اتساعها صورة العذاب الأخلاقي المضني، والألم النفسي الذي لا يتوقَّف للمحب والمحبوب.
بمزيد من الخوف يربط دستويفسكي مستقبله القابل للانهيار بمصير مخلوق شاب أهل للثقة، جاهل تمامًا بالحياة، وغير مستعد بعدُ للتعامل معها. يكتب دستويفسكي من جنيف قائلًا: «سافرت، ولكن هذه المرة كان الموت يخيِّم على قلبي. لم أكن أومن بالخارج، بمعنى أنني كنت أومن أن الأثر المعنوي للخارج سيكون غايةً في السوء عليَّ وحيدًا مع مخلوق في ريعان الشباب يسعى جاهدًا بفرح ساذج أن يقاسمني حياةً غريبة الأطوار، وإذا بي أنظر فلا أرى في هذا الفرح الساذج سوى قدر كبير من افتقاد التجربة والاضطراب، والأمر الذي كدَّر من صفوي وزاد في تعذيبي «…» إنني شخص مريض، وقد أدركت سلفًا أنها سوف تعاني الكثير معي.»
وفي رحلاته التالية لم يتوقَّف خوفه من رفيقته هذه «الطفلة ذات العشرين ربيعًا، وهو أمر رائع وضروري»، ولكنه لم يجد في نفسه القوة والقدرة على الاستجابة.
كان يكتفي بتأمُّل هذا الحماس المتدفِّق، طزاجة الانطباعات، المعاناة النفسية المباشرة.
«لقد اتضح أن أنَّا جريجوريفنا تمتلك سمات حازمةً نادرة (وهو أمر محبَّب بالنسبة لي ومضحك). بالنسبة لها فإن الذهاب لمشاهدة دار بلدية سخيفة، على سبيل المثال، هو عمل جاد، فإذا بها تسجِّل وتصف، حتى إنها تملأ سبعة دفاتر بعلاماتها الاختزالية لتعود فتنقُلها. أكثر من ذلك أن قاعات المعارض أخذت بلبها وشغلتها، وقد سعدتُ بذلك جدًّا؛ لأن ذلك ولَّد في روحها انطباعات شتى أبعدتها عن الملل.»
يخبر دستويفسكي أصدقاءه أن أنَّا هي «رحالة غير عادية»، وأنها وقفت أمام أبواب فينيسيا «تطلق الآهات والصيحات فقط»، وأنها وقد فقدت مروحتها في كنيسة سان مارك «راحت تبكي بحرقة!»
سرعان ما عرفت أنَّا الحياة الحقيقية بعيدًا عن المعارض والجداريات، وفي بادن حاولت من صميم قلبها أن تدعم دستويفسكي الذي عاد يائسًا بعد خسارته في القِمار، وهنا راحت في حزم تجمع أشياءهما كلها لكي تخرج بأي طريقة من دُوامة الولع بالقِمار التي هوى فيها الكاتب، الذي كان قد أنهى لتوِّه كتابة روايته العبقرية «المقامر».
يقول دستويفسكي: «لقد اتضح أن أنَّا جريجوريفنا أقوى وأعمق ممَّا كنت أعرفه وأظنه عنها. إنها في كثير من الأحوال وببساطة ملاكي الحارس.» وبالفعل فقد راحت تنتقل معه بنكران للذات من بلد إلى بلد، وحتى في لحظات الحزن المُمِض لم تتوقَّف، وقد فقدت طفلها الأول، عن مساعدة دستويفسكي في عمله، ناسخةً ومنسقة مخطوطاته.
لم يُخفِّف الاهتمام الكبير بالفن والأدب الرومانسي الجديد والرسم والاهتمامات والأحاسيس الطازجة الطفولية تقريبًا مثقال ذرة من أثر الظروف المادية الصعبة والعمل المتوتر في إعداد مخطوطات «الأبله».
لكن أنَّا جريجوريفنا عادت بعد رحلة السنوات الأربع خارج روسيا شخصًا مختلفًا تمامًا، فلم تعد تلك الشابة الساذجة العديمة الحيلة التي كانت من قبل، وإنما امرأة صاحبة إرادة قوية، امرأة خبرت الحزن المُمِض (وفاة ابنتها البكر)، امرأة مُعَدة إعدادًا جيدًا لمعركة الحياة القادمة. في هذا الوقت اكتملت شخصيتها بشكل نهائي، وتحدَّدت مهمتها الثقافية الرفيعة.
لم تكن أنَّا جريجوريفنا مجرَّد زوجة لدستويفسكي فحسب، وإنما كانت صاحبة مآثر شخصية هامة في الثقافة الروسية. وما يزال عملها ينتظر جردًا أمينًا وتقييمًا شاملًا وأمينًا.
إن طبيعة أ. ج. دستويفسكايا خُلقت من أجل أن تضع تصورًا عريضًا لعديد من الانطباعات والأحاسيس الحيوية المتنوِّعة. لقد تجمَّعت لديها، وعلى نحو متوازن، خصال متناقضة، وعلى ما يبدو أن هذه الخصال كانت في جانب منها، على ما يبدو، متنافرة. إنها ابنة جيل الستينيات التي تحسب نفسها على الجيل «الحر»، وهي في الوقت نفسه تذهب لتؤدِّي الطقوس الكنسية والأرثوذوكسية بكل غيرة وحماس. كانت تجمع بين العصبية الشديدة والحمية الفائقة، وبين الإرادة الصلبة والحزم الشجاع في أمور الحياة الصعبة.
لقد تواءمت بداخلها الاهتمامات العقلية المحضة جنبًا إلى جنب مع الاهتمامات الفنية، فضلًا عن النزعة التطبيقية والرؤية العملية التي لا يتطرَّق إليها الشك. ومع تميُّزها بشيء من الإيمان الغيبي (المعجزات والإلهام والأحلام) فإن ذلك لم يمنعها من أن تستخدم قدراتها الفائقة في تنظيم أمور حياتها العملية، وأن تحسب لكل شيء حسابه، وتقدِّره تقديرًا دقيقًا في كل تفاصيله؛ كل هذه الخصال، فضلًا عن ذوق رفيع، وظَّفته أنَّا لصالح معبودها دستويفسكي لتستحقَّ مِنا كل الامتنان. أمَّا مأثرتها الكبرى التي حقَّقتها، فينبغي أن تدفعنا للاهتمام بشخصيتها.
كانت أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا (١٨٤٦–١٩١٨م) تُمثِّل طرازًا خاصًّا من النساء الروسيات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ المثقفات، النشطات، المخلصات على نحو خيالي لعقائدهن إلى حد الافتتان.
كثيرًا ما كرَّرت أنَّا في سياق مذكراتها وصفها لنفسها بأنها «ابنة الستينيات، التي ساندت حق النساء واستقلالهن»، وأنها تُمثِّل الجيل الليبرالي وهلمَّ جرًّا. كانت تُعلن ذلك عادةً في كثير من الفَخَار، وعلينا أن نعترف أن أنَّا جريجوريفنا لها كل الحق في ذلك. لقد كانت بطبعها تنتمي إلى «عصر الفكر الروسي الهادر»، وظلَّت حتى نهاية حياتها تحتفظ بالسمات الجذَّابة للنشاط الذي لا يكل، والإخلاص المتحمِّس للفكرة الملهمة، وفي حياتها كانت تنظر إلى الأمر باعتباره واجبًا، ساعيةً دائمًا إلى تحويل هذه الفكرة إلى مأثرة.
وإذا كانت نيتوتشكا سنيتكينا تحلم في شبابها بدراسة العلوم الطبيعية والطب، فقد التحقت بأول صفوف نسائية لدراسة الاختزال من أجل أن تُصبح امرأةً مستقلةً تحمل بعض العبء عن عائلتها الصغيرة، التي كانت تمتلك بعض البيوت في بطرسبورج.
فيما بعد، وبعد أن تزوَّجت من دستويفسكي، وجدت رسالتها في خدمة الكاتب الكبير، الذي قاسمته مصيره. لقد مرَّت كل مؤلفات دستويفسكي من «المقامر» وحتى «الإخوة كارامازوف» بين يدَيها، وقد اتضح أن معرفة زوجة الكاتب بالاختزال سهَّلت كثيرًا من عمل دستويفسكي الفني، وغيَّرت من أساليبه ونُظُمه.
ما إن تُوفي دستويفسكي حتى راحت أنَّا جريجوريفنا في العمل على نشر أفكاره «السامية النبيلة»، وراحت تصدر بجهد نادر الطبعة تلو الأخرى من أعماله الكاملة، وفي نفس الوقت أسَّست في سفاريا روسا تحمل اسم دستويفسكي، كما أنشأت قِسمًا خاصًّا تابعًا لمتحف التاريخ في موسكو يضم مقتنيات الكاتب، وعددًا هائلًا من مخطوطاته ورسومه وصوره في نسخها الأصلية، وكذلك أعماله الكاملة، بالإضافة إلى كافة الأعمال النقدية التي كُتبت عنه في اللغات الأوروبية والشرقية مع استثناءات قليلة. وقد شجَّعها تأسيس المتحف على الاضطلاع بوضع عمل بيبلوجرافيا شاملة تضم وصفًا لكل ما جمعته عنه، بعبارة أخرى، قوائم كاملة لكل مؤلفاته، وكذلك كل ما كُتب عنه.
إن العمل الذي نشرته أنَّا جريجوريفنا تحت عنوان «الدليل البيبلوجرافي للمؤلفات والأعمال الفنية الخاصة بحياة ونشاط ف. م. دستويفسكي»، ويضم ما يصل إلى ٥٠٠٠ مادة بيبلوجرافية أدبية روسية فريدة. ما إن أنهت أنَّا جريجوريفنا هذا العمل الضخم، المسئول والصعب — تأسيس التراث الأدبي دستويفسكي — حتى راحت تُكمل أعوام حياتها الأخيرة والطويلة بالعمل على كتابة مذكِّراتها التي لا يستغني عنها أي كاتب يهتم بشخصية ومصير مبدع الرواية الفلسفية الروسية.
اشتهرت أنَّا جريجوريفنا، حتى إبَّان حياتها، أنها سيدة عملية واسعة الحيلة، وأنها كانت تصل أحيانًا في هذا الصدد إلى أقصى الحدود. لقد كانت أنَّا جريجوريفنا في مجال النشر المعقد مثالًا للمرأة العصامية التي علَّمت نفسها بنفسها حتى وصلت في هذه الحرفة إلى نتائج باهرة، حتى إن آخرين لا تعرفهم على الإطلاق جاءوا ليتعلَّموا على يدَيها هذا العمل؛ مثال ذلك الكونتيسة صوفيا تولستايا (زوجة ليف تولستوي). تقول ابنتها لوبوف فيودوروفنا دستويفسكايا في مذكراتها التي نُشرت منذ زمن غير بعيد: «كان دستويفسكي مندهشًا بهذه السهولة التي تجمع بها أمي الأرقام الكبيرة، وأن تُجيد لغة العقود الصعبة.»
لكن هذه المهارة العملية التي كانت لدى أنَّا جريجوريفنا أثارت حفيظة الكثير من الناس، لتُلقي في النهاية على صورتها بظلال كثيفة، الأمر الذي حجب عنَّا المآثر الحقيقية التي اجترحتها هذه المرأة الكادحة، التي يندر أن تجد لها مثيلًا، كما ساد أيضًا إبَّان حياتها رأي مفاده أنها سيدة أعمال شحيحة، بل إن بعض الصحف نشرت حكايات تهجو فيها زوجة الكاتب الشهير الذي عاش ومات في فقر مدقع، ليترك لأرملته تراثًا أدبيًّا استطاعت هي أن تُحوِّله إلى ثروة ضخمة.
وحتى اليوم يُنظر إلى أ. ج. دستويفسكايا باعتبارها سيدة أعمال مقترة، خبيرةً في الحسابات، تُجيد جمع المال بهمة ونشاط. وإذا كانت هذه الخصال لها أساس من الصحة، فهي في كافة الأحوال لا تعيبها ولا تنتقص من قيمة الجهد الذي بذلته هذه الصديقة الأخيرة لدستويفسكي.
لقد كانت أنَّا جريجوريفنا المرأة العملية التي تجيد التعامل مع المال، على النقيض تمامًا في هذا المجال، بطبيعة الحال، من فيودور ميخايلوفيتش الذي كان يتعامل مع المال بسذاجة طفولية. على أن هذا التناقض بين طبيعتَيهما قد سار، بما لا يدع مجالًا للشك، لصالح حياتهما المشتركة، فإذا كان بإمكان دستويفسكي أن يُوقِّع، كما تشهد بذلك أنَّا جريجوريفنا، على كمبيالات وهمية بمبالغ ضخمة، دون أن يتجاسر على سؤال الطالب عن صحة الأمر، بينما يقوم رجل الأعمال الحاذق باستغلال ثقة وافتقاد دستويفسكي للخبرة العملية، فإن أنَّا جريجوريفنا كانت تقيه شر هذه الصفقات، فضلًا عن أنها كانت تدخل في صراع ضارٍّ مع الدائنين، وهو صراع نجحت في إدارته بمهارة وحيوية، وحقَّقت فيه انتصارًا كبيرًا. وهو ما يؤكِّده جزء كبير من مذكِّراتها لخَّصت فيه «الصراع مع الدائنين»؛ هذا الصراع الصعب، الشاق والمضني، الذي كشف عن طاقة نادرة وفطنة، وحتى عن شجاعة لدى زوجة الكاتب.
كل ذلك يتضمَّن بالطبع أهميةً عملية، ولكن هيهات أن يكون سببًا لإلقاء اللوم على أنَّا جريجوريفنا.
إننا إذا ما تذكَّرنا أن هذا الجانب العملي لدى أنَّا جريجوريفنا قد وفَّر الهدوء والسكينة لدستويفسكي، بل وأبعد عنه الهموم الصعبة وأنقذ إبداعه، أفليس من غير المنطقي ولا من اللائق أن نُلقي باللوم على زوجه لأنها امرأة عملية مفرطة في دقة حساباتها. لنتذكَّر أنه على مدى أربعة عشر عامًا من زواج دستويفسكي صدرت سبعة مجلدات من أعماله الكاملة (أي ما يزيد على نصف ما كتبه على مدى حياته كلها). هنا يصبح من المستحيل ألَّا نُعبِّر عن احترامنا وتقديرنا لهذه المرأة العملية أنَّا جريجوريفنا، حتى لو اقتصر الأمر على مُجرَّد إنقاذ ولو بضعة فصول من «الإخوة كارامازوف» أو«الشياطين» نتيجةً لعملها الحصيف وحسن تدبيرها. في ظروف أخرى ما كان لهذه الأعمال أن ترى النور إطلاقًا لولا هذا التنظيم الذي فرضته أنَّا جريجوريفنا على أسلوب الحياة اليومية لزوجها.
نعم، كانت أنَّا جريجوريفنا تعمل، بطبيعة الحال، بكل إصرار وعزم. كانت تدير دفاتر حساباتها، تشتري الورق، تلاحق المطابع، تدخل في جدل مع الدائنين، تدخل في مفاوضات مع الناشرين وبائعي الكتب، تكتب إبداعات زوجها بطريقة الاختزال، ثم تعيد كتابتها باللغة العادية، تعلن عن فتح باب الاشتراكات، تصنع الميزانيات؛ لتصبح بذلك هي الناشر والبائع والمحاسب والكاتب أثناء العمل الإبداعي لزوجها.
قد يبدو ذلك مضحكًا وقبيحًا، لكن الأمر في الواقع يمس شَغاف القلوب بقوة وعمق، مثل أي مأثرة يومية تمر دون أن تترك أثرًا، ودون أن يلحظها أحد. يرد إلى خاطري دون إرادة مني هذا البهلوان في قصة «أناتول فرانس» الذي قدَّم للعذراء القربان الوحيد الذي يجيده؛ قفزاته، ألعابه، حِيَله الأكروباتية. وعندما صاح القساوسة، غلاظ القلوب فيه، معتبرين أنه يمارس التجديف في الكنيسة، إذا بتمثال العذراء يقوم عن قاعدته لتمسح العذراء بطرف ثوبها جبهة هذا البهلوان الذي نال منه التعب.
وعن الأشهر الأخيرة من حياة أنَّا تكتب ز. كوفريجينا في الصحافة (دستويفسكي، مجموعة مقالات من تحرير أ. س. دولينين، المجلد الثاني): في يالطا شغلت أنَّا جريجوريفنا غرفةً متواضعة في فندق «فرنسا»، وقد راحت تعاني من المرض دون توقف. من الواضح أنه كان مرض التهاب الأمعاء الغليظة الذي يعود سببه إلى تفاقم الملاريا، ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بنشاط ويقظة عقلية كبيرة. واصلت عملها على إصدار منتخب لأعمال دستويفسكي لصالح ضحايا الحرب الأهلية. كانت شديدة الحزن لدخول القوات الألمانية إلى يالطا. ثم أقعدتها نوبات الأمعاء الحادة في يونيو ١٩١٨م، وبعد عدة أيام، في التاسع من يونيو، تُوفيت بعد أن دخلت في غيبوبة. لم يكن لديها سوى ممرضة واحدة، وقد ظل جثمانها محفوظًا لمدة طويلة في تابوت من الزنك في الكنيسة في انتظار وصول أقاربها لعمل الجنازة، لكن أحدًا لم يأتِ. وفي منتصف يوليو فقط وُوري جثمان أنَّا جريجوريفنا الثرى في جبَّانة أوتسكي في لحدٍ أسفل الكنيسة. يا له من أمر محزن أن تموت صديقة دستويفسكي المخلصة وحيدةً دون أقارب، وفي فقر تام، عن عمر يناهز ٧٣ عامًا. إنسانة بذلت كل جهدها لتُوفِّر حياةً سعيدة للكاتب، ومجدًا ناله بعد موته.