مدخل الجنس والفن والإنسان
(١) محور الفن منذ فجر التاريخ
لعلَّ عظمة الإنسان الأول تكمن في صراعه الجبار مع الطبيعة في تلك المرحلة الباكرة من تاريخ البشر. ذلك أنه رأى نفسه فجأةً أمام أعداء لم يتعرَّف بهم بعدُ تعرُّفًا كافيًا. فالوحوش تزغرد بطونها حين تراه، والليل يرخي على عينَيه ستارًا كثيفًا أسود، والسماء ترشق جسده بأسياخٍ ملتهبةٍ تارة، أو تحول الدماء في عروقه إلى سائلٍ من الثلج تارة أخرى. والفضاء الهائل يلف كيانه الضئيل في ثوبٍ خرافي، وكأنه في حلمٍ مزعج.
كان الإنسان الأول لذلك بطلًا، حين يزحف على بطنه إذا اتصلت بأنفه رائحة قادمة من رمة حيوان، أو كومة من الديدان، أو شجرة فاكهة يتسلَّق عليها، بما تبقى لديه من عادات قديمة.
وفي أحيان كثيرة، كان يلتقي الرجل البدائي بالمرأة، فيحس في قربها حنينًا ورغبةً مبهمة … ثم يزدادان قربًا وتآلفًا، وتتبدد الرغبة المبهمة رويدًا، في اتصالٍ بدني حميم.
وهكذا لم تَعْدُ العلاقة الجنسية في ذلك الوقت البعيد، أن تكون هذا اللقاء الخاطف السريع، في غمرة الكفاح المُضنِي من أجل البقاء. وهكذا أيضًا نقف على أن الإنسان الأول لم يَرَ «الجنس» كإحدى «مشكلات» حياته، وإن رآه بالفعل ﮐ «حاجةٍ ملحَّة».
وليس شك أنَّ هذا الإنسان – في ظل ظروفه الصعبة المريرة، وتكوينه العضوي البدائي – كان يجتاز مرحلة ذهول تعبر عن الجانب الذهني لطفولة الجنس البشري؛ ومن ثم لم يكن واعيًا تمامًا بكل ما يحيطه من مظاهر وأحداث. وبواسطة هذا الذهول، يفسِّر علماء الأنثروبولوجيا كيف أنَّ فنونًا لتلك الفترة لم تصلنا على الإطلاق.
ولكنَّ الطور الجديد في حياة الإنسان، كان يجمع بين أفراده في فئاتٍ متفرِّقةٍ بعد أن نجحوا في تحويل الحجارة إلى أسلحةٍ صغيرة، تمكَّنوا بها من اصطياد الحيوان.
وما إنْ تكوَّنت هذه الجماعات، وبمعنى أدق، ما إنْ تكوَّن المجتمع الإنساني الأول، حتى بدأ الاحتكاك الذهني بين عقول الأفراد، يولِّد خبرات أكثر نضجًا، ويذيب — إلى حدٍّ كبير — ما يكسو وعيهم من ذهول، ويدفع بهم شيئًا فشيئًا إلى مراحل أكثر تقدُّمًا كلما استطاعت رءوسهم أن تفسِّر مظهرًا ما في الطبيعة.
والمفهوم الجنسي الذي نتعرَّف عليه، من خلال هذا المثل، هو أن العلاقة الجنسية لم تعد هذه «الحاجة الملحَّة» التي كان يشعر بها الإنسان قبلًا وحسب … وإنما أضحت وسيلةً للتكاثر العددي الذي يزيد من قدرة الجماعة على مواجهة الأعداء في الغابة. كان الكفاح الجماعي هو نواة المعنى الجديد، ثم راحوا يرمزون به لبقية أنواع التكاثر؛ إذ رأَوا النباتات تزدهر اخضرارًا في الربيع، وتذبل في بقية فصول السنة، فكان «التعبير الجنسي» للإخصاب يفتِّق أذهانهم على تلك الرقصات السحرية. فإذا أضفنا أن الملكية الجماعية لكل شيء كانت الطابع المميز للمجتمع البدائي، استطعنا أن نقول في غير حذرٍ بأن الجنس لم يكن إحدى مشكلات هذا المجتمع، في ظل الزواج الجماعي الذي يتيح فرصًا متساوية لأعضاء الجماعة … ومن ثم كان التعبير الفني المباشر عن هذه العلاقة هو الرمز بها إلى الخصب، والنماء والحياة.
•••
ولكن طَوْرًا تقدُّميًّا جديدًا كان في انتظار الإنسان … فقد تحلَّلت الملكية المشاعية، بمصاحبة الظروف الطارئة الجديدة … ونرى ملامح التقدم في قدرة الإنسان ونجاحه في استئناس بعض الحيوانات وتربيتها والاشتغال بالرعي … ثم في تعرُّفه على بعض أسرار هذه النباتات التي تنمو في الربيع وتذبل فيما بعدُ … وعرف الزراعة. وبواسطة الرعي والزراعة — أي بعد أن تغيرت وسائل إنتاج مقومات حياته من آلات الصيد إلى قطعة الأرض — دخل الإنسان مرحلةً جديدةً هي مرحلة «الملكية الفردية» … إذ سرعان ما هيمن على أكبر مساحة من قطعة الأرض، هؤلاء الذين كانوا يتبوَّءون مراكز قياديةً في الجماعة مثل الكهنة والشيوخ ورجال الحراسة.
وبدأ معنى المرأة في المجتمع الجديد يتغيَّر … كانت فيما مضى، تشارك الرجلَ «العمل» من أجل البقاء، ولكنها في المجتمع الجديد حُرمت نعمة العمل، وحُرمت بالتالي مركزها القديم، مركز المساواة التامة بالرجل. كان ميدانها من قبلُ هو الحياة نفسها، فأصبح هذا الميدان هو «البيت» فقط.
ليس ذلك فحسب … بل هناك الحروب التي بدأت تقوم بين المناطق المختلفة لجلب قطعان الحيوانات عن أيسر طريق؛ وهو القتال. وكان المحاربون يحصلون بعد غزواتهم على شيءٍ أكثر إثارة من الحيوانات — وإن لم يكن أكثر أهمية — وهو الأسرى من الرجال والنساء.
أقول إنَّ الأيدي الجديدة الوافدة مع الأسرى أُضيفت إلى تلك الأيدي المجانية، وانقسم المجتمع الإنساني منذ ذلك الحين إلى سادةٍ وعبيد.
أما الأسرى من النساء، فقد بدأ بهنَّ عصر الإماء والجواري، لينقص أكثر وأكثر من قيمة المرأة قعيدة البيت.
تعبير «الزواج الفردي» ليس مطابقًا للوضع القائم في ذلك الحين؛ لأن «الفردية» هنا جاءت كليشيهًا رسميًّا — أو شرعيًّا — لمعنى العلاقة الجنسية في ظلِّ المجتمع الجديد … «الفردي».
ولكن … هل كان يمكن لمثل هذه العلاقات أن تكون فردية بالفعل؟
إن جوابنا عن الرجل سهل ميسور، فسلطانه الاقتصادي يكيِّف سلطانه الاجتماعي، بحيث تكون حريته الجنسية شيئًا طبيعيًّا للسادة في أحضان الجواري أولًا، ثم في أحضان زوجات أقرانهم نهاية الأمر. وللعبيد أيضًا الحقوق نفسها، وإن لم يكن على المستوى نفسه.
وجوابنا عن المرأة أكثر سهولة ويسرًا … لأن علاقتها بالرجل مستمدة بالضرورة من علاقاته هو، بل متممة لهذه العلاقات.
وهكذا كان الزواج فرديًّا من حيث المخدع الذي يضم رجلًا وامرأة وحدهما، بغضِّ النظر عما إذا كان هذا الرجل هو زوج هذه السيدة … أو العكس. وتولَّدت على الفور معانٍ جديدة لم تخطر على بال الإنسان من قبل: الخيانة، علاقة غير شرعية … إلخ … وظهرت حِرفة جديدة لبعض النساء اللائي يجدن لقمة الخبز في أحضان مَن يملكه، وطبع المجتمع أجسادهنَّ بخاتم غريب هو البغاء.
وحمل إلينا التاريخ فنونًا مختلفة لهذا المجتمع العبودي الأول، صورت لنا الوجدان البشري في ذلك الوقت البعيد، ومفاهيمه المتعددة لهذه «الحاجة الملحَّة» التي أصبحت – لأول مرة – مشكلة يومية في حياة الناس، عبَّرت عنها أخلص تعبير أساطيرُهم وطقوسُهم، وبقية وسائلهم البدائية في التعبير.
والمشكلة الأساسية في هذه الأسطورة هي «الجنس»، رغم الأعذار التي توسَّلت بها البنت الكبرى لإغراء الصغرى، من أن هدفها هو إنجاب النسل، ولكن الأخلاقيات المحيطة بالأسطورة لا تعتبر هذا الأمر «خطيئة» في عينَي الرب. فقد اختار هذه الأسرة وحدها — لمزاياها الخلقية بغير شك — ولم يصدر عنه، فيما بعدُ، ما يشير إلى أن في الأمر خطيئة. فإذا كانت الآلهة والتقاليد والعادات تشكِّل منهج الحياة الاجتماعية لتلك المرحلة البعيدة، فإننا نفهم من ذلك أن الأسطورة أوضحت لنا جانبًا هامًّا في هذا المنهج. فلم يكن شاذًّا أو غريبًا أن تضطجع البنت مع أبيها … رغم ما تذكره الحكاية من أن هذا الأب لم يكن يدري بهذه المضاجعة.
الجنس هنا هو «الشر»؛ فالآلهة تسحب «سرها» من شمشون بمجرد ارتمائه بين ذراعَي امرأة؛ أي فور اقترافه الخطيئة وسقوطه في الشر. والأسطورة تصف المرأة صراحةً بأنها «زانية» … والبغاء هو في صميمه خروج عن القانون الإلهي الذي يعبِّر عن الإرادة الرسمية للمجتمع في تكوينه الخلقي الجديد.
ولقد آثرت أن أنقل النص كاملًا — رغم الترجمة العربية السيئة — حتى نرى إلى أي مدًى يؤثر المضمون الإنساني للأسطورة على بنائها الفني. ومرة أخرى أقول إن المحاولات البدائية لعملية الخلق الفني تبدو هنا واضحة. فشخصية «أوريا الحثي» نموذج يكاد يكون معدومًا في مثل ذلك المجتمع. ولقد صورته أحداث الأسطورة كجندي بطل شجاع. وليس هذا بالشيء الغريب. وإن ما نقف عنده حيارى أن يدعوَه الملك — وليس هو إلَّا أحد عبيد سيده — ويأمره بأن يقضي الليلة مع زوجته، فيمتنع عن الامتثال للأمر بحجَّةٍ خياليةٍ غير معقولة. ولا شكَّ أن هنا وجهًا فنيًّا جميلًا لهذا الموقف، هو أن الملك أراد أن ينسب بنوة السِّفاح القادم لهذه الليلة التي يقضيها أوريا مع امرأته.
ونعود إلى القضية الأساسية في الأسطورة. لا ريب أنَّها مشكلةٌ جنسيةٌ من بدايتها لنهايتها … ولكن لنرَ كيف عولجت في هذا الإطار البدائي من الفن بالذات.
لا يدهشنا بالطبع أنها كانت صادقة التعبير لدرجةٍ كبيرة، عن حقيقة التكوين الاجتماعي لهذه الفئة من البشر في ذلك الزمن. فالجنود — بل والشعب جميعًا — هم عبيد سيدهم. وهذا السيد لا يكتفي بما يملأ جنبات داره من «الحريم»، فما إنْ تصيب عيناه جسدًا لامرأة جميلة تستحم، حتى يرسل مَن يأتي له بهذه المرأة، فيأخذ منها ما يشتهي، ثم «يضمها» إلى بقية القطيع. وهكذا حدَّدت لنا الأسطورة بواسطة الجنس المكانة الحقيقية للمرأة في ظل المجتمع العبودي.
وإذا كان الجنس في علاقاته غير الشرعية هو «شر» تمثِّله امرأة العزيز في قصتها مع يوسف؛ فإنه هذه المرة «شر» أيضًا … يمثله الملك داود. وكأن الأسطورة الشعبية القديمة، قد رسمت بمنتهى البراعة، ما كان يرسف فيه البشر «العبيد» من أغلال، تمسك بها الصفوة من «السادة»؛ ولذلك قال القانون الاجتماعي كلمته حين تنبأ لداود بأن الآخرين سيهتكون أعراض نسائه في عين الشمس. لقد كانت الصيحة التاريخية للقطاع العريض المسحوق. كما اتضح لنا كيف أن الجنس بات مشكلةً حقيقيةً يعانيها هذا المجتمع منذ صُبَّ في هذا القالب العبودي.
كان المجتمع قد انقسم إلى قطاعٍ ضيقٍ مستغِل، وقطاع واسع مستغَل. فكان الاستغلال هو قانون هذا المجتمع. وعكست الأساطير هذا الوضع في علاقةٍ إنسانيةٍ حيويةٍ هي الجنس. وقدَّمت لنا الصورة الاستغلالية التي تتم بها هذه العلاقة.
•••
وتتشابه نهايات هذه القصص، لدرجةٍ كاد النقاد يجمعون إزاءها أن هذه الأساطير — على تعددها — ذات أصل واحد، ربما كان أقدمها هو الأسطورة المصرية القديمة، ولكني لست أميل إلى هذا الاعتقاد، وإنما أرى في تشابه ظروف المجتمعات البدائية عاملًا حاسمًا في تشابه أساطيرها. ولما كان الجنس موضوعًا عامًّا وحيويًّا، فقد كان قضية مشتركة في حياة جميع الشعوب، وإن تلوَّن ببعض سماتها الخاصة. فالأسطورة التي تجمع بين الخير والشر في صراعٍ حادٍّ عنيفٍ كهذا الذي لمسناه في الأساطير الأربع المتشابهة … لا أشك في أنها تحدد تلك الأوضاع الاجتماعية البعيدة المتشابهة. وما اختلاف الأسماء والتفاصيل والنهايات إلا اختلاف الصفات الذاتية المفصلة.
والملاحظة الهامة في كافة الأساطير والملاحم والتراجيديات، التي تروي قصة العلاقة بين الرجل والمرأة، في مختلف أطوار المجتمع الإنساني، أن هذه العلاقة كانت تتطوَّر مع تقدُّم هذا المجتمع. فاللقاء السريع الخاطف بين الذكر والأنثى، الذي ميَّز المرحلة البدائية الأولى، كان تعبيرًا حيًّا عن الفترة الجنينية التي قضاها الإنسان في بطن الغابة، لا يعنيه — في مقدمة احتياجاته — إلا ما يُمسك رمقَه. ولم تُتِح له قدراته الذهنية إمكانية التعبير الفني عن هذه العلاقة.
وتلا ذلك مرحلة الزواج الجماعي في ظل الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. فلم تبرز العلاقة الجنسية كمشكلةٍ بين الأفراد، وإن صلحت للتعبير عن حاجتهم المشتركة إلى الخصب والنماء في بقية أشكال الحياة الإنسانية ومقوماتها. وجاءت الطقوس السحرية تلخِّص لنا هذا المفهوم الجديد.
ومن الواضح أنَّ المرأة أصبحت — فجأة — في وضعٍ مهين؛ لأنَّ المساواة الاقتصادية الأولى بينها وبين الرجل، قد تلاشت تدريجيًّا. وأصبحت العلاقة الجنسية بينهما تخضع لاعتبارات، لم تكن موجودةً من قبل. بل إنَّ هذه العلاقة خرجت بالتدريج أيضًا من حدودها الطبيعية التي كانت تعتمد على مجرد الرغبة والتوافق بين الاثنين … إلى حدودٍ استحدثتها الظروف الجديدة المحيطة بكليهما. فلم تَعُد الرغبة والميول المشتركة هي الخطوط الشرعية للزواج، وإنما أقبلَت المصلحة الاقتصادية لوضع هذا التخطيط. ولما كان الإنسان بطبعه عاجزًا عن قتل رغباته وميوله، فإن هذه جميعًا — لو أنه استطاع تنفيذها في غفلةٍ من الخطوط الشرعية — لاستطاع المجتمع أيضًا أن يضعها تحت بنودٍ جديدةٍ تسمَّى الزنا والبغاء … إلخ. وراح الإنسان يعبِّر عن أزماته الحديثة، وصاغها في أشكالٍ مختلفةٍ وقوالب متباينة … وإن تشابهت جميعها، في أنها جعلت من الجنس مشكلةً و«قضية».
وقد تشكَّلت قضايا الجنس كمضامين فنية لقوالب التعبير في المجتمعات القديمة، بأن تعدَّدت زواياها الإنسانية.
-
فنرى الإنسان البدائي يعبِّر عن الجنس كمشكلةٍ قائمةٍ بذاتها. كما لاحظنا في قصَّة «ابنتَي لوط» فلم نعثر على اللحظة الميكانيكية في العلاقة الجنسية، وإن أحسسنا في عمقٍ أبعادَ الأزمة النفسية التي اجتاحت الفتاتَين.
-
كما عبر أيضًا عن الجنس كمشكلةٍ عرَضية ليسَت مقصودةً لذاتها، وإنما جاءت مصادفةً في ثنايا الأسطورة، كالذي رأيناه في قصة «شمشون ودليلة» وفي هذه أيضًا عشنا المأساة بأكملها في بيت زانية، ولكنا لم نحسَّ باللحظة الجنسية في حركتها الميكانيكية، وإنما في مدلولها العميق.
-
ونجح الإنسان القديم أيضًا في أن يقدِّم القيم الرفيعة والمثل العليا، في إطارٍ من العلاقات الجنسية المنبوذة. وفي قصة يوسف مع امرأة العزيز، وقصة الأخوَين في الأسطورة المصرية، وما شابههما في ألف ليلة وليلة، والأدب اليوناني القديم … نجد أمثلةً حية لهذا التعبير.
-
وصور الجنس في علاقاته الشاذة، كما طالعناها في حكاية «جودر الصياد» وأسطورة أوديب … والعلاقة الجنسية في كلتيهما «شاذة» عن المعايير الأخلاقية السائدة، أو التقاليد والعادات المألوفة. وعلى هذا النحو، كانت الحكاية أو الأسطورة صورةً صادقةً للمحتوى الفكري والاجتماعي لهذه البيئة أو تلك، في ذلك الوقت البعيد.
ثم جاءت آداب العالم فيما بعدُ، ورأت شبهًا قويًّا بين ملامح المجتمعات العبودية القديمة، والمجتمعات الحديثة. والحقيقة أن هناك بالفعل «رابطة دم» بين المجتمع البدائي بعد دخوله مرحلة الملكية الفردية، وبقية ما تلاه من مجتمعاتٍ قائمةٍ على المباراة الاقتصادية.
وهكذا اكتُشفت آداب العالم الحديث في أساطير العالم القديم، وحكاياته وملاحمه، على قوالب جاهزة سرعان ما صبت فيها مآسيها الجديدة. فنرى أوسكار وايلد يتَّخذ من قصة «سالومي» في التوراة، خامةً فنيةً لإحدى دراماته. وكثير من الشعراء صنعوا من «نشيد الإنشاد» أشعارًا تفيض بحرارة الحب الجنسي. وشمشون ودليلة أصبحا من الشخصيات الحية في أدب العالم. وهناك ألف ليلة وليلة التي أمدَّت كبار الأدباء بأخصب أعمالهم، مثل هملتون وديدور وبيير لويس ولسنج وبومارشيه.
•••
ويبقى سؤال ظل عالقًا بمخيلتي منذ بدأت في كتابة هذا الفصل: هل يمكن القول بأن الحرية الجنسية الحقيقية — كما عبرت عنها الآداب والفنون — لا توجد في صورتها النموذجية إلا في المجتمع البدائي؟
والجواب نستمدُّه من التطوُّر التاريخي لمعنى الحرية نفسها … فالإنسان الأول الذي كانت تهدِّده الظروف الطبيعية القاهرة من كل جانب، لا يمكن أن نسمِّيَه حرًّا … والاتصال الجنسي الخاطف الذي كان يتمُّ بين الرجل والمرأة؛ لا يعبِّر إلا عن الحرية التي امتصتها ظروفهما الشاقَّة المريرة. وما إن استطاع الإنسان أن يسيطر على بعض مظاهر الطبيعة حتى اتَّسعت دائرةُ حريته، فكان الزواج الجماعي تنظيمًا أكثر حريةً عن ذي قبل، ولكنه في ظل الحاجات المعيشية المستمرة، لم تعد العلاقة الجنسية أن تكون رمزًا للخصب والازدهار. ثم تقدَّم الإنسان خطوةً أخرى، بعد أن تعرف على وسيلةٍ جديدةٍ رائعةٍ للإنتاج هي الأرض. حقًّا جاءت معها أساطير ذلك العهد معبرةً عن هذه الخطوة في النجاحات التي كان يحرزها الرجل — في مجال الجنس — في العصر البطولي، ولكن هذه الحريات جميعها مرتبطة بالضرورات الحياتية المحيطة بها، لا تُقاس بالحريات الجديدة التي أحرزتها المجتمعات التالية في ظل التقدُّم العلمي. فكل خطوةٍ علمية في طريق التقدم هي خطواتٌ في طريق الحرية.
وعلى ضوء هذا المعنى، لا تكون الحرية الجنسية عند الإنسان القديم، هي أفضل أشكال الحرية، وإنما كانت المظهر البدائي للحرية الحقيقية. ومن هنا اتخذ أدباء العالم من الأساطير القديمة القالبَ والشكلَ والإطار، أما الدلالة والجوهر الإنسانيان، فقد استمدوهما من صميم واقعهم الحي المتجدد.
(٢) تطور مفهوم الجنس عبر العصور
كان التصنيف القديم للفن — والذي ما يزال سائدًا حتى اليوم — أن يضع المؤرخ عصرًا كاملًا في خانة محددة تحديدًا حاسمًا هي الكلاسية أو الرومانسية أو الواقعية … إلخ، ولكنَّ هذا التصنيف سرعان ما اتضح قصوره، عندما احتوى العصر الواحد عدَّة تيارات متباينة، بل عندما اشتمل العصر على جوانب من سمات العصر السابق له. والعيب الرئيسي لهذا المنهج أنه ينظر إلى الفنِّ من خلال المقاييس التكنيكية التي سادت مرحلةً ما، وميزتها عمَّا سبقها وما لحق بها، دون أية محاولة جادة لربط هذه المقاييس بالأرض الحقيقية التي أنبتتها. حتى إذا تشابهت إحدى المدارس الفنية المعاصرة، من إحدى زواياها، بمدرسة موغلة في القدم، قيل إنها الكلاسية أو الرومانسية الجديدة … ظنًّا قاطعًا بأنَّ كلمة «الجديدة» هذه، تكفي لتفسير التشابه بين المدرستَين. وأضحت أسماء الاتجاهات الفنية مجرد اصطلاحات مذهبية، لا تعني إلا شكلًا أدبيًّا محددًا، ما إنْ يظهر قرين له في أي عصرٍ حتى يطلق عليه هذا الاسم أو ذاك. أي إن الاصطلاح الفني تحول شيئًا فشيئًا بشكلٍ تجريدي لا يتحقق إلا بظهور الشكل الأدبي الذي يوائمه فقط.
•••
ولو توفرنا على دراسة العصر الذي يظهر فيه عملٌ فنيٌّ ما، وتقصَّينا في عمق ملامح هذا العصر؛ لاكتشفنا هذه الملامح في العمل الفني شكلًا ومضمونًا.
والاتجاه الأدبي أو المذهب الفني — إذن — هو عصارة المكان والزمان اللذين وُلد فيهما. ومن هنا يستحيل العمل الفني إلى ظاهرةٍ مفتعلة، لو جاءت نظرته والبناء الذي شكَّلها مغايرَين لتركيب المجتمع الحضاري الذي عاشه الفنان. فليس الأديب الرومانسي — مثلًا — إلَّا الإنسان الرومانسي ابن المجتمع الذي تكوَّنت حضارته من قيمٍ سُمِّيت رومانسية، أو هكذا تواضع الناس على تسميتها.
•••
من نقطة الانطلاق هذه، يمكننا القول بأنه ليس ثمة مدارسُ فنيةٌ بالمعنى الدقيق لكلمة مدرسة. وإنما هناك اتجاهاتٌ تبلورَت فيها نظرة الإنسان للأشياء خلال فتراتٍ تاريخية. فلا يحقُّ للأديب إذا اتُّهمت أعماله بالبُعد عن روح العصر، أن يتذرَّع بمبادئ «مدرسة» معيَّنة، ثوت في بطن التاريخ منذ أمدٍ طويل.
وهذا لا يمنع أبدًا أن يتلوَّن النسيج الفكري لحضارة المجتمع الواحد، بأكثر من لون. بل إنَّ ذلك شيء طبيعي — وحتمي — في عالمنا الحديث الذي تتنازعه أنظمةٌ اجتماعيةٌ مختلفةٌ بصفةٍ عامة، وفي المجتمعات التي تتباين فيها مصالح الناس وأساليب حياتهم في ظلِّ نظامٍ واحدٍ بصفة خاصة.
ولكنَّ شيئًا هامًّا — في هذه الحال — لا يمكن إنكاره؛ هو أنَّ هذه الألوان المتعددة تشكِّل في النهاية «روح العصر»، فيستحيل على لونٍ منها أن يعبِّر عن عصرٍ سابقٍ أو حضارة أخرى.
•••
كان لا بدَّ من هذه المقدمة لنستخلص معًا نتيجة هامة؛ هي أن موضوعًا معينًا يمكن للفن أن يتناوله على مرِّ العصور، وإن اختلف — شكلًا ومضمونًا — من عصرٍ إلى آخر.
«كان لي صديقٌ من بولونيا محترم بين أصدقائه، إلا أن زوجته كانت سخيةً جوادةً مع الرجال، حتى إنها تعطَّفت عليَّ مرةً أو مرتَين في حياتها. ففي إحدى الليالي ذهبت إلى منزل صديقي، وسمعته يتشاجر مع زوجته. كان يُؤنِّبها على خياناتها المتكررة، وكانت هي مثل غيرها من النساء في هذه الأحوال تُنكِر كلَّ شيء. وأخيرًا، صاح الزوج في صوتٍ مرتفع: جيوفانا، جيوفانا، إني لن أخبرَكِ وأشهِّر بك، ولكني قد عزمت على أمرٍ أنتقم به لنفسي؛ وهو أن أعيش معكِ وأجعلكِ تلدين طفلًا بعد طفل، إلى أن يمتلئ البيت بالأطفال، ثم أترك البيت وأهجرك.»
يبدو واضحًا أنَّ «الجنس» هو موضوعها. فإذا بحثنا عن ظروف كتابتها عرفنا أنها كانت من المحاولات البدائية لكتابة القصة القصيرة، بل — على وجه التحديد — وُلدت في حجرةٍ فسيحةٍ من حجرات قصر الفاتيكان، كانوا يُطلقون عليها اسم «مصنع الأكاذيب» اعتاد أن يتردَّد عليها في المساء نفرٌ من سكرتيري البابا وأصدقائهم؛ للهو والتسلية وتبادل الأخبار.
وفي قصة «كيد النساء» يحكي لنا كيف تبلغ خديعة المرأة حدًّا مذهلًا؛ فالزوجة بياتريس تدعو عشيقها إلى مخدعها. ويحضر في نفس اللحظة التي يصل فيها زوجها، فتقول له إن فلانًا من الناس راودها عن نفسها وضرب لها موعدًا في مكان بعينه، وتطلب منه أن يذهب إلى هذا المكان متخفيًا في ثيابها لمحاسبة هذا العاشق. فيرتدي الزوج ملابس النساء ويهرول إلى اللقاء الموعود. ثم تستدير المرأة نحو عشيقها لتقول له: «… والآن، أريدك أن تأخذ هراوة وتمضي إلى لقاء زوجي في الحديقة، ثم تلقي عليه — باعتباره إياي — درسًا قاسيًا بالعصا، متظاهرًا — لي — بأنك قد ضربت — لي — هذا الموعد كي تختبر مدى عفتي وإخلاصي لزوجي.» ونفَّذ العشيق الوصية، وعاد الزوج ﺑ «علقة ساخنة»، ونجحت المرأة في خديعةٍ كبرى.
بهذَين النموذجَين يمكن لنا أن نُحدِّد «نظرة العصر» للعلاقة الجنسية. فلا شكَّ أنَّ المجتمع الإقطاعيَّ كان الإطار الذي يضمُّ كافة العلاقات الإنسانية حينذاك، رغم البيئة التجارية التي نشأت داخل هذا الإطار؛ وبالتالي أسهمت — إلى حدٍّ ما — في صنع هذه العلاقات. فالزيجات غير المتكافئة هي الأرض الخصبة لإنبات العشاق من كل لون. والفنان يرى الأمر «تسلية طريفة» لا شك أنها كانت لسان حال الطبقة ذات «وقت الفراغ».
ولقد تبلورت أزمة هذا المجتمع حين وصل الصراع الدائر بين جنباته إلى ذروتها. ونجد صورًا لهذا الصراع في «دون كيشوت» حيث رمز سرفانتس بفرسان العصر إلى حقيقة المباراة الوحشية، بين إنسان المجتمع الإقطاعي والتكوين النفسي لهذا المجتمع. وليس غريبًا أن نجد في «دون جوان» فارسًا بارعًا من نوعٍ آخر؛ فهو يفقد كافة القيم مع ضراوة مرحلة الانتقال التي يعانيها مجتمعه؛ يفقد الإيمان بالدين والعُرف والقانون، ويصبح أكبر مخادع للنساء عرفه التاريخ. إنه يخطف البنت الريفية من بطن قريتها، والفتاة المخطوبة من قارب خطيبها. ويرسم موليير على جبة «دون جوان» صورة حية عميقة لأزمة القيم الإقطاعية التي يمارس وجوده في نطاقها. وكانت القيمة «الجنسية» التي قدَّمها موليير هي شهوة الملكية دون ثمن، شهوة الأخذ بلا تعب، شهوة الرجل الذي فرغ وجدانه من كل الشهوات، ولم تبقَ له سوى شهوةٍ واحدة.
حين ألقى دون جوان وراء ظهره بكافة القيم والمُثل، واستبقى لنفسه المتعة الوحيدة التي يمكنه له في ممارستها أن يؤكد ثورته على هذه القيم والمثل … حين فعل ذلك كان نائبًا عظيمًا عن ذلك المجتمع الهرم الذي شاخت جذوره، وجفَّت بها عصارة الحياة، ورغم ذلك يصرُّ على البقاء. وكانت مسرحية موليير — في هذا المعنى — صرخةً قويةً في الآذان التي تسمع، وتتظاهر بالصمم.
ولكن ما إنْ يُقبل القرن الثامن عشر بقفزاته التقدمية الباهرة، وتتَّضح مساعيه في التعجيل بانهيار المجتمع القديم، حتى تتغيَّر نظرة الإنسان للحياة من حوله تغيُّرًا ملموسًا.
بهذه البراعة الفذَّة، كشف بلزاك تلك الرواسب الكامنة في أعماق الإنسان الجديد من التراث العاطفي للجيل الماضي … بل الأجيال الماضية. بينما هو يحدِّد لنا — بالبراعة نفسها — النقيض المقابل لهذه العواطف الممزقة، فالنبيلة الإنجليزية «امرأة عملية» (وإن شئنا الدقَّة في التعبير قلنا إنها المرأة الجديدة)، ما إنْ تسمع بقصة عشيقها مع الكونتيسة حتى تعلِّق بلسان العصر: «ما أشد ضيقي بهذه التنهدات السخيفة! كأنهما حمامتان يتناجيان.» وهكذا يستطرد فيلكس «… في نهاية سهرة تأكَّد لي أنها أفلحت في إثارة شهوتي، وعُدت إلى بيتي لأجدها في مخدعي راقدة على فراشي.» ووصف عواطفها بعد ذلك بأنها «وحشية بربرية»، وأنها حيوان لم يُستأنس، «وأنها الأنثى الوثنية» «سلطانة الجسد». ثم «أشهد شهادة حق أن هذه المرأة النارية عرفت كيف تذيقني من اللذات ما خلَّده نشيد الإنشاد.» ها هي الحقيقة إذن … أما الكونتيسة فهي تَرِكة الماضي من الأحلام، وفيلكس هو الجيل الضحية بين أخيلة القديم وحقائق الساعة. لنسمعه يقرر: «مهما يكن من أمر الحب الذي تمنحه العشيقة أو الخليلة، فهو حب محدود؛ لأن المادة التي صُنع منها الجسد محدودة بطبيعتها ودوافعها ومقوماتها، فلا غرو أن شعرت في بعض الأحيان، وأنا في معمعان هذا النعيم المتصل، بفراغٍ لا أدري له كُنْهًا، فعلمت أنَّ الحب الخالد هو غرام الروح والقلب والكونتيسة» … لكنه مرة أخرى يعود إلى تلك «الساحرة النارية» … «فبأي لسان أصف أوقاتي معها؟ إن لها من الخبرة والدراية بأنواع اللذائذ الخصبة والنشوة المتجددة، ما جعلها تقودني كل ليلة إلى ما أحسبه عالمًا جديدًا لم أطرق بابه من قبلُ؛ فهي أستاذتي وقائدتي في ذلك الزحف الرائع نحو ميادين الحس، بيد أنها كانت تُخفي ذلك الحذقَ الذي ينمُّ عن آثار عشرات الرجال مارستهم قبلي ومارسوها، كانت تخفيه تحت قناع متقن من السذاجة ووحي الساعة.»
هل وقف بلزاك عند حدود علامات الاستفهام؟ كلَّا … إنه يجيب على لسان الملاك القديم من بين شفتَي الكونتيسة وهي تُحتضر: «أجل، أريد أن أعيش. أن أعيش بالحقائق لا على الأوهام. فقد كانت جميع صفحات حياتي الماضية أوهامًا وأضاليل خُدعت بها، أيحق إذن أن أموت أنا التي لم تَعِشْ قط؟» ونادت فيلكس — وكأن بلزاك أراد أن يواجه الماضي الذاهب بالحاضر الواعد — وهمست له: «ها هم الفلاحون الذين يجمعون محصول الكَرْم يهمُّون بتناول الطعام في بيتي ومن مطبخي، وأنا، أنا ربة البيت والطعام والمطبخ يقتلني الجوع … وكذلك في الحب، أموت ظمأى وينعمون كلهم بلذة الهوى ونشوة الوصال».
وانتصر المجتمع الجديد، والإنسان الجديد، ونجح بلزاك العظيم في تقديم النظرة الجديدة للحياة، النظرة الحائرة بين المعنى المجرد للحب والمعنى المجرد للجنس، دون بحثٍ جادٍّ عن رابطةٍ حقيقيةٍ تجمع بينهما … لأن صورة المرأة في ذهن المجتمع الجديد، كانت ما تزال «صورة مهزوزة» كبندول الساعة، بين معناها القديم المترسب في كامنة المجتمع، وقيمتها الجديدة المتولدة من تقدُّم العصر.
وفي قصَّة «امرأة في الثلاثين» يعرض لنا بلزاك هذه النظرة من خلال نماذج متعددة تمثل هذا الجيل؛ فالسيدة جوليا ابنة دوق من أبناء الملكية قبل الثورة ترعرعت بين أحضان التربية الإقطاعية، فتزوجت من ضابط ينتمي إلى أسرة من النبلاء، تزوَّجته لأنه جسَّد لها أحلامها في الحب. ثم أفاقت من سباتها على حقيقة مذهلة؛ إذ اكتشفت أن الحب شيء، والفراش شيء آخر، والرجل في أغلب الأحيان يفضِّل الفراش، أمَّا المرأة التي تربَّت في سياج الأحلام، فإنها تفضِّل الحب؛ هذه الهالة النورانية الغريبة. وأيقظها من الصدمة نبيل إنجليزي أهداها طبقها المفضل: الحب. وأحسَّت بأن ثمة رابطة قوية — لا تعيها — بين الاثنين. إن عمَّة زوجها تحلِّل الموقف من وجهة نظر «الماضي» فتقول: «كانت العروس التي تجد نفسها في مثل موقفِك تُبادر إلى عقاب زوجها بالخيانة. ولستُ أعجب لذلك؛ فإن أغلب الرجال أنانيُّون متوحِّشون أنذال. يظنُّون أن هذه الفظاظة تقرِّبهم من قلوب النساء.»
هكذا يرسم بلزاك الخطوط الأولى في اللوحة «رأي الجيل الذاهب، وإن لم يختلف عن رأي الجيل الحاضر، فتصيح جوليا نفسها أمام الحبيب الإنجليزي: «نحن رقيق يا سيدي» … وهذا هو مركز المرأة كما تراه في أعماقها، رغم الرفاهية والبذخ اللذين ترفل فيهما؛ لذلك يعترف بلزاك بمرارة عصره «أعتقد أن تحرير المرأة على السنة الحديثة فيها إساءة لها؛ لأنه يصرفها عن واجباتها البدنية التي هي كواجب الكاهن أمام محرابه. والغريب أننا نسمح لرجل غريب أن يوغل في حرم بيتنا، فنضع أنفسنا تحت رحمته؛ لأن العواطف الإنسانية شيء إمَّا أنْ نعترف بقوته فنأخذ حذرنا منه ونحمي سعادتنا من غوائله، أو فلنُقدِم على إلغاء تلك العواطف إنِ استطعنا، وهذا مستحيل، فليس أمامنا إذن سوى إبعاد المرأة عن طريق الغواية، بتحريم اختلاطها بالرجال في المحافل والبيوت وخلوتها بهم.»
هذا الحديث المباشر — الذي يُؤخَذ على بلزاك من ناحية الفن — يضع أيدينا على معنى المرأة في ذلك الوقت بصفة عامة، ومعنى الجنس بصفة خاصة. فالواجبات البدنية — كما يراها العصر — هي مملكة المرأة، وأهم هذه الواجبات ما أُدِّيَ فوق الفراش الساخن. والمرأة، إذن، ليست كائنًا إنسانيًّا مستكملًا وعيه الخاص وحصانته الذاتية؛ لأننا «نخاف عليه» من الغواية، فنحرِّم عليه مخالطة الرجال. وليس الجنس، بالتالي، علاقة إنسانية، وإنما هو سلعة تقبل الملكية المطلقة والإيجار والسرقة. والمجتمع يصبُّ كلًّا منها في قوالب مطَّاطة؛ فالملكية هي الزواج الشرعي، والإيجار هو الزنا والبغاء، والسرقة هي العلاقة غير الشرعية. أما جوهر العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، فلم يُعطِها المجتمعُ تعريفًا يخرج بها عن نطاق الشكل الخارجي. لأن معناها الحقيقي — كعلاقةٍ إنسانيةٍ — ما كان لهذا العصر أن يخلقه، بعد أن باتَت العلاقات الإنسانية جميعها، تُمارَس في حدود شكلها الخارجي دون الغوص إلى داخل أعماقها.
بقيت ثلاثُ نقاط هامة في أدب بلزاك، ينبغي أن نتأملها بدقة وإمعان. أُولاها أنه يختار نماذجه من أبناء الطبقة «النبيلة» في فرنسا … رغم أن طبقةً جديدةً كانت وشيكة الظهور آنذاك. والتفسير الذي أستريح إليه هو أن اختياره للطبقة المنهارة يدلُّنا على رغبته في تتبُّع السَّيْر التاريخي لهذه الطبقة، من خلال تطوُّر العلاقات الاجتماعية من الجيل القديم إلى الجيل الجديد. وحين تخيَّر العلاقة الجنسية ومكانة المرأة كظاهرة اجتماعية تواكب هذا التطور، كان يتيح لنا في الواقع مقياسًا صادقًا نتابع به تطور هذه العلاقة من عصر إلى آخر، وتغيُّر نظرة المجتمع إليها من جيل إلى جيل.
والنقطة الثانية أنه تخيَّر شخصياته — في الروايتَين اللتَين عرضنا لهما في هذا الفصل — من بين رجال فرنسا ونساء إنجلترا، أو العكس. ذلك أنه أراد أن يؤكد وحدة النظرة الأوروبية التي بلورتها ظروف تاريخية متشابهة. ففي «زنبقة الوادي» نرى العشيقة الإنجليزية «الليدي دادلي»، وفي «امرأة في الثلاثين» نرى العشيق الإنجليزي «مستر آرثر».
وأخيرًا، نلحظ في المشاهد الجنسية التي انبثقت من صميم الأحداث أنها تتَّسم بالمعنى العام دون الدلالات الجزئية، وبالتقرير دون الصورة؛ فهو يؤرِّخ العلاقة بين جوليا وعشيقها كما يلي: «ووجدت جوليا نفسها تعصر عن غير قصد يد صاحبها، فكان ذلك كافيًا للقضاء على آخر مقاومة للخجل في نفس هذا العاشق»، ثم يتحدثان في صفحة كاملة عن أشياء غريبة بعيدة، إلى أن يذكر الكاتب «… وقبل نهاية عام رزقت جوليا ولدًا يشبه كثيرًا الرجل الذي أحبَّته» … لقد آثر بلزاك — على الرغم من مناقشته لقضية جنسية — أن يقدِّم المدلول والمعنى والهدف، دون الاستغراق في جزئياتٍ صغيرةٍ لا تخدم الخط الروائي العام في كثيرٍ أو قليل. والنموذج السابق ليس مصادفة، وإنما هو منهج بلزاك في التعبير. فنحن نقرأ في نهاية الرواية كيف اكتشفت الأم سقطة ابنتها، فيقول: «وقعت عيناها وهي مستلقيةٌ على المقعد على شيءٍ في صفحة الرمل لم تكن قد رأته عند دخولها لترى ابنتها. كان أثرًا لحذاء رجل، واضحًا غاية الوضوح؛ ممَّا يدلُّ على حداثة عهده.» بهذه النقطة الناجحة وُفِّق بلزاك لأن يقول كل ما يريد، دون أن يعرض تفاصيل لا مبرر لها.
•••
استقرَّ المجتمع الجديد، وتوالت نجاحات الباحثين في تدعيم أركانه. وكانت نظرية نيوتن في الجاذبية قد أقرضت الفلسفة المادية الميكانيكية، التي سرعان ما سادت نظرتها للوجود على كافة أوجه النشاط الإنساني؛ لأنها — في واقع الأمر — كانت تلبِّي حاجةً ذاتية في قلب المجتمع. كانت هذه الفلسفة تقول إنَّ العامل الاقتصادي هو محور الحياة الصانعة للمجتمع. فليست هناك من أسباب أو دوافع تكمن خلف كلِّ ظاهرة إنسانية أو اجتماعية، إلَّا ويكون «الاقتصاد» هو السبب الوحيد والدافع الأوحد.
وتلوَّنت نظرة الإنسان بهذا اللون المادي البحت. وانعكست هذه النظرة على علاقاتهم فيما بينهم، ثم جاء الأدب والفن لينقلا إلينا هذه النظرة. جاء جوستاف فلوبير وبرفقته السيدة «إيما بوفاري» نموذجًا بشريًّا تمثَّلت فيه عناصر التكوين النفسي الجديد: «كانت إيما تعتقد قبل الزواج أنها وقعت في الحب، فلما لم تحصل على ما كانت تخاله مُتَرتِّبًا على هذا الحب من سعادة، توهَّمت أنها كانت على خطأ، وأخذت تُسائل نفسها عما تعنيه عبارات النشوة، والعاطفة، والهيام التي كانت تقرؤها فتبهرها.»
وأثناء دراستها في دير الراهبات: «كانت تردِّد في همسٍ بعض أغنيات غرامية من القرن الماضي، تحفظها عن ظهر قلب. وتلتهم سرًّا روايات تدور حول الحب والمحبين، ونساء معذَّبات يُغمى عليهن في خلوات منعزلة، وشجون تفعم القلوب، وعهود وزفرات ودموع وقُبلات، وزوارق في ضوء القمر، وبلابل في الخمائل، وسادة في شجاعة الأسود ووداعة الحملان، يبكون فتسيل دموعهم كالسيل الهتون.»
وتزوَّجت إيما؛ فتاةُ الريف الطموح الذي تغيرت هيئة مزارعه بعد اندحار الظلم الإقطاعي، تزوَّجت من طبيب ناشئ عاطل من المواهب تقريبًا؛ مواهب العصر «المادي» المتوثِّب الذي اضطر «الجنتلمان» لأن يستظهر قواعد علم الاقتصاد، قبل حفظه قواعد الإتيكيت. فلم يكن غريبًا أن ترقص إيما في الحفل الأرستقراطي، حين دُعيت إليه برفقة زوجها، وتعيش لحظات غامرة حتى الصباح. فإذا بزغت أضواء الفجر «رمقت نوافذ القصر بنظراتٍ طويلة، محاولة أن تتصوَّر ما كان يجري في مخادع أولئك الذين لفتوا نظرها الليلة السابقة، وكأنها تودُّ لو عرفت حياتهم وتسللت إليها، وامتزجت بها.» حياة الطبقة المرفهة، هو كل ما تريده إيما، وتودُّ لو تتسلَّل إليه وتمتزج به. أسلوب هذه الحياة ومستواها العالي في العيش هما هدف المرأة، مهما كانت الوسيلة المؤدية إلى ذلك. فكل ما يحيط بها ريف ممل، برجوازية حمقاء وحياة زرية … «وأخذَت تتوق إلى القيام برحلاتٍ أو إلى العودة للدير، كانت تتمنَّى المتناقضات في آنٍ واحد … أن تموت وأن تعيش في باريس.»
وإيما تتساءل: لِم لَم تحظَ بزوج، ولو من أولئك الذين يقضون الليل بين الكتب، ويحملون في النهاية وسامًا على شكل صليب؟ لكم كانت تشتهي أن يغدوَ اسم بوفاري ذائعًا، وأن تراه معروضًا عند باعة الكتب تردِّده الصحافة وتعرفه فرنسا بأسرها. هذا هو عالمها الداخلي … أما العالم الخارجي، فقد أصبح فيه القساوسة «يحتسون الخمر في الخفاء، ويحاولون أن يستعيدوا الأيام التي كانت فيها الكنيسة تتقاضى الضرائب من رعاياها» … أصبح الفرنك هو سيد الموقف، حتى موقف رجال الدين.
وأخيرًا … أخيرًا جدًّا … رأت بعينَيها كلَّ ما تنشده من مجدٍ وأبَّهةٍ وبذخ … وسمعَت رنينًا عذبًا يخفق بين ضلوعها، وهي تستريح من عناء أحلامها الذهبية في أحضان الشاب الثري «رودولف». أحسَّت الراحة عميقةً وهي تدسُّ رأسَها المثقل في داخل ثوبه المبطن بالحرير الناعم، وحققت حلم صباها، وخالت نفسها إحدى هؤلاء العاشقات اللائي كانت تغبطهنَّ من قبلُ، وشعرت بحلاوة الانتقام.
وما إن شبع «الأعزب الثري» من الجسد الجميل، حتى صارحها بلهجةٍ جادةٍ بأن زياراتها أصبحت تُجانب الحكمة، ثم تخلَّى عنها نهائيًّا.
ولم تيئس إيما. جدَّدت أحلامها في «ليون». ولم يكن هذا العشيق ثريًّا، غير أنَّ العلاقة التي استمرأتها مع رودولف كانت قد أفرخت في كيانها حنينًا جارفًا إلى العلاقة في ذاتها، بغضِّ النظر عن الدافع الأصيل لها. أما مظاهر البذخ التي تَعبدُها فلم تستطع هجرانها، وكلَّفت نفسها هي بتوفيرها، ولأنها عبدت الطموح البرجوازي أصلًا — ولم تكن أحضان العشيق الأول إلا سبيلها لتحقيق هذا الطموح — فإنها فشلَت في تجاهل رغبتها الأصيلة (السعي إلى مستوى مادي باذخ)، وإن أحرزت نجاحًا هائلًا في تكييف رغباتها الأخرى. كانت رغبتها الأصيلة تشكِّل لا شعورها الكامن في أعماقها. بينما طفت على السطح الرغبات الأخرى؛ ومن ثم نسيَت — بحكم اندفاعها اللاواعي — حقيقة تلك الرغبة الدافعة. فأنفقت كلَّ ما تملك من جنيهاتٍ ذهبية، واستدانَت من المرابي، وأطلَّ الخراب بجناحه الأسود مع ناقوس المحضرين، وهم يُوقعون الحجز على ثيابها الداخلية. لم يخفَّ إلى نجدتها عشيق، ولم يسعَ إلى إنقاذها حبيب، وإنما تلقَّت بسمات الاحتقار من الجميع كبرقيات تهنئة.
وتلقَّف النقاد والقضاة «مدام بوفاري» بوابلٍ من علامات الاستفهام: هل قصد فلوبير أن يدين المجتمع الجديد، الذي أحاط نفسه بسياج «مادي» لا يرحم؟ أم أراد أن يدين كل امرأةٍ نزقةٍ لا تحترم قيمة الشرف؟ وكانت في الواقع أسئلة ساذجة؛ لأن فلوبير قال كل شيء.
-
قال إن جميع الظواهر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في ذلك العصر؛ نتيجةٌ حتمية حاسمة لعاملٍ واحد هو العامل الاقتصادي؛ فالطموح الفردي المشبوب الذي امتلأت به جوانح «إيما» ساقها إلى أحضان أول عشيقٍ أتاح لها فرصة التطلع إلى أعلى.
-
وقال إن المأساة الحقيقية لذلك العصر الميكانيكي، أنه يضع على عيوننا منظارًا قاتم السواد، فتبدو لنا الجوانب الشائهة وكأنها نابعةٌ من الإنسان ذاته، لا من صميم هذا المجتمع الفاسد؛ فمدام بوفاري لا ترى في غمرة شهواتها الجديدة الشهوة الأصيلة؛ شهوة التسلُّق الاقتصادي إلى مكانةٍ اجتماعيةٍ أرفع. انساقت «إيما» إلى عشيقها الثاني دون وَعْي بهذه الحقيقة. وظنَّت أنها تنشد اللذائذ والمتع. فلما استيقظت في أعماقها الغافية نيران الشهوة الأساسية، أفاقت على تواضع مركز عشيقها الجديد. ولم تحظَ بفرصة التراجع، فأصرَّت على كبريائها بالكذب والسرقة والغش والديون. ثم أفاقت تمامًا على صوت المحضرين لتوقيع الحجز. ولم تمنعها أذرع عشيقها هذه المرة من أن تضع حدًّا لشهوتها السيئة، بأن تزفَّ نفسَها إلى عريسٍ أبديٍّ لا يموت، ولا تملك خيانته: كان هذا هو القبر.
-
ثم قال فلوبير إن مفهوم عصره للجنس كان مفهومًا ميكانيكيًّا؛ فالسياج المادي يحكم هذه العلاقة الإنسانية كسياجٍ حديدي لا يرحم. الرجل يوظِّف فرنكاته في استدعاء زوجات أصدقائه إلى فراشٍ أنهكته صنوف المتع. والنساء يستنزف لعابهن أحلام جديدة لا تمتُّ إلى الرومانسية بِصلة، أحلام مليئة برنين الذهب. والمجتمع الأوروبي في ذلك الحين عملاقٌ ضخم يقف وحده على قمة جبلٍ من الذهب يقدم للناس وصاياه العشر؛ ومن ثم كان طبيعيًّا أن يُقدَّم فلوبير إلى المحاكمة بتهمة الترويج للدعارة والإلحاد؛ لأنه نزع القناع الخلقي عن وجه مجتمعه، فإذا بالمادَّة — لا الوصايا العشر — هي غذاؤه الوحيد.
ولا شك أننا نضحك كثيرًا اليوم، حين نعدُّ على أصابع اليد الواحدة اللحظاتِ النادرةَ التي صوَّر فلوبير خلالها ما يُحيط العلاقة الجنسيَّة، من مظاهر نابعةٍ من السياق الدرامي للقصة. إنه يصوِّر لنا السقطة الأولى لمدام بوفاري هكذا: «قالت في بطءٍ وهي تميل على كتفه: أواه يا رودولف. واشتبك قماش ثوبها بمخمل سترته، فمالت إلى الخلف بعنقها الأبيض الذي انتفخ بزفرة … وفي اضطرابٍ ودموعٍ ورعشةٍ طويلةٍ حجبت وجهها … وأسلمت نفسها.» لو أننا استشعرنا الجوَّ النفسيَّ الذي سبق هذه اللحظات وما تلاها، لاتَّهمنا فلوبير بأنه لا يجيد تصوير هذه المواقف؛ فالهيكل الروائي للمأساة كان يفرض عليه الإسهاب في هذه اللقطة، حتى نقف معه على همزة الوصل بين الدافع الرئيسي للنزوة، ثم الرغبة في النزوة نفسها، لكن الكاتب العظيم — وهو يناقش وضعًا اجتماعيًّا أكبر من أن يتَّضح في مشهدٍ جنسيٍّ مثير — رأى من الأفضل أن يتيح الاتساع والتعمق في المشاهد ذات الدلالة، أو التي تخدم غرضًا فنيًّا في العمل الأدبي؛ لذلك نراه يكتفي بوصف الأيام الثلاثة الأولى التي قضتها «إيما» مع ليون بأنها كانَت ممتعةً، رائعةً، شهر عسل حقيقيًّا. ويلقي في سلة المهملات بكل ما تحتويه أيام العسل من دقائق لا قيمة فنية لها. وسر ذلك أنه يعي جيدًا — بغير أن تسوقه أية نظرية قديمة — معنى الاختيار في الفن. فاللحظة التي تستوجب الاستغراق في جزئياتها الصغيرة، ينبغي أن يستمدَّها الفنان من السَّيْر الدرامي للقصة مُجيبًا على هذا السؤال: هل يمكن الاستغناء عن هذه اللحظة، أم أني إذ أغفلتها يحسُّ القارئ فراغًا في هذا المكان؟
وكان في استطاعة فلوبير أن يملأ الصفحات الطوال بتشريح اللحظات العاطفية، والعلاقة البدنية بين الرجل والمرأة، خاصة وأن محور قصته يدور حول تحديد مفهوم عصره لهذه العلاقة، لكنَّا نراه يقتصر على المجاز الفني الرائع، فيذكر مثلًا أن «إيما» «استطاعت أن تحصل على إذنٍ من زوجها بأن تذهبَ إلى المدينة مرةً كل أسبوع لتتعلَّم الموسيقى، حيث كانت تلتقي — في الحقيقة — بعشيقها … وما انقضى شهرٌ حتى بدا أنها أحرزت تقدمًا كبيرًا في العزف …» وفي لقائها الجنسي الأول مع «ليون» لا يذكر المؤلِّف إلا أنَّهما ركبا عربةً مقفلةً من جميع الجوانب، وطلبَا من السائق ألَّا يتوقف حتى صدور أوامر أخرى. «وحوالي الساعة السادسة توقفت العربة بشارع خلفي، وهبطت منها امرأة تسدل على وجهها قناعًا، وسارت دون أن تلتفت.» وهكذا يُمكن القول بأن فلوبير — في براعةٍ تكنيكيةٍ ممتازة — نجح في تقديم نظرة عصره إلى الجنس … تلك النظرة التي لم ترفع العلاقة الحميمة بين الرجل والأنثى إلى مستوًى إنساني، وإن استطاعت رفعها إلى مستوى البورصة.
•••
تخاذلت الفلسفة المادية الميكانيكية أمام انتصارات الإنسان المذهلة في ميدان علم البيولوجيا، لكنَّها لم تُسلِس قيادَها تمامًا للغازي الجديد، وإنما حاولت جهدها أن تُوفَّق إلى «صلح» أو «معاهدة» تقيها شرَّ الهزيمة التامَّة. وربما وُفِّقت بالفعل في إصابة هذا الهدف، حيث إنَّ البناء الاجتماعي لم يكن قد توتَّر بعدُ بهزاتٍ جذريةٍ عنيفة. ومن هنا أفادت المادية البحتة بقاءها في حماية المرحلة الانتقالية التي يجتازها المجتمع … ولم تَستطع نظريات الوراثة وغيرها من دلالات البيولوجيا الحديثة أن تمحوَ أثر الفلسفات السائدة. أمَّا الفنون — هذا الترمومتر الصادق التأثُّر والبالغ الحساسية — فقد سجلت الدلالة القادمة مع الفلسفة البيولوجية الوافدة.
من هو الإنسان إذن؟ يُجيب زولا أنه «كائن بلا أمل، يتحوَّل في الظلام إلى الحيوانية المحض.» ولم يدهش فلوبير حين فاجأه برسالة يتحدث فيها عن روايته «نانا»: «وظني أنك ستكون مسرورًا بالطريقة البرجوازية التي سأتناول بها فتيات اللذة.»
وها هي الفرصة تلوح لنا أخيرًا، لنفسِّر اللقاء الغريب بين ثلاثة اتجاهاتٍ فنية متباينة حمل عبئها القرن التاسع عشر بمفرده. تلك الاتجاهات هي: الرومانسية، والواقعية (التي صاحبت المادية الميكانيكية فعُرفت بالواقعية الفوتوغرافية)، ثم الطبيعة الفيزيقية. إن اللقاء الذي جمع بينها هو «التشاؤم»؛ فالرومانسية تعبِّر عن أزمة التناقض بين القيم الإقطاعية والمجتمع الرأسمالي الجديد، فهي تعاني آلام التمزُّق الملتاع من اضطرارها إلى هجران القيم التي استراحت في أحضانها. والواقعية الميكانيكية تصنع من الظروف الاقتصادية قدرًا جديدًا للإنسان، لا يستطيع الإفلات من جحيمه. أما الاتجاه الطبيعي فلنرَ ماذا صنع.
وإذا كان اللقاء الكبير بين الرومانسية والواقعية الفوتوغرافية والطبيعية، تمثَّل في معنى التشاؤم (فالاتجاه الفيزيقي لتفسير الحياة لا يمكن أن يقود إلى التفاؤل، ما دام الإنسان لا يأمن الأحداث البيولوجية السيئة، بل أصبحت الوراثة هي القَدَر الجديد للإنسان، بعد أن كان هذا القدَر هو ظروفه الاقتصادية)، أقول: إذا كان اللقاء الكبير بين الاتجاهات الثلاثة الكبرى — خلال القرن التاسع عشر — هو القتامة والسواد والتشاؤم، فإني ألمح لقاءً جديدًا يجمع بينها ثانية، هو «القصور»؛ إذ بات يقينًا أننا لا نرى الحياة على حقيقتها بواسطة منظارٍ ضبابي حالم، ولا بمنظارٍ مادي ميكانيكي، أو بمنظار بيولوجي جامد؛ لأنَّ الحياة في اتِّساعها الخصب العميق، لا تقبل هذه التفسيرات الحاسمة المقلقة، بل لعلَّ التشاؤمية التي وصلت إليها كانت نتيجةً منطقيةً لهذا القصور.
ولم ينصرف القرن التاسع عشر بسلام، قبل أن يبديَ محاولةً مخلصة في الجَمْع بين هذه الاتجاهات المتضاربة. وكانت هذه المحاولة على يدَي الفنان «جي دي موبسان». ترى هل نجحت المحاولة؟
قلت إن موبسان حاوَلَ أن يجمع فلسفات — أو نظرات — عصره الثلاث، ويبدو أن فشلَ المحاولةِ كان نتيجةً طبيعيةً لسيادة أحد هذه الاتجاهات سيادةً تاريخيةً مطلقة. فنراه، بعد أن صور البداية الرومانسية لحياة جان، يصور بنجاحٍ البيئة الاجتماعية ونظرتها المادية الميكانيكية، ومدى سيطرتها على تطوُّر الأحداث، لكنه لا ينسى في النهاية فلسفة العصر البيولوجي، فينشأ ابن جوليان نسخةً من أبيه … رغم أنه لم يرَ هذا الأب في حياته. حقًّا أراد الكاتب أن يصوِّر آثار البيئة والوسط في الابن الآخر من الخادمة «روزالي» غير أنه لم يدعنا نُعايش هذه البيئة والوسط معايشةً حتى يتيسَّر لنا الحكم على الشخصية التي أمامنا. أما «بول» فقد لمسنا فيه جشع جوليان المادي والجنسي، من خلال تقاربٍ صميمٍ بيننا وبين النموذج.
ما هو مفهوم الجنس عند موبسان؟
يُخيَّل إليَّ أن البناء الفني للرواية، الذي عرض فيه الكاتب لاتجاهات العصر، قد فرض عليه بالضرورة أن يؤرِّخ — في استعراضٍ سريع — لمفاهيم العصر الثلاثة في الجنس.
-
جان في بداية عهدها بالزواج ترى «الفراش» زورقًا من ذهبٍ يُبحر في مياه لازوردية، وتتوهَّج نفسها مع جوليان كحمامتَين تتناجيان٢٩ وهذه هي الرؤية الرومانسية للجنس.
-
ثم يبحث جوليان عن المعنى الحقيقي٣٠ للجنس، فيرتمي بين أحضان كل امرأةٍ تمنحه مع جسدها هذا المعنى المادي البحت.
-
وتُسيطر على موبسان فلسفة العصر، فينشأ بول «صورة طبق الأصل» من أبيه؛ إذ فسدت دماؤه بعامل الوراثة. وحينئذٍ يتَّخذ الصبي لنفسه عشيقة يغامر بحياته من أجلها.
نجح العصر إذن، رغم المحاولة الصادقة المخلصة التي قام بها موبسان. بل إنَّ هذه المحاولة نفسها، في الجمع بين الاتجاهات الثلاثة، ترمز إلى البداية الحقيقية للبحث عن مفهومٍ متكاملٍ للجنس، لا يعتوره القصور الذي ميَّز المفاهيم السابقة، لكنَّ المعنى المتكامل لا يهبط هكذا من السماء، وإنما يكسو الهيكل الاجتماعي للعصر؛ أي إن التكوين الذاتي للمجتمع يحدِّد رؤيته الموضوعية للأشياء.
عندما لفظ القرن التاسع عشر أنفاسه الأخيرة، كان المجتمع الأوروبي يعاني بوادر أزمة عنيفة تهدده بالانهيار. فالنمو الصناعي المذهل وحركة التبادل التجاري الواسعة النطاق، والثروات البكر الناشئة، لم تَحُل بين سادة النظام الجديد وبين أطماعهم في اتِّساع رقعة نفوذهم. وبعد أن كان النظام الجديد يوحِّد بين العالم الأوروبي، أصبح يحفر هوَّة عميقةً بين هذه الدول التي دخلت فجأةً في رحاب منافسةٍ رهيبةٍ على أكبر عددٍ من المستعمرات. وأضحَت عوامل الفزع واليأس والقلق إرهاصًا واضحًا للحرب العالمية الأولى. وبدأت موازين القيم تختلُّ؛ إذ تبلورت سمات الأزمة في حسرة الإنسان على خلخلة نظامه الجديد … كانت الراحة والاسترخاء والطمأنينة التي يستشعرها في ملكوت المباراة الفردية الحرة، قد أخذت تتمدَّد مع اشتداد الصراع بين جنبات مظلتهم الواقية.
عُنِي فرويد في أبحاثه الأولى بشيءٍ هام، هو أنَّ الظروف الاقتصادية للبشر لا تحقِّق وجودَهم الإنساني، فضلًا عن كونها لا تخلق هذا الوجود. كما أصرَّ على أنه ليست «كل» الظروف البيولوجية هي الصانعة للإنسان.
ومنذ البداية ينبغي الاعتراف بأنَّ فرويد أحسَّ بوطأة الأنظمة الاقتصادية التي تتلاعب بمصير الإنسان، فأراد أن يبحث عن جذور هذه الأنظمة، لا في تاريخ الأرض الاجتماعية التي أنبتتها، وإنما في أعماق الإنسان نفسه، الذي رآه بنظرةٍ سطحية، فلم يكتشف فيه إلَّا جسدًا تقوده غريزةٌ صارخةٌ بالحياة.
إنه الخطأ التقليدي الذي ارتكبته الفلسفات المثالية جميعها في تعريف الإنسان، وفصلها العقل عن الحسِّ فصلًا يتجاوَب مع التعبير السلبي عن إحدى أزمات الإنسان التاريخية.
وقصة «عشيق الليدي تشاترلي» من أُولى ثمرات الحرب؛ فهي قصة زوجةٍ من الطبقة العليا الإنجليزية، تزوَّجت من لورد شاب أحبَّته وأحبَّها. وما لبثت الحرب أن أقعدته إلى كرسيه وملأت الفاجعة قلبه بمرارةٍ قاسية. ثم التقت السيدة النبيلة ذات يومٍ بحارس حديقتها — الرجل الفارع الطول والغليظ الطبع — الذي كان جنديًّا في الهند، ولما عاد إلى وطنه لم يجد غير هذا المأوى. فأحبَّت المرأة هذا الرجل، واستسلمت له. وكلما عادت من كوخه الصغير إلى قصر زوجها اللورد العاجز الذي حطَّمت الحرب نفسيتَه وجسدَه، كانت تقفز الطريق قفزًا بعد أن كانت تحسُّ بحياتها عبئًا على كتفَيها. يقول لورنس، وهو يصف لحظات عودتها السعيدة بأسلوبٍ شعريٍّ غنيٍّ بالصور: «… وبينما كانت تُسرع في طريقها إلى البيت، لاح لها العالم كأنه حلم، وبدَت لها أشجار الحديقة شامخةً كأنها قلوع سفينةٍ عائدة من رحلة، بل لقد تخيَّلت أنها هي نفسها سفينة ألقت مراسيها عند المدِّ هادئة مطمئنة، وأحسَّت أنَّ المخدر المتجه نحو البيت ينبض حياة.»
ولقد أثارت هذه القصة من الضجة فور صدورها، ما دفع مؤلفها إلى الهجرة من إنجلترا، وإن ظلَّ حريصًا على طَرق الموضوع نفسه في أعماله الأدبية التالية؛ فقد كان وراء هذا الإلحاح الدائم «نظرية» في الحياة والسلوك تعيش في ذهنه ووجدانه. ومحور النظرية أنَّ الجنس ليس مظهرًا لنشاط الإنسان، بل هو أصل هذا النشاط، ويفسِّر ذلك بقوله: «العالم قد شاخ وهرم حين عاش بالذهن، ولا بدَّ له لكي يعود إلى شبابه، أن يعيش في الحياة. والصورة المثالية للإنسان هي إنسان القبائل البدائية، في حوض الأمازون بأمريكا الجنوبية، وفي غابات أفريقيا وأحراش أستراليا. ذلك الإنسان الذي يُباشر إنسانيته ويمارس حيويته على أوسع نطاق. وإذا أرادت أوروبا أن تستردَّ شبابها وأن تنجوَ من إفلاسها النفسي الرهيب، فعليها أن تعودَ إلى تلك الصورة «الطبيعية» للحياة.»
لا ينبغي أن ندهش حين تقترن دعوة لورنس إلى الإنسان والجنس (الذي هو في النهاية أعلى مرحلةٍ في دعوة الإنسان «البيولوجي») بدعوته إلى العودة السريعة نحو أحضان الغابة. فلقد تلاشت محاولة موبسان لإيجاد مفهومٍ علميٍّ للجنس، وأقبل فرويد امتدادًا حادًّا للفلسفة الفيزيقية ليخطط دائرة بيولوجية ضيِّقة دعاها «الجنس». ذلك أن التكوين النفسي للعالم الأوروبي المعاصر لموبسان، كان قد تغيَّر تمامًا بفعل الاهتزازات المضطربة التي رافقَت أوائل القرن العشرين وبوادر الحرب الأولى.
ثم وضعت الحربُ أوزارَها وانجلت الميادين عن أشياء مهولة: الأجساد تحترق بما فيها من قيم، والرءوس تهوي بما يحتويها من مثل، وعار الهزيمة المادية يكوي القلوب الخاسرة، وسعار الهزيمة النفسية يدمِّر أفئدة الكاسبين. والضياع يظلِّل العالم بسحابةٍ سوداء ضخمة، والإنسان يُغمض عينَيه عن المسرحية الدامية التي أمامه، ويهجر الواقع الخارجي المحيط به، فيبدأ رحلة طويلة داخل تلافيف ذاته … وهناك تنزف أعماقُه بأحلامٍ غريبة، تختلف عن أحلامٍ من نوعٍ خاص وجديد … لا تجترُّ ذكريات الماضي، ولا تستكشف معالم المستقبل. إنها تعيش لحظةً حيةً في حاضرها، لحظة سوداء دامية، كوحشٍ يلتهم فريسةً لا يسترضيه أن يُبقي لها حياتها.
هذا هو معنى الجنس في أدب جويس. إنه لا يوافق لورنس على أنه أصل النشاط الإنساني فحسب، ولا يوافقه على أنَّ الحرب تحطِّم نفسيةَ الرجال وقِيَم النساء، فترتمي المرأة في أقرب أحضان قوية فقط. إنه يُضيف معنًى جديدًا هامًّا؛ فالحرب تطرد الإنسان من الواقع الخارجي إلى داخل نفسه. وهناك تنكمش اهتماماته بعد أن فقد همزة الوصل الواعية بينه وبين العالم، فيتقوقَع مع الأحاسيس البدنية وزفرات الجنس. إننا لا نرى في أدب جويس العلاقة الحسية بين الرجل والمرأة؛ وبالتالي نفتقد عنده معنى الجنس كعلاقةٍ إنسانية؛ لأن القوقعة الذاتية التي اضطر إنسان ما بين الحربَين للهروب إليها، لا تجعل من اهتمامِه بالجنس إلَّا مجرد الاسترسال في خواطر مبعثرةٍ تقف حائلًا بينه وبين علاقةٍ واقعيةٍ يمكن أن نستشفَّ بواسطتها مفهومه في الجنس.
-
فهو أولًا لا يَعي حقيقة الظروف الموضوعية التي أحاطت الأدباء في أوروبا وأمريكا في توفُّرهم على الموضوعات الجنسية لأدبهم. إنه ينفي أن تكون الحرب هي السبب الوحيد وراء الأزمة. ويقول إن الصراع بين المتحرِّرين والمتزمِّتين (دينيًّا) هو العامل الحاسم. ونسيَ أن هذا الصراع، وكافة الصراعات الاجتماعية الأخرى، قد تبلورت — بشكلٍ واضح — في أتون الحرب؛ ومن ثم يكون أوارها هو المبرِّر الحقيقي لتلك الظاهرة.
-
وهو لا يتجاهل ظروفًا ثانوية، كظهور فرويد ونظرياته في الجنس، ورواية يولسيس لجيمس جويس، ولكنه يتجاهل أن الحرب — ثانية — بما سبقها من إرهاصات تاريخية، وما لحق بها من آثارٍ إيجابيةٍ غيَّرت من الوضع التاريخي لخريطة العالم، هي التي أفرزت بصورةٍ تلقائيةٍ ما قاله كلٌّ من فرويد وجويس.
لم يُجب هوفمان على هذا التساؤل: «لو لم توجد نظريات التحليل النفسي أو قصة يولسيس، هل كان القصصيون الأمريكيون يتناولون الأزمة الجنسية على هذا النحو من الأهمية، وهذه الدرجة من الوضوح؟» والسؤال يحتوي على مغامرةٍ جزئية؛ لأنَّ تلك النظريات قد وُجدت بالفعل (ومن ثم ينبغي السؤال)، ومع ذلك نُجيب بأنَّ أدب الجنس الأمريكي هو تعبيرٌ عن الظروف نفسها. أي إنَّ هذه القصص، كبقية زميلاتها في العالم الأوروبي، تعبِّر عن ظروفٍ واحدةٍ هي ظروف الحرب.
-
والحقيقة الثالثة هي أنَّ الكاتب الأمريكي لم يتوغَّل في أعماق النفس البشرية، وإنما نسج خامته من الشواذ الذين شوَّهت الحرب حياتهم من الداخل إلى الخارج. واكتفى — إلى حدٍّ ما — بهذا «الخارج» حسب نظرةٍ سطحيةٍ للأشياء. وإن ظلَّ هناك كاتبٌ مثل فوكنر يعتبر الامتداد الطبيعي — الأكثر تطورًا — لجيمس جويس يقول في الخطاب الذي ألقاه وهو يتسلَّم جائزة نوبل «إنَّ مشاكل القلب البشري في صراعه مع نفسه هي وحدها التي تستطيع أن تُلهمنا الإتقان في الكتابة والتأليف؛ لأنها هي وحدها التي تستحق أن يكتب عنها، وتستحق ما يُبذل في سبيلها من عَرَقٍ وعناء.»٣٦
وكانت الحرب هي المنظر الأساسي الذي دارت من حوله أحداث روايات همنجواي، وفي روايته «وداعًا للسلاح» تصل معالجته لهذا الموضوع إلى الذروة. ففي مجموعة قصصه «في زماننا»، وفي روايته «الشمس تشرق ثانية» صوَّر الحرب في ذاتها وآثارها؛ لذلك خرجت «وداعًا للسلاح» إلى قرَّاء مستعدِّين للمعالجة النهائية للموضوع. فإذا نحن نرى الآثار العنيفة التي قادت إلى ازدراء قيمة الإنسان بعدما خاضت المثل العليا للمدنية الغربية قسوة الحرب وحسرة التقهقر. وفي إحدى رواياته يصف مجتمع الغرباء في باريس، وهم يلتهون عن الهزيمة المعنوية بالشراب والحب، فيخفقون، وإن أجلوا الأزمة.
وفي «وداعًا للسلاح» يحسُّ الملازم هنري أنَّ مُثُل الحرب كلها زائفة بَشعة — وهو الشاب الأمريكي الذي «تطوع» في صفوف القوات الإيطالية — فيتبرأ من الحرب، ويجد في حبِّه عِوَضًا عنها. بل يجد فيه ما يُسوِّغ تخلِّيه عن الحرب وتركيز آماله في الحب، وإذا به يجد نفسَه لا يمتلك شيئًا.
تقول له فتاته: – أسمع قلبَينا يخفقان.
– أنا لا أبالي بقلبَينا. أنا أريدك أنت. إني مجنون بك.
– أتحبُّني حقًّا؟
– لا تُكرِّري ذلك. هيا. أرجوك! أرجوك يا كاترين!
– حسن … بشرط ألَّا يتجاوز ذلك دقيقة واحدة.
– لا بأس، أغلقي الباب.
ثم يصف همنجواي مشاعر هنري بعد ذلك فيقول على لسانه: «وجلست كاترين على مقعدٍ إلى جانب الفراش، كان الباب مفتوحًا. وإحساس بالنشاط يدبُّ في كياني أكثر من أيِّ وقتٍ مضى … وسألتني: والآن هل عرفت أني أحبك؟» هكذا يتَّضح لنا — بعد طول عناء — كيف يلتقي الجنس والحب في معنًى واحد؛ وكاد الروائي الأمريكي أن يقدِّم لنا المعنى الحقيقي العريق لهذه العلاقة الإنسانية، لولا ظروف الحرب التي حصَّلت من الجنس عَلاقة تعويضية يمارسها هنري وكاترين والضحايا جميعًا، للتنفيس عمَّا يملأ صدورهم وخلوتهم من آلام النكبة.
إن همنجواي لم ينسَ أنَّ هناك معنًى عميقًا للجنس، يتجاوَز بشمولِه الإنساني أن يكون مجرَّد «تعويض» عن أشياء أخرى. فحين يعرض الملازم على حبيبته الزواج تقول له في ثقة: «نحن متزوجان فعلًا. أنا لا أستطيع أن أكون متزوجةً أكثر مني الآن.» فإذا قاطعها استطردت: «لا تتكلم وكأنَّ عليك أن تجعل مني امرأةً شريفة. أنا امرأة شريفة جدًّا.» بهذا الفهم العميق لحقائق الجنس والحب والشرف، حدَّد لنا همنجواي ماذا تعنيه هذه الحقائق بالنسبة للإنسان، الذي لا تعوقه الحواجز الاجتماعية والتاريخية عن أن يعيش إنسانيته بصورةٍ تلقائيةٍ نابعةٍ من ذاته. فالشرف عند كاترين أن تقيم علاقاتها الاجتماعية — ومنها الجنس — في حريةٍ تامةٍ من الأغلال التقليدية. إنها تحبُّ هنري، وهذا يكفيها لأن تمارِس حياتها معه.
ويستعرِض الكاتب هذه المعاني في أسلوبٍ فنيٍّ رائع، لا يلجأ إلى تصوير اللحظة الميكانيكية في العَلاقة الجنسية؛ لأنه يرى في هذا اللون من التعبير دعاية سطحية ورؤية من الخارج؛ لذلك يحاول همنجواي أن يكشف التركيب النفسي الداخلي للعلاقة؛ لأنَّ هذا التركيب — لا الشكل الخارجي — هو المقياس الوحيد لِقِيمة العلاقات الإنسانية، إذ يبيِّن نوعيتَها ودرجة الانفعال بها. تخاطب كاترين حبيبَها: «لسوف أكون شديدةَ الاعتزاز بك. وإني لفخورة على أية حال، خصوصًا حين تنام كطفلٍ صغير، وذراعك حول الوسادة ظنًّا منك أنها أنا، أو أية فتاة أخرى، من يدري؟ لعلها إحدى فاتنات إيطاليا.» فيجيب هنري: «إنها أنت.» وفي مكانٍ آخر يقول: «إذا نام القوم جميعًا، وأيقنت أن أحدًا لن يستدعيها، انسلَّت إلى غرفتي. كنت أهوى حل شعرها، وكانت تجلس على السرير في صمت، ثم تنحني فجأةً لتُقبِّلَني، فأسحب الدبابيس وأضعها فوق الفراش، فيتهدَّل شعرها، ثم أسحب الدبوسَين الأخيرَين، فإذا بشعرها يحتوي كلينا، ونستشعر كأننا داخل خيمةٍ أو خلف شلال.»
نجح الكاتب، بواسطة هذه اللوحات الحية الرائعة، أن يقدِّم لنا معنى العلاقة الجنسيَّة بين الرجل والمرأة من داخل ذوات الشخوص، فاستغلَّ الخيال الجميلَ والرؤى ذات الدلالة الإنسانية، بدلًا من الإسهاب الممل في رَسْم دقائق العلاقة نفسها. وليس شك أن التأمُّل الدقيق في عَرض الانفعالات النفسية التي تبطِّن أية علاقةٍ اجتماعية؛ أشقُّ بكثيرٍ من الوصف الخارجي لهذه العلاقة. بل إنَّ مقياس الفنِّ العظيم هو مدى تغلغله في النفس الإنسانية، لا مدى قدرته على الْتقاط الظواهر السطحية. وفي أحيانٍ نادرة يلجأ الفنان إلى تلك الظواهر؛ إمَّا لكي يَنفذَ منها إلى ما هو أعمق، وإمَّا لكونها نابعةً من كيان الحدث الدرامي للعمل الفني، ولكن لن نجد فنانًا عظيمًا يتوقَّف عند هذه الظواهر لمجرَّد أنها ظواهر.
فالكاتب الأمريكي «أرسكين كالدويل» في روايته «أرض الله الصغيرة» يرسم الظروف الموضوعية المحيطة بالعمَّال الأمريكيين، ثم يرسم ظروف الطبقة المتوسطة في الريف الأمريكي. ومن هاتَين البيئتَين الاجتماعيتَين المختلفتَين، تتميَّز نماذجه البشرية. وفي اللحظة التي تحضر فيها «دارلنج جيل» من الريف لتزورَ شقيقتَها زوجة العامل «ويل»، تلفظ كلَّ قِيَم طبقتها المريضة وهي تشدُّ زوج شقيقتها إلى أحضانها. كان على كالدويل أن يصوِّر هذا اللقاء البدني؛ لأنه لم يكن مجرد «لحظة جنسية» بين رجل وامرأة، وإنما كان لقاءً بين قِيَم ومُثل متصارعة من خلال علاقةٍ ما تحتِّم الأحداث «الخاصة» في الرواية، أن تكون العلاقة الجنسية بالذات؛ لأنه يتصادف أن تكون هذه هي المحك الوحيد الذي سيضيء جوانب الموقف.
وشيء آخر في أدب كالدويل جدير بأن نتوقَّف عنده طويلًا. ذلك أنَّ تحديدَه الواضحَ للظروف والشخصيات والجوِّ النفسي. يخلق بالضرورة (أحداثًا خاصة جدًّا) لا يمكن تواجدها إلَّا في عملٍ أدبي بعينه. بعكس ما نراه عند آخرين ممَّن يستهويهم التصميم في اختيار الظروف والشخصيات، فتجيء الأحداث أيضًا أحداثًا عامة، ليست نابعةً بالضرورة والحتمية من التكوين الذاتي للعمل الفني، فتصاب العلاقات الاجتماعية القائمة في هذا العمل بالتميع والتجريد، حتى تصبح في النهاية «كليشيهًا كبيرًا» لا يستهدف — فنيًّا واجتماعيًّا — خدمة البناء الدرامي أو المحتوى الإنساني. فإذا اعتبرنا العلاقة الجنسية إحدى العلاقات الاجتماعية الهامة، فإنه يحق لنا أن نتصوَّر مدى الابتذال الفني — لا الاجتماعي أو الخلقي — عندما يتحوَّل التعبير عن هذه العلاقة إلى مجموعة كليشيهات تناسب «مقاسات» معينة في الأعمال الأدبية، وهذا ما نعتقده تمامًا في أدب كالدويل. لأن الحدث، أو الحادثة الجنسية في قصصه، تتولد تلقائيًّا وبطريقةٍ ذاتية، من صميم البناء الروائي، بحيث تصبح هذه الأحداث في خدمة المضمون الأشمل لهذا البناء، وبحيث نشعر بفراغٍ وتباطؤ في السير الدرامي لو أن هذه الحادثة أو تلك، قد نزعت من مكانها. وأعني بهذه الحادثة كل ما تحتويه سطورها من حركةٍ فنيةٍ في القالب والمحتوى.
أين نلمس «التعميم» في عرض العلاقة الجنسية؟ نلمسه في كتابات الفتاة الفرنسية «فرنسواز ساجان» كإحدى الظواهر الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد اختلفت هذه الحرب عن سابقتها في كونها عبَّرت — أصدق تعبير — عن أعلى مراحل النظام الاستعماري. أي إن التمزقات الحادة التي أورثتها الحرب الأولى في قلوب البشر — الكاسبين والخاسرين — تعدُّ أمرًا تافهًا للغاية إذا قِيسَت بالتمزُّقات الرهيبة التي عاناها القلب الإنساني مع أوار الحرب الثانية. وهكذا ازدادت مهاوي اليأس والفزع غورًا وعمقًا في وجدانات البشر، كما تعلن بورصة الحروب أن ملايين العاهات قد غزت ملايين الجنود، فإن بورصة الحرب الثانية أعلنت أن ملايين العاهات النفسية قد غزت ملايين البشر.
وبدلًا من أن يكون الفن تعبيرًا إيجابيًّا عن هذه «المذبحة النفسية»، لمسنا أنه هو أيضًا كان هدفًا لمزيد من الإصابات، وكانت عاهته الكبرى هي السلبية. ذلك أن نظرة إيجابية للحياة لم تكن قد تبلورت بعدُ. فرغم أن نظرةً علميةً للوجود قد ظهرَت بعد الحرب في ميادين الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفلسفة، غير أنها لم تكن قد تكاملت في ميدان الفن للدرجة التي معها تؤثر في فنون تلك المرحلة. وليس شك في أن الإيجابية هي انعكاس طبيعي لتطبيق النظرة العلمية التي لم يكن قد امتدَّ أثرها بعدُ.
لو أنا استعرضنا موضوعات فرنسواز ساجان، لاكتشفنا بالتحديد أنها تدور حول معنى الجنس كعلاقةٍ عَرَضيةٍ لقتل الوقت! يبدو هذا المعنى واضحًا في «صباح الخير أيها الحزن»؛ إذ بعدما توطَّدت أواصر الصداقة بين البطلة وبين حبيبها تقول: «لم أكن قد أحببته أبدًا. كنتُ أحبُّ المتعة التي أتاحها لي.» لذلك لم تَرَ بأسًا في أن تخرج من حياته بنفس البساطة التي دخلَت بها.
وكانت الفتاة الرومانسية لا تتحمل فراق حبيبها، لمجرد أنها تود الاحتفاظ بصورة وجهه ولون عينَيه ونغم همساته. أما بطلة فرانسواز فتقول: «ما كنت لأحتمل فكرة قضاء الليل دون أن يكون إلى جواري، لأستمتع بهياجه الفجائي الممتع.» فالحبيب هنا مجرَّد «ذكر»، وتؤكد «الأنثى» ذلك على أثر أول لقاء حميم بين جسدَيهما: «في تلك اللحظة بالذات، كنت أحبه أكثر من نفسي، وكنت حَرِيَّةً أن أفتديَه بحياتي.» ولن نُدهش بعدئذٍ أن تكون هذه الكلمات لنفس الفتاة التي اعترفت منذ قليلٍ بأنها لم تحب هذا «الإنسان» أبدًا.
في «ابتسامة ما» تلحُّ على فرانسواز فكرة غرام الفتاة الصغيرة بالرجال الكبار. ولكنها تلمح هذه الظاهرة من الخارج، تُعنى بأن تصوِّر بداية العلاقة ونهايتها، وما بين البداية والنهاية بإتقانٍ دقيقٍ بارع، من غير أن تكلِّف نفسَها عناء البحث الجاد عن الأسباب الكامنة وراء الظاهرة.
وهذا هو العيب الرئيسي في كتابات فرانسواز؛ أنها تجهد نفسها وراء «العموميات» في دقائق وتفاصيل العلاقات الإنسانية. بينما تعرض الظاهرة الاجتماعية دون رَبْطها بالأسباب «العامة» الرابضة من خلفها. رغم أن العمل الفني الناجح يوضح لنا السمات الخاصة والملامح الذاتية للنماذج والجو والأحداث، ويربط هذه جميعًا ﺑ «الأرض العامة» التي أوجدتها.
فرنسواز — مثلًا — ترسم اللحظة الميكانيكية في العلاقة الجنسية على لسان الفتاة كما يلي: «كان قد أمسك بي من رسغي ضاحكًا، فاستدرت إليه، وإذا بوجهه ينقلب شاحبًا فجأةً كما كان وجهي بلا ريب. وسرعان ما ترك رسغي ليضمني على الفور ويسحبني إلى الفراش. ورحت في ارتباكي أقول لنفسي لم يكن بدٌّ من حدوث هذا يومًا … لم يكن بدٌّ، ثم كانت دورة الغرام: الخوف، فالرغبة، فالحنان، فالسعر. ثم ذلك الألم الوحشي الذي تبلغ به اللذة ذروتها، لقد أتيحت لي الفرصة لاكتشاف تلك اللذة والتعرُّف عليها لأول مرة ذلك اليوم.»
ألحَّت على فرنسواز فكرة غرام الفتاة الصغيرة بالرجال الكبار منذ قالت في أُولى رواياتها «لم أكن أحبُّ الشبان، بل كنت أفضل عليهم كثيرًا أصدقاء لي من الرجال ذوي الأربعين عامًا، الذين كانوا يذيقونني رقة الأب وعذوبة العشيق.» فقد كانت هذه الفكرة — كما قلنا — هي محور روايتها «ابتسامة ما»، ثم كانت المنظر الأساسي في قصَّتها «هل تحبين برامز»، وإن عكست الوضع فكانت المرأة تكبر الشاب بأربع عشرة سنة، وهي إذن أزمة موضوعية بين جدران المجتمع كله.
ولكنَّ السيدة فرنسواز على غير وعيٍ بهذا المجتمع الذي تكتب عنه؛ لذلك تجيء قصتها «بعد شهر أو سنة» معبِّرةً عن هذا الخواء الذهني الذي كان ينعكس بشكلٍ حادٍّ على القالب الفني لأعمالها، فتصيبه بالخلل والاهتزاز والتميع، وتكون كتاباتها أقرب إلى التحقيقات الصحفية السريعة منها إلى الأعمال الفنية؛ لذلك نجحت ساجان نجاحًا سريعًا، إذ أمكن الاتفاق حول أرقام التوزيع كمقياس النجاح، ولكنه يتعذَّر علينا أن نطلق على كتاباتها أنها «روايات جنسية»؛ لأنها جعلت من الجنس قضيةً تافهةً لا تناقش، ولأنها ثانية لم تكتب «روايات» بالمعنى الفني الدقيق. فلنضع أيدينا إذن على الضابط الحقيقي للوحدة العضوية في العمل الأولي. إن فرنسواز لم تناقش الجنس على مستوًى جادٍّ، فانسحب ذلك على فنِّها، وكدنا نقطع بأن ما تكتبه غير جدير بهذا الاسم.
•••
لقد كنت تضمني بقوة، بقوة عظيمة، وقلت لي بصوتٍ هامس إنك تحبُّني.
وفي جوانب أخرى من العالم، كانَت هناك موجةٌ من كتابات الجنس تميَّزَت بخصائص جديدة؛ إذ يبدو أن التقدم العلمي المطَّرد في مختلف مجالات النشاط الإنساني؛ كان يدفع الأدباء لأن يسايروا التطور، سواء كانوا على وعي بقوانينه أم بغير وعي. ولا شكَّ أن الذين تفهَّموا قوانين هذا التطور كانوا أكثر عمقًا من الذين لم يتوصَّلوا إلى هذا الفَهْم؛ ولكن الجميع سواء في إحساسهم العميق بالقيمة التقدمية للتطور العلمي.
يصف الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا مشاعر صبي مراهق، فيقول: «وبينما الصراع يشتد في أعماق أوجستينو، تبدلت نظرته لأمه في كل تصرفاتها وسلوكها. كان هذا الذي حدث اليوم، يحدث كل يوم، لم يكن أوجستينو يرى فيه شيئًا يُثير غير الاحترام. كانت مسألة طبيعية أن يرى أمه تخلع ثيابها أمامه. وكان طبيعيًّا للغاية أن تنحني فوقه على الفراش، وهي في ملابس النوم الشفافة، فيتدلى ثدياها من فتحة القميص، ثم تطبع على جبينه قبلة. كل هذه أشياء مرَّت بأوجستينو في الماضي بصورةٍ عاديةٍ جدًّا. أما اليوم، فلم يعد الأمر في سهولة الأمس؛ فقد أصبح الغلام يُطيل النظر إلى أمه وهي تستبدل ثيابها، ويراقبها بشغفٍ وهي تتزيَّن عاريةً أمام المرآة، ويحدق فيها بمزيد من الرغبة وهي تخلع جواربها … كل شيءٍ أصبح واضحًا أمامه … بشكلٍ مختلفٍ تمامًا عن الأمس.»
وبعد أن تنتهيَ من قراءة «أوجستينو» أو «لوكا» لمورافيا، تحسُّ أنك انتهيت من قراءةٍ دسمةٍ في علم التربية. حتى إن المشاهد الجنسية في القصَّة ترتفع إلى مستوى الضرورة. ورغم ذلك فلن تلقاك جملة تقريرية واحدة في أيٍّ من قصص مورافيا. وهنا ينبغي أن نتوقَّف قليلًا. فالمفهوم الشائع — أو الخطيئة الشائعة — عن ربط النماذج الإنسانية في العمل الفني بالأرض الاجتماعية التي أنبتتهم، هو أنه على الفنان أن يقدِّم لنا بحثًا في الاقتصاد أو الاجتماع أو الفلسفة، وكان أعداء النظرة العلمية الموضوعية للفن، يتذرَّعون بهذا المعنى؛ ليرموا دعاة هذه النظرة، بأنهم يغفلون العنصر الجمالي في العمل الأدبي، والرد البسيط على هذه الدعوى أن أصحاب النظرة الموضوعية في الفن يرون هذه القضية من زاويتين:
-
الأولى: هي أنه لا يمكن القول بأن أديبًا ما أجاد البناء الفني على حساب المحتوى الإنساني، كما أنه لا يمكن القول بعكس هذا الكلام؛ فالبناء ومحتواه يشكلان وحدةً متكاملة، إذا أهمل الفنان واحدًا فقط من عناصرها انعكس ذلك — بصورةٍ مباشرةٍ — على بقية العناصر.
-
النقطة الثانية أنه من السذاجة أن يطلب الناقد من العمل الفني بحثًا اجتماعيًّا، حتى ترتبط النماذج وانفعالاتها ومشاعرها، بعد أن تجسَّدت فيها هذه «الجذور الاجتماعية» دون أن نراها. وفي حدود هذا المعنى فقط يكتسب العمل الأدبي معنى الفن. ومن هنا يكون العرض أشق بكثير من البحث العلمي المباشر، وإن كان كلاهما يحاولان الكشف عن الحقيقة (أي إنهما يختلفان اختلافًا نوعيًّا في طريقة تناولهما لموضوعٍ ما. فالمباشرة في البحث العلمي تميزه بيسير التناول. بينما العمل الفني يعتمد على الأسلوب غير المباشر).
وهكذا يرسم لنا ألبرتو مورافيا في قصته «فتاة من الأقاليم» معالم حياة الطبقة الوسطى في المدن الصغيرة. فأحلام هذه الطبقة تتجسد في رأس الفتاة «جيما» وتلح عليها مطارق الطموح بأن ترتميَ في أحضان أول عشيق. ومن خلال تشابك العلاقات المعقدة في هذا المجتمع بين الزوجة والعشيق والزوج، وهمزة الوصل بين كل ذكر وأنثى … من وسط هذا المجتمع المعقد يبرز المعنى المخدر للجنس. ﻓ «جيما» لا يعنيها أن يحرز زوجها نجاحاتٍ باهرةً بين جدران المعمل، وإنما يعنيها في الكثير أن تحملها ذراعا العشيق، إلى روما المدينة اللامعة بالأحلام.
والكاتب النمسوي ستيفان زفايج في قصته، يحكي قصة رجل قامر بحياته كلها على موائد «مونت كارلو»، وامرأة قامرت بجسدها على فراش هذا الرجل. وما يريد أن يقوله زفايج هو أن الضياع النفسي صورة جزئية للضياع الاجتماعي الذي يعانيه البشر. والمقامرة على المائدة أو على الفراش، هي أعلى مراحل المأساة. إن العلاقة التي قامَت بين الأرملة والشاب خلال أربع وعشرين ساعة؛ كانت بدايتها «مقامرة» من الرجل على إحدى موائد الكازينو، ونهايتها مقامرة من المرأة على أحد أسرَّة فندق مجهول … إنهما يشتركان في محنةٍ واحدةٍ يعبِّران عنها بصورتَين مختلفتَين، ثم يسارعان بالالتقاء الحميم على الفراش. واللحظة الجنسية التي خلقت هذا الالتقاء ما هي إلا تجسيدٌ رائعٌ للحظة الحضارية نفسها التي يعيشانها. ومعنى المقامرة الذي رافق تلك اللحظة البدنية الخاطفة، هو مدلول مرحلة تاريخية كاملة، يعانيها البشر في جزء من العالم.
•••
بلغت هذه اللحظة التعيسة ذروتها فوق قمَّة طور حضاري، وقف عليها فلاديمير نابوكوف — الروسي المولد الأمريكي الموطن — وصاح بأعلى صوته: «هذه روايتي «لوليتا» حضارة اليوم» وكانت بالفعل امتدادًا حضاريًّا للنظرة السلبية التي تبلورت في أتون الحرب، بل يمكن اعتبارها إلى حدٍّ كبيرٍ من الملامح الحادة في أدب الحرب الباردة.
ولنتتبع مثلًا، أماني بطل الرواية. إنه يقرِّر في البداية «كنت أحلم بأن أكون جاسوسًا مرموقًا»، ثم يصف مشاعره على أثر صداقته لفتاة صغيرة «إن شبقي الشديد إلى تلك الطفلة، كان أول شاهدٍ على فرديتي الانعزالية المنطوية.» ثم يهدينا شريحةً حيةً لأحاسيسه نحو الفتاة «… ولم أحقد على الطبيعة، إلا لسببٍ يتيم هو أنني لا أستطيع أن أقلب باطن لوليتا إلى ظاهرها كي أقبل أحشاءها بشفتي النهمتَين.»
لقد نجح نابوكوف في أن يوقظنا على معنًى جديدٍ للعلاقة الجنسية؛ فالانحراف النفسي الشاذ الذي يجمع بين رجلٍ في الأربعين وطفلةٍ في الثانية عشرة على فراش واحد؛ وليدُ انحرافٍ حاد في الهيكل الاجتماعي الذي تمارس هذه العلاقة في محرابه. نجحت لوليتا في إعطائنا هذه الدلالة، لا كما نستخلصها من عملٍ فني، وإنما نستوعبها من مذكرات مجنون أو منتحر.
(٣) أزمة الجنس في القصة العربية
هذه، إذن، هي التَّرِكة التي ورثها مجتمعنا على مدى الأجيال. ويبدو واضحًا أن كافة العادات والتقاليد المعاصرة هي امتدادات طبيعية لما اشتمل عليه مجتمعنا — فيما مضى — من مقومات. فما يزال الطلاق وتعدُّد الزوجات، وما يتبعها من علاقاتٍ كالزنا والبغاء. بل إن هذه جميعًا بلغت من السطوة والرسوخ حدًّا ألغى معه قوة القانون. فبينما يغلق القانون المصري بيوت البغاء منذ عام ١٩٤٩م نجد أن هذه البيوت ازدادت عددًا، وتنوعت أشكالها، فنلحظ انتشارًا مذهلًا لبائعي الصور العارية وكتب الجنس الفاضحة. وما من مراهق إلا ويتساءل بشغف عن «رجوع الشيخ إلى صباه» أو «مذكرات إيفا» أو «كازانوفا» وغيرها من القصص الرخيص الذي يملأ الأسواق باسم الأدب والفن، وهما منه براء، ولكنها ظاهرةٌ خطرةٌ أثبتتها الرسالات العلمية التي تقدَّم بها أساتذة وطلاب الجامعة الذين تناولوا بالدرس الدقيق ملامح هذه الأزمة، وانتهت دراساتهم إلى نتيجة هامة جديرة بالتأمل. فقد تأكد لديهم أن تاريخ المجتمعات العربية — في خط سيره الطويل — لم يفُز بفتراتٍ من الاستقرار التام. وما يغلب بالفعل على شكل تطوره هو اجتيازه عدَّة مراحل متلاحقة من نقاط التحول والانتقال. وتتميَّز نقطة التحول غالبًا بالحدة، فلا يجدي معها الحسم إذا تعرضت للدراسة والمناقشة على أن ذلك لا يعني مطلقًا أننا لا نستطيع تحديد معاني حياتنا ومفاهيمها ضمن هذا الإطار الاجتماعي المتقلقل. إذ مجرد حصولنا على صورةٍ صادقةٍ لهذا الإطار يعني في اللحظة نفسها على ما تتضمنه هذه الصورة من معانٍ ومفاهيم.
ورغم أن الخطوط العريضة في لوحة المجتمعات العربية متشابهة، إلا أن التفاصيل الصغيرة قد تكسب الواحد منها صفات ذاتية يختلف بها عن الآخر. فلو بحثنا عن السمة الغالبة على الأدب اللبناني، لاكتشفنا أنها ليست تمامًا هي السمة الغالبة على الأدب المصري، رغم القرابة التاريخية التي تربط المجتمعَين؛ وبالتالي الأدبَين. ولنتبيَّن هذه الفروق من خلال عرضنا لبعض النماذج من هنا ومن هناك.
كذلك نجد للمرأة الأجنبية في القصص اللبناني نصيبًا موفورًا، قلَّ أن تحظى به آداب المجتمعات العربية الأخرى. فالأستاذ عواد يعالج موضوع الحب المراهق في قصةٍ بعنوان «الشاعر» وهي قصة طالب يقع في حب امرأة إيطالية تنزل بفندق أبيه. كما نرى قصة «الإعدام» لخليل تقي الدين، حيث يهوى شاب في العشرين من عمره راقصة إسبانية تعمل في إحدى ملاهي بيروت. هذه هي الموضوعات التي تقدِّم لنا «مشكلة الجنس» كما عرفها المجتمع العربي في لبنان. وكما عبرت عنها قصص أدبائه في ذلك الوقت.
وعلى هذا النحو تمضي صفحات القصة، فلا نعثر على موقفٍ جنسي صريح؛ لأن العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع لم تكن نفسها صريحة. وما نلاحظه في الرواية من أحاديث «عن» الجنس، تكتسي بثوبٍ فضفاضٍ من الحياء والتخفي، فلأن نظرة العصر والمجتمع إلى هذا الموضوع، كانت هي بعينها نظرته إلى سائر الأشياء؛ نظرة ضبابية غائمة تحيل كافة المرئيات والعلاقات إلى ألوانٍ باهتةٍ غير واضحة.
-
يُحكى أن: موظف أبله يتزوج من فتاة داعرة لها عاشق.
-
حديث القرية: فلاح يقتل زوجته وعشيقها.
-
الفخ: قواد يتظاهر بأنه من الأعيان، وأنه فقد وعيه من الخمر، ويجر ضحاياه إلى داره وهي ماخور.
-
الكهلة المزهوة: امرأة عجوز أرمل تتزوَّج من نصاب يبدِّد أموالها.
لا شك أننا نلحظ أن «القضية» أصبحَت واضحةً أكثر من ذي قبل، بعد أن تحوَّلت المشكلة إلى مرحلةٍ أكثر تعقيدًا. فالعلاقة بين الرجل والمرأة تشكِّل موضوعًا أساسيًّا في المجموعة. فإذا عرضنا الآن — بشيءٍ من الإسهاب — لإحدى القصص، سوف ندرك إلى أي مدًى أسهم القالب الفني الجديد في إيضاح القضية.
ولتكن قصتنا هي «حديث القرية» وفيها يُدْعَى الراوي لزيارة إحدى القرى مع صديقٍ له. وهناك يلتقي مع الفلاحين وبؤسهم، فيحاول أن يبذر في نفوسهم بذور التمرد على واقعهم المر، غير أن المأذون — الأب الروحي للفلاحين ومشكلاتهم — يستهين بمحاولات الراوي، ويبدأ في سرد حكاية «عبد السميع» الإسكافي الذي «لم يرضَ بما قسمه الله له وأراد أن يرفع نفسه درجة لم تُكتب له في الأزل» فاشتغل حاجبًا خصوصيًّا لأحد الموظفين بالمركز. وكان هذا الموظف أعزب «باع الآخرة بالدنيا» فاستدرج زوجة عبد السميع — وكانت رائعة الجمال رغم فقرها — وعملت عنده خادمًا، إلى أن كانت إحدى الليالي حين أمر الموظف حاجبه أن يذهب إلى عمدة القرية برسالة، وأن يعود بالرد في الصباح، «سار عبد السميع على جسر السكة الحديدية يفكر في حاله والشك يملأ قلبه، وكان القمر يضيء له الطريق. فأبصر بين القضبان قطعةً من الحديد بطول الذراع، فتملكته الرغبة أن يعود للدار، وهو يؤكد فيما بعد أنه حاوَل التغلُّب على هذه الرغبة فلم يستطع، كأن قوة خفية كانت تجره إلى الوراء. وأخيرًا عاد وفاجأ العاشقين، فرأى سيده «في مكان الزوجية من امرأته». ضج السامعون بالتأفف والاشمئزاز ولجئوا إلى الله بطلباتٍ لا تُحصى. «أهوى عبد السميع بقطعة الحديد على رأسَيهما فماتا فورًا.» يعبِّر السامعون عند هذا القول عن تحبيذهم واستحسانهم. «ولم يكتفِ عبد السميع بذلك، بل ظلَّ يضربهما حتى تناثر المخ من رأسَيهما، والتصق بعضه بالجدار.» وهنا تنبعث من سامعيه أصوات استحسان واشمئزازٍ في وقتٍ واحد.»
في هذه القصة يحيط لاشين بجملة الظروف الصانعة للمأساة، فيبرز «الفقر» كعنصرٍ حاسمٍ في تمزُّق الفلاحين اجتماعيًّا، فهم ينقادون ببساطة لا واعية وراء المأذون. والمأذون يحمل في جيوبه مخدرًا شديد الوطأة على نفوسهم؛ هو مجموعة من قصص الفضائح، لكنه يتخير الفضائح من نوعٍ خاص يؤثر على هذه النفوس فلا تكاد إحداها تخرج عن نطاق «الجريمة والجنس». بل لعل الجنس هو ما يقصد إليه مباشرة، وما الجريمة إلا إحدى نتائجه. ويكشف المأذون — بغير وعي — عن جراح الفلاح الغائرة في وجدانه. الفلاحون يتأوهون في أعماقهم من الفقر، أما «الخطيئة» فهي أكبر وأقوى من «الحياة»؛ لذلك فإن معنًى خاصًّا للشرف تحدِّده هذه الحياة؛ إنه هذا الشعور النائم في خلايا دمائهم تحرِّكه أقل هزةٍ من الخارج، من السطح. إن الفلاحين يشتعلون بالغضب الرهيب عند سماعهم نبأ اغتصاب زوجة عبد السميع، وتبدأ أعصابهم في الارتخاء مع ضربات قطعة الحديد فوق رأسها ورأس عشيقها. على أن استغراقهم التام في القصة وتجاوبهم الشديد مع أحداثها يؤكد أن هزة «السطح» هذه ليست من الخارج. إنها صدًى صريح لدوامةٍ تشمل كيانهم، أو هي همزة الوصل بين هذه الأزمة وظروفهم المحيطة بهم. أما الفنان فيصور المأساة في قالبٍ حيٍّ يوائم — إلى حدٍّ ما — المضمون الاجتماعي الذي يقدمه. فهو يتوخى — في الدرجة الأولى — تسجيل الانعكاسات النفسية في صدور الفلاحين، إزاء تفاصيل القصة. ولا يجنح إلى إبراز المعنى الجنسي في صورته الفوتوغرافية. بل يكتفي بأن يقول عن الزوج «رأى سيده في مكان الزوجية من امرأته» ملخصًا بذلك موقفًا كاملًا، استعاض عن رؤيته الجامدة بتحليل مقدماته وأسبابه ونتائجه، مرحبًا بما يعتمل في جوانح هذه الفئة من الناس من إرادةٍ في «الستر». وها نحن نفرق بين «زينب» و«حديث القرية» ثانية فنقول إن الفلاح في قصة لاشين كان أكثر تسامحًا واضطرارًا لمواجهة مشكلاته وعلاقاته، حتى ولو كان من بينها العلاقة الجنسية. كذلك لا نرى شبيهًا ﻟ «حامد» الثري المستسلم. بل نواجه الطبقة المتوسطة ممثلة في معاون الإدارة الموظف بالمركز. وهكذا تتعدد مستويات الأقصوصة وتتنوع مناسيبها، رغم أن «القرية» هي الأرض المشتركة بين هيكل ولاشين.
الملاحظة الأولى أن «القرية» هي مهد التجربة الفنية في القصص الثلاث. وإن كانت دلالة الجنس تتطوَّر من واحدةٍ لأخرى، فلأن المجتمع أيضًا كان يتطور؛ لذا نرى الشاب الثري في قصة عبيد، لا يتوقف عند أعقاب الرومانسية في فهم العلاقة الجنسية، وإنما يتجاوزها إلى ما تورط فيه مع الفلاحة الفقيرة. والفلاحة هنا تختلف مع «زينب» التي لم تلقِ بالًا للشاب الغني، وأحبت «إبراهيم» رئيس العمال. الفلاحة في قصة عبيد يستهويها الشاب الثري — فيتخلص الكاتب بذلك من مثالية زينب غير المبررة فنيًّا أو اجتماعيًّا — ثم تستسلم له معلنةً بذلك مفهومها في الحب الذي يحمله الثراء والغنى إلى الفراش.
ونعود إلى الملاحظة الأولى حيث «القرية» موضوع أساسي للأدباء بصفةٍ عامة، وموضوع خصب للجنس بصفةٍ خاصة. ولسنا نجد تغييرًا مقبولًا للعناية المفرطة بالريف — آنذاك — إلَّا بأن المدينة — بشكلها الحضاري الجديد — لم تكن حفرت في وجدان الأدباء إحساسًا عميقًا بمشكلاتها وقضاياها. ذلك أن التكوين الصناعي كان في خطواته الأولى المتعثرة، قبلما يصبح تكوينًا متكاملًا يُدعى المدنية.
والسؤال هو: لو أن المشكلة اقتصرَت على هذه الصورة، لَما كانت هناك مشكلةٌ على الإطلاق. فكيف يمكن إقناعنا بأن «سيدة» تعيش في كنف زوج ناجح يُتيح لها حياةً طالما تمنتها، ولا يكشف لنا الفنان عيبًا أو نقصًا واحدًا يمكن أن نأخذه على الزوج، ويمكن بدَوره أن يمهِّد لهذه العلاقة مع الرجل الآخر. ثم لا نكتشف في الرجل الآخر ما يميزه عن سائر الرجال، اللهم كونه نجمًا لامعًا؟ على أنَّ هذا لا يمنطق الأحداث إذا علمنا أن ما ينقص المرأة ليس هو الشهوة. ورغم هذا كله أقول إن ما ذكره توفيق الحكيم في «الرباط المقدس» شيء ممكن الحدوث، فلو تجاوز «خارج» الظاهرة إلى «داخلها»؛ أي لو أنه تعمق الأزمة من باطنها، لتكشَّفَت له المسببات الحقيقية لها، ولاستطعنا أن نقتنع بها وجدانيًّا، دون الحاجة إلى عرض قطاعٍ مسطحٍ لإحدى زواياها كما فعل الحكيم. إن منهجه في التعبير — الذي اضطره إلى سرد المشهد الجنسي في لحظته الميكانيكية — هو تطبيق لمنهجه في التفكير الذي أوقفه عند المظهر دون الجوهر إلى حدٍّ بعيد. وما جعل منه شيئًا غريبًا هو هذه الوقفة السطحية من الفنان.
•••
غير أن هذه القصة، كما قلت، كانت بمثابة نقطة البداية عند أدبائنا، للإحساس بالمدينة إحساسًا حضاريًّا يتمثَّل أزماتها ومشكلاتها ومآسيها على نحوٍ يُغاير أحاسيسهم الريفية. ولربما قيل: كيف لأديبٍ لم يَرَ القرية طيلة حياته، أن يعبِّر عن المدينة — التي عاش فيها — تعبيرًا قرويًّا؟ وأجيب بأن «المدينة» ليست هي العاصمة أو المحافظة، وإنما هي درجةٌ حضاريةٌ تعلن حركة التقدم؛ لذلك نقول إن العلاقات الإقطاعية التي خيمت على مجتمعنا أمدًا من الزمن، خلقت فينا بالضرورة وجدانًا زراعيًّا. ثم أقبلت التطورات الاجتماعية في بلادنا، وأقبلت معها الأحاسيس الجديدة التي بلورت عواطفنا ووعينا في قوالب حضاريةٍ جديدة. وتمكَّن الأديب من التعبير عن القرية — لا المدينة فحسب — تعبيرًا متقدمًا في أسلوبه الفكري والفني على السواء. ذلك أن الطور الصناعي الوليد في بلادنا، تولَّدت عنه علاقاتٌ معقدةٌ في مجتمعنا، تبعًا لاختلاف مستوياته الاجتماعية وتشابكها، وانعكاسها على حياته النفسية. ولهذا السبب بعينه كانت العلاقة الجنسية هي «المحك» المباشر لهذا التطوُّر في شتى معانيها وقيمها ودلالتها.
ولقد عثرت القصة العربية في أدبائنا المعاصرين على محاولاتٍ دائبةٍ مثابرةٍ للتعرُّف على هذه المعاني والقيم والدلالات.