خاتمة
ليست أزمة الجنس في القصة العربية الحديثة — كما عرضنا لها في الفصول السابقة — وليدة لنظريات في الفلسفة أو الحضارة. ذلك أنَّ الحركة الفكرية المعاصرة في بلادنا، لم تُنبت بعدُ اتجاهاتٍ فلسفيةً أو حضارية يمكن لها أن تؤسِّس نظرة للجنس أو الحياة؛ إذ نحن ما نزال نرتبط بأوروبا وفلسفاتها وحضارتها، بأكثر من وشيجة واتصال.
على أنَّ ارتباطنا الحضاري بأوروبا لم يعُد تقليدًا أو احتكاكًا ميكانيكيًّا، وإنما هو يتجاوز هذه الخطوة القديمة إلى معنى التفاعل الحي بين كافة المستويات التي بلغتها الحضارة الإنسانية ككل.
فإذا كان الأدب الأوروبي يصوِّر الجنس في إطار نظري يسمو به إلى مستوى الرمز، وأدبنا العربي ما يزال في تعبيره عن هذه الظاهرة يقتصر على دلالتها الاجتماعية أو النفسية … فإننا نعلم أنَّ المسافة الموضوعية بين التكوين الحضاري للفنان العربي وزميله الأوروبي هي المرآة الصادقة لمعنى تطورنا.
ولقد تفاوتت قيمة التطوُّر في أدبنا «الجنسي» من كاتب إلى آخَر … فبينما يعتمد نجيب محفوظ من زاوية رئيسية على تصوير الجنس كظاهرة اجتماعية، ويشاركه في هذه النظرة يوسف إدريس … نلحظ كلَيْهما يختلف عن الآخَر في المنهج الفكري والتعبيري معًا. فنجيب محفوظ لا يعنيه مطلقًا أن يصل بطريقة «رياضية» إلى الإنسان؛ خَيِّر بطبيعته أو شرير. وإنما يوجِّه اهتمامه كاملًا إلى الْتِقاط كافة العلاقات المتشابكة المعقَّدة ليومئ لنا في النهاية بمأساة الجنس انعكاسًا لمأساة المجتمع. أما يوسف إدريس فيعمد إلى إبراز قطبَي الأخلاق البشرية — الخير والشر — ويدير عدسته الميكروسكوبية إلى الجزئيات الدقيقة التي تنتهي في الأغلب بتعميمات تجريدية مطلقة.
•••
ومن السمات الدالَّة على نزعتنا إلى التحرُّر من تقليد أوروبا تقليدًا ميكانيكيًّا، ما نشهده في القصة التي اخترتها من بين أعمال سهيل إدريس للدراسة والبحث، فقد صورت لنا اللقاء بيننا وبين الحضارة الأوروبية من خلال أزمة الجنس، فكان لقاءً حيًّا أصيلًا يتَّسم بالعديد من مظاهر تطوُّرنا في تلك المرحلة. وقد كانت «الحي اللاتيني» بمثابة النقيض المقابل لقصة عبد الحميد السحار «جسر الشيطان» التي صاغ فيها المؤلف الإنسان العربي كردِّ فعلٍ مذعور أمام الحضارة الأوروبية الصاخبة.
ونكتشف في أدبنا كذلك نزعتَين طيبتَين؛ هما: اقتران الجنس بمسألة المصير في أدب محمود البدوي، ومحاولة الكشف عن العناصر المتحدية لعناصر الجنس في أدب يحيى حقي … وبالرغم من أن الأدب الأوروبي يزخر بمثل هذه المعاني، إلا أن تعمُّق أدبنا في صميم حياتنا الحقيقية، لم يَدَع لأوروبا أن تترك بصماتها على هذا الأدب.
وحقًّا يؤسفنا للغاية أن نرى كاتبًا متخصصًا في الأدب الجنسي مثل إحسان عبد القدوس، يتحول بموضوعات الجنس إلى مجموعة من المسائل الثانوية التافهة، بينما يركز عليها في مجال التصوير، حتى يصبح أدبه بانوراما هائلة للعلاقة الجنسية بين البشر، في لحظتها الميكانيكية، وقشرتها الخارجية فحسب … وحقًّا تنحرف بعض الكاتبات العربيات عن التجربة الإنسانية العميقة التي تخصَّصنَ في علاجها، ينحرفن عن هذه التجربة إلى الْتِقاط بضع جزئيات عديمة الجدوى الفكرية والقيمة الفنية على السواء.
إلا أنَّ ذلك كله لا يدمغ أدبنا — ككل — بالتفاهة … فنحن ما زلنا — في المستويين الفكري والفني — في مرحلة متخلفة حضاريًّا، ومن الطبيعي أن تكون فنوننا — بهذا المقياس — متخلفة بالضرورة. على أن هذا التخلُّف — في المستوى الاجتماعي — بدأ يتقهقر بمعدل معقول. ومطلوب من أدبائنا إذَن، اللحاق بالركب المتقدم.
ولقد نوقشت أزمة الجنس في إنتاجنا القصصي على أنها أزمة اجتماعية ونفسية؛ أي أزمة حضارية. والحق أنَّ هذا الإنتاج بعينه يتضمَّن في بنائه ومحتواه أزمة حقيقية في الفكرة والتعبير.
فما تزال عيوننا قاصرة على رؤية الأبعاد المختلفة لقضية الجنس … لا كتعبير عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وإنما كتجسيد جوهري للكثير من معاني حياتنا، وفي مقدَّمتها معنى الحرية.
وأعتقد أنني من خلال متابعتي لهذه القضية في الإنتاج الحديث (وبعضه لم يُطرح للبحث في هذه الدراسة) … أعتقد أنني أستطيع أن أحدِّد ملامح أدب المستقبل في معالجته لأزمة الجنس على النحو التالي:
-
(١)
لن تكون المشكلة هي معنى الجنس في حياتنا، وإنما هي علاقة هذا العنصر ببقية عناصر الحياة (وبوادر هذه الظاهرة تبدو واضحةً في أدب يحيى حقي) … وسوف يستلزم ذلك استحداث مناهج جديدة للتعبير، لم توفَّق الأعمال المعاصرة إلى الآن في استحداثها.
-
(٢)
لن نرى موضوعًا يُدعى «أزمة الجنس» بالفهم التقليدي، وإنما ستتبلور هذه الأزمة من خلال أزمة الإنسان الحديث بوجهَيها: الاجتماعي والوجودي (والأعمال المبكرة لمحمود البدوي، هي الجذور الواقعية لهذه الوجهة، وهناك بعض الأعمال المعاصرة لكتَّاب وكاتبات من جيل الشباب، تتبنى هذه الجذور).
-
(٣)
سوف يؤثِّر التطوُّر الاجتماعي في حياتنا تأثيرًا مباشرًا، ومن ثَم لا بد أن يتطوَّر تفكيرنا الفني بحيث يلحق بالمشكلات الوافدة مع المجتمع الجديد … ومن هنا أعتقد جازمًا أن ثمَّة تغيرات حاسمة ستطرأ على مفهوماتنا لأزمة الجنس والتعبير عنها، للدرجة التي لا يمكن معها لأي ناقد أو باحث أن يتنبَّأ بأبعادها.
على أن هذا لا يعفينا من القول في خاتمة المطاف إن على القصة العربية أن ترتفع إلى مستوى مسئولياتها، فتنهض بعبء التفكير والتقييم والتوجيه لحياتنا الجديدة، بما يكفل لنا في جولة أخرى مع أدبنا القصصي، أن نُحيي مشاركته الفعَّالة في إثراء تجاربنا وإغناء وجداننا الإنساني.