معنى الجنس عند نجيب محفوظ
إذا كان الجنس — وسيظل — محورًا للآداب والفنون، فإن الأدباء يختلفون من حيث درجة احتفائهم به. فبينما يتخصَّص له بعضهم تخصصًا تامًّا، نلحظ آخرين يولون الحياة بكاملها جل اهتمامهم وعنايتهم، بما تشتمل عليه من زوايا تتضمن تلقائيًّا هذه العلاقة أو تلك.
والفنان نجيب محفوظ أحد هؤلاء الذين لم يتخصَّصوا في موضوعٍ بعينه، وإنما أولوا الحياة العريضة اهتمامهم الأول؛ ومن ثم تجيء كافة العلاقات التي يعرض لها ضمن هذا الإطار الشامل لقطاعاتٍ مختلفةٍ في وقتٍ واحد. وعندما نتقصَّى بالدراسة واحدًا من الموضوعات التي حفلت بها أعمال هذا الفنان، ينبغي ألَّا نعير زمن صدور تلك الأعمال أي التفات، إلا في حدود تتبعنا لتطوره الفني والفلسفي. أما إذا توخينا الدقة في تفهُّم ظاهرةٍ ما طرقها المؤلف بالتعبير، فإن ما يعنينا حقًّا — وفي الدرجة الأولى — هو الزمن الروائي.
لذلك نضع «القاهرة الجديدة» مع «بداية ونهاية» في صفٍّ واحد؛ لأنهما يعبِّران عن مرحلةٍ تاريخيةٍ مشتركة هي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية. (رغم أن الرواية الأولى صدرت عام ١٩٤٥م والثانية عام ١٩٤٩م، وبينهما ظهرت للمؤلف ثلاثة أعمال أخرى.) ثم نضع «خان الخليلي» مع «زقاق المدق» في صفٍّ جديد؛ لأنهما أيضًا يعبران عن مرحلةٍ واحدةٍ خلال سنوات الحرب الثانية. (والأولى صدرت عام ١٩٤٦م والثانية في العام الذي يليه.) وتأتي ثلاثية «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية» حيث تسجل الفترة الطويلة ما بين أواخر الحرب الأولى وأواخر الحرب الثانية (وقد صدرت في عامَي ١٩٥٦ و١٩٥٧م على التوالي.) أما رواية «السراب» — وقد ظهرت عام ١٩٤٨م — فإنها ليسَت محددةً بعامل الزمن، فلم تدلنا أحداثها على إطارها التاريخي. ولعل هذه القصة هي العمل الوحيد للكاتب الذي خرج فيه عن خريطته الفنية، فنلمح تخصصًا كاملًا لموضوعٍ معينٍ في الرواية لا يمتُّ بصلة قرابة إلى منهج نجيب محفوظ.
١
و«السراب» تحكي قصة شابٍّ تربَّى في أحضان أمه بعيدًا عن أبيه، فينشأ خجولًا عازفًا عن الحياة الاجتماعية لدرجة المرض. حتى إذا تزوج فوجئ بعجزه عن القيام بواجب الزوجية، فتزداد عقدته تضخمًا، وتنمو في باطنه مركبات النقص إلى أن تسد في وجهه بابًا مظلمًا، لكنه لا يلبث أن يفيق من كابوسه الأسود، حين تنتشله من الطريق امرأة أرمل يذهله قدرتها على إرضائه جنسيًّا بغير إحساسٍ بالعجز أو شعور بالنقص. وتمزقه هذه الازدواجية الحادة في حياته الجنسية فيتسرب إليه الشك في سلوك زوجته، ثم يقطعه باليقين عندما تموت على يدَي عشيقها الطبيب. وما إن يستسلم على فراشه للخواطر السود، حتى يشرق عليه نور الأمل مع زيارة المرأة التي وهبت وحدها القدرة على مسح العجز وتكملة النقص.
ولعل الصعوبة الأولى التي واجهَت الكاتب في هذه الرواية، أنه لجأ إلى ضمير المتكلم، وإن كانت الضرورة — فيما أرى — هي التي اضطرته إلى ذلك. فيتمكن النموذج والفنان معًا من رؤية الأحداث في مجرى اللاشعور، ويستطيع أن يصلَ بينها وبين الوعي شريان حيٌّ من تجاربه الذاتية، خاصةً وأن التجربة الفنية في مجال التشريح السيكولوجي بحاجةٍ دائمًا للاستعانة بدقائق التكوين الذاتي للشخصية، فتصبح الأحداث بمثابة الضوء الذي يكشف جوانب هذا التكوين. والدلالة الإنسانية في مثل هذا العمل نستخلصها من الظروف الموضوعية الخالقة للنموذج.
فإذا تناولنا «السراب» بالتحليل، نلمس في البداية أن الهيكل الروائي كان ثوبًا فضفاضًا لفكرةٍ متناهية الصغر. وربما استحقَّت الفكرة الصغيرة بناءً روائيًّا كبيرًا، لو أنها اشتملت على ظاهرة عميقة الدلالة كبيرة الجوهر. فإذا بحثنا في النهاية عن الهدف الذي قصد إليه كاتب «السراب» لما ترددنا في القول بأن «التربية الأولى السيئة» هي جرثومة الفشل التي بالنفاذ إلى صميم انحرافها حتى نقتنع بما صادفه الشاب من شذوذ. بل هددت الشاب طيلة حياته. ولم يعرض الفنان لجوانب هذه «التربية». إن أكثر من تساؤل يثب إلى أذهاننا بعد التعرُّف على هذا الشذوذ:
-
هل يمكن اعتباره وجهًا معينًا — خافيًا — للمجتمع ذلك الحين؟ إن المؤلف لا يقدِّم لنا نموذجه مرتبطًا بمرحلةٍ تاريخيةٍ معينةٍ؛ وبالتالي لم يُبيِّن التفاصيل الحضارية لهذه المرحلة التي أسهمت في تكوين النموذج (رغم كثرة التفاصيل في الرواية).
-
كذلك فالمؤلف لا يرسم الشذوذ على أنه القاعدة أو الاستثناء في حياة المجتمع، وإنما لكونه «شيئًا غريبًا للغاية» استهوى حاسته الفنية … وكان يمكن ببساطةٍ أن نتقبَّل هذا التعليل، لو أن الفنان توغَّل في تشريح الجذور النفسية والاجتماعية للنموذج.
-
ما قام به الكاتب هو أنه جعل من البيئة المحيطة بالنموذج «وعاءً زجاجيًّا» يتشكَّل ما بداخله تشكُّلًا حادًّا حاسمًا، فاعتمد بصورةٍ مطلقةٍ على القشرة الخارجية لظروف البيئة؛ كي تؤدي بطريقة حتمية تلقائية إلى هذا اللون من الشذوذ؛ ولذا جاءت «التربية السيئة» بما تحتويه من تدليل الأم وافتقاد رعاية الأب، مضمونًا سطحيًّا ينزوي في ركن ضئيل من البناء الفني الفضفاض، الذي آثره المؤلف بتفاصيل مرهفة لا تتصل بجوهر المأساة من الداخل.
ما يميز قصة نجيب محفوظ هو تقديمه الحدث النموذجي في صورة موحية، بغير حاجةٍ إلى تكرارها — كما يحدث في الحياة — فلا ينزلق إلى مستوًى رخيصٍ يتعمد ذووه الإفاضة والتكرار بغية الإثارة السطحية. ولا ريب أن الصورة النمطية المعمقة للحدث تتطلب مهارة فنية فذة، بينما الصورة الهامشية السريعة المكررة لا تستوجب قدرة فنية أو ذكاءً خاصًّا. وهكذا تضيف الصورة الأولى إلى وجداننا ثراءً جديدًا، فتظل ماثلةً في كياننا تحقق هدف الكاتب بصفة دائمة من فيض حيويتها الدافق، بينما الصورة الثانية مجرد عابر سبيل.
نَجيب — إذن — يلجأ إلى «الصورة النمطية» للحدث، فما إنْ تستولي على بطل «السراب» الرغبة في أن يرى نفسه أمام مرآة جديدة، حتى يشرب الكأس قائلًا للحوذي بصوت مرتفع: إلى بؤرة الفساد!
وتحركت العربة، وسرعان ما ارتحت إلى سيرها الواني، وجعلت أنظر إلى الطريق في لذة وبهجة، حتى وددت أن يطول السير إلى غير نهاية، وأدركت أني مقبلٌ على تجربةٍ جديدةٍ لا تقلُّ خطورة عن الأخرى، فساورني بعض القلق ثم غلبتني اللهفة. ووقفت العربة في شارع معربد، ولوَّح الحوذي بسوطه وهو يقول ضاحكًا: هنا الفساد الأصلي.
وسألته بعد تردد: ألديك فكرة عن الأسعار؟ فقال مقهقهًا:
يكتفي الفنان بهذه اللقطة بعد أن شحن كل لفظةٍ بدلالتها الخاصة. ثم نرى الأحداث الدائرة في المكان من خلال الشخصية، حيث عاودته الأزمة في انعكاسها الحاد، ولم يرَ بأسًا من الهرب في الوقت المناسب: لقد أحس بالاشمئزاز والقرف من النساء العرايا، فترك طربوشه وهرول إلى الخارج. ثم يهيئ له الكاتب فرصةً أخرى محاولًا اكتشاف هذه (الذات) الغريبة فيلقى في طريقه امرأة تصحبه ذات مساء في عربتها الخاصة، إلى أن يخلوَ بهما الطريق في مكان شاعري جميل: «واستدارَت في جلستها حتى مس منكبها المسند، وثنت ساقها اليمنى تحت فخذها اليسرى، فصرنا وجهًا لوجه، وانبرى لي صدرها العاري ينحسر عن عنق الفستان، ومال وجهي نحو صدرها فتوسده في حنان وذهول، وأسكرتني رائحة جسم آدمي أشهى من العرق الزكي. وسكنت إليه ما طاب لي السكون ويدها تعبث بشعر رأسي. ثم رفعت إليها وجهي والتهمت شفتَيها، والتهمَت شفتي، وكأن كلَينا يأكل صاحبه ويزدرده. وولَّى الخوف إذ لم يعُد له مسوغ! وامتلأتُ حياةً وجنونًا وثقةً لا حد لها. لا أدري كيف واتَتْني الثقة. كانت المرأة سيدة الموقف فوجدت منها المرشد الذي ضللته حياتي كلها. أعادت إليَّ الثقة والطمأنينة لأنها أخلتني عن كل مسئوليةٍ وأخذَتني بالهوادة والرفق. أدركت في تلك اللحظة — أكثر من أي وقتٍ مضى — أن إلقاء أية تبعةٍ عليَّ خليقٌ بأن يفقدني نفسي، وأنني لا أجد هذه النفس المتهافتة إلا بين يدَين ثابتتَين قويتَين. ذابَت الدنيا في نشوةٍ جنونيةٍ ساحرةٍ خرجت منها سكران بخمر الظفر والارتياح العميق. وشعرت من الأعماق برغبةٍ إلى هذه المرأة ليست دون الرغبة في الحياة، بل هي الحياة نفسها والكرامة والرجولة والثقة والسعادة. افترَّ ثغري عن ابتسامة ظفرٍ وسعادة، ورمقتها بنظرة امتنان لم تدرك عمقه وهيهات لها. إني بين يدَيها أتمرَّغ في التراب، ولكنه تراب طيب حنون يجود بالثقة والسعادة. وأدركت أخطاء الحياة الماضية، وذكرت زوجي المحبوبة في حزن وقنوط أوشكا أن يقصفا بعمر الساعة الساحرة، ولم أتردَّد عن تحميلها تعاستي كلها!» (ص٣٠٦).
كانت هذه الفرصة تهيئ لأي كاتبٍ آخر — من هُوَاة القشرة الخارجية — أن يرسم لوحة رائعة لرجلٍ يعيش حياته الجنسية في صحراء، ثم يلتقي فجأةً بينبوع يتفجر أنوثة صارخة مستسلمة! كانت الفرصة متاحة للذين يتغنَّون في تصوير أشعة اللون الأحمر، وعدد فتائل الستائر المسدلة ودرجة القشعريرة والحرارة في الجسد الناعم، ولكن كاتب «السراب» كان يعنيه شيء آخر. كان يعنيه أن «يكتشف» نموذجه البشري، وأن «نشترك» معه في عملية اكتشافه هذه. لذا لم يجهد نفسه في قياس «ضغط» أنفاس الرجل، أو «الموجة» التي ارتفعت إليها تأوهات المرأة. لم يُعَرِّهما من الملابس الداخلية إلَّا بالقدر الذي يفضح له عورات النفس والقلب والروح. وهكذا وضعنا أيدينا على «جوهر» المأساة. لهج لسان الرجل بكلمة انبثقت من بين ضلوعه في غفلة عقله الواعي، وأخذ يردِّد بشكل عفوي: «أعادت لي الثقة والطمأنينة» … الثقة؟ … أجل، فالثقة هي الحلقة المفقودة في حياته كلها. حياته التي جلست على عجلة قيادتها «أم رءوم» تحبه غاية الحب، وتحب أكثر أن «تسحب» منه «الثقة» في نفسه، في ذاته، في كينونته. فلم تكن القضية «أزمة ثقة» بالمعنى الأخلاقي، وإنما بالمعنى الوجودي الحاد: أزمة كينونة مقيدة وذات مغلولة. أما المأساة، فهي أن صاحب الأزمة لم يكن واعيًا بها، كانت آلاف الستائر القائمة مسدلةً على وعيه، فظلَّت مأساته في زاوية خلفية من عقله. كان لا بدَّ أن يسير في خطًى منتظمةٍ إلى القبر … قبر الحياة الساكنة … إلى أن تخبط رأسه مطرقة حادة. فاللحظة العبقرية العظيمة حقًّا هي التي أمسكنا فيها مع نجيب محفوظ هذه المطرقة، فحطمنا شعارًا حديديًّا بين هذا الإنسان وواعيته الخفية. حينئذٍ أصبح «الظفر» الذي أحسَّ به ذا دلالةٍ جديدةٍ تختلف عن الدلالة الحسية التي يمكن استشعارها لأول وهلة. «الظفر» عنده لم يكن بالمرأة. وإنما بوجوده؛ بالحياة. وهنا صرخَت أعماقُه: «امتلأت حياةً وجنونًا وثقة». والثقة لا تنسحب على رجولته بمعناها الجنسي، وإنما تتضمَّن إحساسه بولادته الجديدة؛ ولذا تجسَّدت عظمة الفنان في أنه حين اضطر إلى الغوص في أعماق نماذجه، لم تسنح له الفرصة للتأمل الخارجي بل كان يعطينا ما يمكن تسميته ﺑ «اللقطة الدسمة» التي تستخدم السطح لمجرد الوصول إلى الأعماق.
٢
لا تمتُّ «السراب» كما قلت إلى نهج نجيب محفوظ الذي ساد أعماله كلها. فنحن لم نستخلص مثلًا نظرة المؤلف للجنس من هذه الرواية، ولم نهتدِ إلى نظرة العصر إلى هذا الموضوع؛ لأن أحداثها دارت خارج الزمان. أما مؤلَّفاته الأخرى (التي ظهرَت بين عامَي ١٩٤٦م و١٩٥٧م) فإن منهجها في التفكير يتحدد في رأيي كما يلي:
-
نجيب محفوظ أحد أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة التي بزغت — تبعًا لتطور الرأسمال الوطني في مصر — قُبَيل الثورة الوطنية عام ١٩١٩م؛ لذلك استوطنت هذه الطبقة بين كل تلافيف ذهنه، وتسرَّب كيانها المادي والمعنوي إلى وجدانه، فظلَّت قضاياها إطارًا اجتماعيًّا ثابتًا لجميع مؤلَّفاته.
-
لكنه حين يعبر عن هذه الطبقة فلأنه يريد أن يكون صادقًا قبل كل شيء، وليس لأنه يعتبر «كاتب البرجوازية الصغيرة» كما يظن البعض.٣ إن الموضوعية التي يأخذ بها نجيب لا تطلب إليه أن يتلمَّس أدبه بين العمال أو الطبقة الأرستقراطية — إلا في حدود ارتباطه الاجتماعي بهما — لأن المسافة بينه وبين هذه أو تلك، تبعد به بنفس المقدار عن الموضوعية؛ لذلك يكون أكثر إخلاصًا وصدقًا إذا عبَّر عن البيئة التاريخية التي عاشها بالفعل.
-
هناك فرق بين اثنين يصوِّران طبقةً واحدة؛ أولهما يراها بمنظار عاطفي جامد — كمن يرى عائلته مثلًا — فلا نجد منه إلا «محاميًا» بارعًا. أما الآخر فيبصر المجتمع كله بمنظار آخر يستعين بالحقائق العلمية، فلا يعنيه من طبقته إلا أن يستبصر دورها التاريخي، ويمضي قدمًا مع قوانين العلم. وهذا الفريق أكثر تعمقًا ووعيًا، ويصل دائمًا إلى نتائج صحيحة وإيجابية. ونجيب محفوظ هو الفنان الوحيد من بين أبناء جيله الذي يطوِّر نفسه — بجهد واضح وإخلاص شديد — نحو هذه الغاية.
وأستبيح لنفسي، بعد ذلك، أن أحدِّد منهجه في التعبير على هذا النحو:
-
لا يسترعي اهتمامه موضوع بعينه يلحُّ عليه بصفة غالبة. وإنما هو يتخير قطاعًا إنسانيًّا يتجاذب ما فيه من خيوط معقدة متشابكة، يحاول أن يستشرف لكيانها المعقد المتشابك معنًى أو دلالة.
-
يضطره ذلك لأن يعبأ بكثيرٍ من التفاصيل الدقيقة، وأن يطرق من الموضوعات المتشعبة ما يصل به إلى مفهومٍ عام للمجتمع أو الإنسان. وهكذا يخطئ الكثيرون ممن يدرجونه «على الحافة» بين الاتجاهَين الطبيعي والواقعي.٤ فما يأخذه من «الوراثة» لا يدع منها عاملًا حاسمًا في التطور، وما يجنح إليه من التفاصيل والدقائق الصغيرة لا يستهدف به «الواقع طبق الأصل»، وإنما يضفي عليه دلالات خاصة في حاجةٍ إلى التأنِّي والتأمل.
-
اشتهرت بعض قصصه، بأنها تؤرخ لمراحل مختلفة من حياتنا الاجتماعية. والحق أن كل عمل فني يعتبر مؤرخًا لعصر صاحبه. غير أن الملاحظة العميقة في أدب نجيب تدلُّ على أنه لا يقصد مقدمًا أن يؤرخ لمرحلةٍ ما بقدر ما يريد أن يؤكد على «فكرة» بين جوانحه لا تنفصل عن «تجربة» ذاتية، تجد لها متنفسًا إذا تجسَّدت في قطاعٍ إنساني عبر مرحلة زمنية خاصة.
بذلك يأتي حديثنا عن «معنى الجنس» عند نجيب محفوظ داخل هذه الحدود، أي إننا لا ننتظر أن يكون هذا المعنى منعزلًا متفرِّدًا عن بقية المعاني والدلالات التي يتضمَّنها أحد أعماله. وغايتنا أن نتعرَّف على مدى نجاح منهجه في التفكير والتعبير إذا سلَّط أضواءه فوق هذا المعنى. والنقاط التي أوجزناها فيما سبق، نتذرَّع بها في إسهاب عند التطبيق.
وأمثال قاسم فهمي وسالم الإخشيدي، يملكان دائمًا قاموسًا يحتوي عناوين هذه الفئة الضائعة الغافلة عن ضياعها، السعيدة في بلاهة إذا داعبت رائحة الشواء أو جسد امرأة. فكان من اليسير أن يصافح الإخشيدي «بلدياته» محجوب بحرارة عجيبة لأول مرة، فلقد ألهمَتْه حاسته — بعد أن ألهمته حِرفة القوَّادين ذكاءً جديدًا — أن البك ليس كاذبًا حين يعطي إحسان «وعد شرف» بأن يضمن لها المستقبل ويضعه أمانة بين يدَيه، ويستشهد الله على ذلك، نعم، فها هو المنقذ (سينقذ نفسه أولًا) … ها هو محجوب: الأمعاء الملتحمة والعقل الخاوي والفحولة التعِسة. ها هو «اللجنة التنفيذية» لوعود أمثال قاسم بك الخاصة بالشرف. فمرحبًا يا صديقي، بل يا زميلي … إن إحسان التي طالما تحرَّقتَ ظمأً إلى عينَيها ستصبح زوجتك في غمضة عين، هذا لو أردتَ. لو أردت أن «يتكرم» قاسم بك فهمي بزيارتك مساء السبت من كل أسبوع. صحيح أنه سيراك من الغد سكرتيرًا له، وبعد الغد مديرًا لمكتبه «بعد أن يصبح وزيرًا»، ولكنه يود أن يزورك في غير أوقات العمل … أي حين تخرج من البيت في السادسة مساء، ويذهب هو إلى لقاء وُدِّي للغاية مع المصون حرمك.
لم ينطق الإخشيدي بإحدى هذه الكلمات، ولكن شخصيته التي أجاد الفنان تعميقها قامت بعملية ترجمة صادقة لمشاعره وأحاسيسه وحركات احتفائه العنيف بالأستاذ محجوب. ماذا بقيَ إذَن؟ بقي أن يتساءل محجوب في صمت: «تُرى ماذا تخبِّئ له حياته الجديدة؟ أسعادة أم شقاء؟ إنه لا يطمح أن تنظر إليه كزوج بالمعنى المفهوم؛ لأنه هو نفسه لا يستطيع أن ينظر إليها هذه النظرة، وحتمٌ أن تراه — في قراءة نفسها — قوَّادًا، كما يراها — في قرارة نفسه — عاهرة» (ص١٣٤).
إذا عُدنا بسرعة إلى بداية الحديث لنرى كيف عالج الشبان الثلاثة مشكلة وجودهم الإنساني، سنعثر في «نهاية» كلٍّ منهم ما يراه حلًّا للقضية. فمأمون رضوان تمدَّد في «تابوت العهد» أو في رحاب الدين، فكفلت له تعاليم السماء «حماية» من الخطيئة بواسطة الزواج. فالجنس كقيمة بشرية يظل «حرامًا»، ورجسًا من عمل الشيطان، حتى يُحوِّله شيخ معمَّم — بقدرة قادرة وورقة بيضاء وبضعة تعاويذ — شيئًا «حلالًا». وهكذا يقف الدين ضد طبيعة الإنسان، ويجني على دعاته مذلة الحياة الجامدة الصماء. وتتضاءل المرأة في ظِلاله من كيانها الإنساني الرائع إلى «قطعة موبيليا». وعلى الطرف الآخَر من جانبَي التناقض يواجهنا علي طه بمحاولاته الدائبة المثابرة لإيجاد حلول علمية لما يُقاسيه. إنه يؤمن بالظروف الصعبة المحيطة به، للتفسير لا للتبرير، لكي يرتفع بالقيم الإنسانية إلى مقام الحقائق العلمية، ولكي يُسهم في تغيير الواقع السيئ إلى شيء نبيل وطيِّب. لذلك حين يفتقد إحسان لا يُلقي بنفسه فوق دير للرهبان، أو من فوق كوبري قصر النيل … إنه يستقيل من الوظيفة الحكومية، ليباشر عملًا رائعًا حرًّا في الصحافة.
وكلٌّ من رضوان وعلي طه لا يكونان الكثرة الغالبة في مجتمعنا.
فالأول يمثِّل الماضي الذاهب، وإن كان موغلًا في التطرف، والثاني يومئ إلى المستقبل رغم ضعف بنيته. أما محجوب فيمثل السواد الغالب على حياتنا في ذلك الوقت. إنه يرى العلاقة الاجتماعية — في مختلف صورها — سلعة تُباع وتُشترى. وربما كانت لديه المرأة أرخَص السلع.
ولا شك أن روعة الفنان تركَّزَت في دلالتَين؛ أولاهما: هذا التوازي المُحكَم بين التدهور الخُلقي والفساد السياسي والقحط الاقتصادي. فقد أبرز الخيط القوي الذي يصلهم جميعًا. والدلالة الثانية: هي الموضوعية التي تسلِّط الأضواء على الشخوص والأحداث بنِسَب متساوية — حسب الضرورة الفنية — ومع ذلك تعثر على موقف الفنان من الأثر العام للعمل الفني.
على أنني لم أنشرح تمامًا لما احتواه القالب الروائي من مصادفات لا تبرِّرها الضرورة الفنية (الضرورة التي في مستوى الحتمية كي يصبح العمل الأدبي بناءً متكاملًا)، فلم أجد معنًى على الإطلاق لهذه المفاجأة التي جعلت من إحسان بالذات زوجة صُورية لمحجوب. فلو أن الأحداث استمرَّت كما هي بحيث يُغري قاسم بك الفتاة ويغتصبها وتنتهي قصة إحسان عند هذا الحد، ثم يتورَّط مع فتاة أخرى (كرجل يمارس هذه الهواية بصفة مستمرة) تكون من نصيب محجوب هذه المرة، لو سارت الأحداث هكذا، لكانت أقرب إلى الدلالة التي أرادها المؤلف وأبعَد من السؤال العادي: لماذا المفاجأة؟ ولكن يبدو أن الأمر لم يكُن سهوًا عرضيًّا، وإنما كان أسلوبًا في التعبير، فقد صعقَتْني المفاجأة الثانية بعد أن ساءت العلاقة بين الإخشيدي ومحجوب، ودبَّر هذا الموقف «الميلودرامي»: أقبل الوالد المريض في السادسة من مساء أحد أيام السبت، ثم حضرت زوجة البك بعد مجيئه بدقائق، توهجت نيران الفضيحة أمام الجميع! إنني مقتنع تمامًا بأن هذا الأسلوب البوليسي يوجد في الحياة الواقعية، أما الفن فله شأن آخَر يحتمُّ أن تكون للصورة رمزيتها الخاصة جدًّا. إن دلالة هذا الموقف لا تعني سوى الإخشيدي — مدبر الفضيحة — وزوجة البك المغفَّلة، والأب الممزَّق … ولكنها لا تدل على أية عناية خاصة بالموقف الإنساني أو الجانب الفني الذي قصدت إليه. فوجئ القارئ حقًّا، وأشفق مع المشفقين وشمت مع الشامتين وسخر مع الساخرين، ولكنه لم يحس بالقيمة الفنية أو الإنسانية التي يضيفها هذا المشهد الميكانيكي. ولعل هذه المبالغة مثل ردود الفعل القوية، فما إنْ تمس النار طرف إصبعك حتى تتراجع يدك نصف متر إلى الوراء، رغم أن المسافة التي تنقذ إصبعك من الاحتراق لا تتجاوز المليمتر. تميَّزَت ردود الأفعال لذلك بالمبالغة والتضخم. ولا شك أن أستارًا كثيفة كانت تغطِّي الفضائح في الماضي، فأصبحت الفضيحة هي القاعدة وغيرها الاستثناء. وكان رد الفعل عند نجيب محفوظ أنْ صنع لنا نظارات مكبِّرة من شأنها المبالغة والتضخيم، ولكنها تفيق عيوننا وتوقظ بصيرتنا.
ومع هذا فنحن نتوقَّف كثيرًا عند المعاني المتضاربة في «القاهرة الجديدة» فمعنى الجنس عند قاسم فهمي يختلف عما هو عند الإخشيدي ومحجوب، ولا يلتقي مع مفاهيم رضوان أو علي طه. أما إحسان «فلم يبقَ لها إلا تلك الغريزة الحيوانية التي أطلقها والداها من عقالها منذ البدء» كما قالت لنفسها (ص١٣٧)، فأين يقف المؤلف من هذه المتناقضات! ربما يكون الجواب أكثر وضوحًا لو ألقينا نظرة على الرواية الثانية (بداية ونهاية).
•••
الفنان لم ينسَ القاعدة الفسيحة التي شيَّد عليها الفقر هذا البناء المأساوي الشامخ … فلقد أومأ بالتركيب الكيميائي لعناصر هذه الأرض، حيث ردَّد حسين في تأملاته «يا للعجب … إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة. ومع هذا يُقال عنا أننا شعب راضٍ. هذا لعمري منتهى البؤس؛ أن تكون بائسًا وراضيًا، هو الموت نفسه. لولا الفقر لواصلتُ تعلُّمي، هل في ذلك شك؟ الجاه والحظ والمِهَن المحترمة في بلدنا هذا وراثية. لستُ حاقدًا ولكني حزين. حزين على نفسي وعلى الملايين، لست فردًا ولكنني أمة مظلومة، وهذا ما يولِّد فيَّ روح المقاومة ويعزِّيني بنوع من السعادة لا أدري كيف أسمِّيه. كلا لست حاقدًا ولا يائسًا أيضًا، وإذا كانت فرصة التعليم العالي قد أفلتت من يدي، فلن تُفلت من حسنين وربما وجدَت نفيسة الزوج المناسب» (ص١٥٥). ولا يكتفي بهذه الأضواء العامة … بل يركِّز الأشعة في بؤرة ضيِّقة للغاية: «لم يكُن للأسرة عشاءٌ عادةً، وكانوا يتحامون أن يجهروا بالجوع أن يضاعفوا من تعاسة أمهم وسخطها.» فإذا سُئل حسين ذات مرَّة: «هل سمعتَ عن شخص واحد بمصر مات جوعًا؟» أجاب مبتسمًا: «أصل شعبنا اعتاد الجوع» (ص١٧٥). وفي مكان آخَر يقول: «كان حسن ضحية للمرحوم والدنا، وكان والدنا ضحية لضيق ذات اليد» (ص٢٣٤). وفي أكثر من موضع بيَّن المؤلف أن الحالة الاقتصادية للأسرة تمنع زواج نفيسة تلقائيًّا، وتمنعها من الزواج بسليمان على وجه خاص … وما تزال رواسب الماضي الآفِل تتجسَّد في أحد أفرادها — وهو حسنين — فيترفَّع عن أن تكون أخته زوجًا لابن بقال (دعك الآن من كونها تحترف الدعارة).
أعود إلى ما قُلته منذ قليل من أنَّ دمامة الفتاة لم تكُن العامل الحاسم في انهيارها، وأنَّ هذا الانهيار لم يحدث مفاجأةً، وإنما كان تتويجًا لعدة تطورات، بدأت بالسقطة الأولى حيث كانت تحقيقًا لا شعوريًّا لوجودها وتأكيدًا لذاتيتها، وكانت المرحلة الثانية أن تحوَّلَت نفيسة إلى قطعة من لهب تحترق ولا تحس بالاحتراق، ثم انتهت إلى أن «تستسلم لعابر سبيل مدفوعة بالطمع وحده، وبلا أدنى رغبة» (ص١٩٢). «ولكن دون أن تخمد لهذا رغبة جسدها الذي يسومها الهوان، فكرهَتْه كما تكره الفقر» (ص١٩٣)، «وقالت لنفسها إنها ترضى «الهوان» في سبيل النقود التي تحسُّ حاجة أسرتها إليها. ولم تكُن في هذا كاذبة؛ فإنه حق لا شك فيه، ولكنها صارحت نفسها بحقيقة، وتجاهلت الأخرى» (ص١٢٩). أي إنها فريسة الازدواجية الطاحنة بين حقيقتَين ينبعان كلاهما من الجسد. فلقد تمزَّقَت نفيسة بين حجرَي الرَّحى، وهوَت بها الانفصالية الضارية لأن «تعضَّ على شفتَيها وهي لا تدري كيف تقاوم هذا الانحلال والتهدُّم الساريَين في روحها وجسدها … ما هي بخيبة الحب، هي خيبة الحياة كلها» (٩٩).
لن يكون هناك فرق، ما دام الفنان يصوِّر فترة زمنية واحدة، وطبقة اجتماعية مشتركة. ولنعُد إلى سؤالنا الذي تركناه قرب انتهاء حديثنا عن «القاهرة الجديدة»: أين يقف نجيب محفوظ؟
إننا لا نستخلص منه «نظرية» في الجنس بالمعنى العلمي الدقيق، كما فعل بعض الكتاب في أوروبا عندما حاولوا النفاذ من خلال العلاقات الجنسية الشاذة — كالسادية والماسوشية والنرجسية — إلى نظريات حضارية معيَّنة. ثم إننا لا نحصل منه على فلسفة خاصة في الحياة الجنسية ترتكز على دعامة من التربية أو علم النفس، سواء بالرفض أو القبول أو الابتكار.
لماذا يعرض نجيب محفوظ — باهتمام واضح — لهذه العلاقة؟ ذلك أن منهجه في التفكير يرى العلاقات الاجتماعية جميعها مترابطة بخيط واحد، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، ولا يمكن رؤيتها الواحدة بمعزل عن الكل. لأن العلاقة في مفهومه تتحدَّد بالضرورة والحتمية مع بقية العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كإفراز طبيعي للمجتمع، يتلوَّن بلونه ويتشكَّل في قالبه ويتنسم برائحته؛ لذلك يمضي «الجنس» في أعماله في مؤازرة العلاقات الأخرى بحركة تلقائية عفوية.
غير أنَّ هناك فرقًا فاصلًا بين الفنان الذي يصوِّر العلاقة الاجتماعية في حركتها العفوية التلقائية، فيصبح العمل الأدبي لوحة جامدة للواقع المرئي، والفنان الذي يصوِّر هذه العلاقة بعينها في تفاعلها المعقَّد مع بقية العلاقات من جانب، ومن الواقع الحضاري للمجتمع من جانب آخَر، ومع التكوين الذاتي لنفسية الفرد من جانب ثالث. وعلى هذا النحو تتميَّز هذه اللوحة بالأصالة والعمق، بينما تتميز الأولى بشكل مسطَّح ساذج.
ونجيب محفوظ — في «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية» — بذل جهدًا رائعًا في أن يتَّجه بلوحاته الإنسانية إلى ذلك المنهج العميق. فلقد رأيناه يطرح للمناقشة الجادة قضية هذه الفئات السفلى من الطبقة المتوسطة في مصر، ثم يتتبع تشابك علاقات أفرادها، وتعقُّد الحياة من حولها. فإذا انحدرَت بأحدهم علاقةٌ ما — كالجنس — إلى الحضيض، فلأن كافة العلاقات الأخرى لا ترتفع عن مستوى التراب. وهنا يتألَّق منهجه في التعبير؛ إذ هو يتخيَّر، بإحساس مُرهَف وشفافية، الزاويةَ النموذجية للكشف عن جوهر الحدث أو الشخصية أو الموقف الدرامي. في «القاهرة الجديدة» تتنوَّع مناسيب الوعي والإدراك، وتتعدَّد المستويات الاجتماعية، فنلتقي بالمتديِّن والملحد والمستهتر، بالغني والفقير والمتوسط، بالصفاء والغدر واللامبالاة، بمأمون رضوان، وعلي طه، ومحجوب، وقاسم بك، والإخشيدي … وتتردَّد الأنفاس في الهيكل الروائي، بلا معادلات رياضية، ولا استعراضات مفروضة للتجارب الشخصية، بل تنمو القضية الإنسانية من خلال التجربة الفنية في تناسُق بديع، يُلهم الفنان نظرة صائبة للحياة والفن على السواء. كذلك في «بداية ونهاية» نلتقي بعشرات المتناقضات، ولكنها ليست من النوع الساذج بحلوله السريعة، وإنما من النوع الضيِّق ذي الحلول الشاقة المَريرة، لأنها حلول لا تستهدف «الأنشوطة» الظاهرة للعيان، إذ هي تتوغل في باطن الأرض باحثةً عن الجذور. لذلك كان اختياره لجابر ابن البقال — كي يكون الرجل الأول في حياة نفيسة — اختيارًا بصيرًا للغاية، فهو يعي أن حسنين (ممثِّل العز الذاهب والمستقبل المضيء في الأسرة) لن يسمح لنفسه بمجرَّد التفكير في تزويجها منه. ويعي أكثر أن والد جابر يفضِّل ابنة زميله التاجر زوجةً لابنه (لاعتبارات هامة جدًّا). وهكذا كانت مقابلته الفنية البارعة، بين نفيسة وبنت فريد أفندي الجميلة المستريحة البال، تُلقي ضوءًا على الأحداث القادمة. ثم جاء تصويره الممتاز لشخصية حسن مقياسًا صادقًا وخطًّا بيانيًّا لتمزُّقات الأسرة وارتياعها من المصير الرهيب: الضياع. وكان هناك حلقة التوازن المعلَّقة في عُنق حسن؛ كبش الفداء. استطاع الفنان حقًّا أن ينسج من هذه الخيوط المتناثرة ثوبًا قاتمًا لفترة من تاريخنا. ولكنها ليست قتامة بلهاء ساذجة تصفِّق للقبور، وإنما هي لون حقيقي في خريطة حياتنا التي ظلَّ الفنان يستكمل ألوانها.
٣
هل يُعتبر هذا شذوذًا؟
إن التطور الأخير للحياة الاجتماعية في ظِل الحرب، يجلب معه ألوانًا من الشذوذ، فها هو ذا المعلم «كرشة» لا يُعجبه سوى الغلمان … «ومن عجب أنه كان يرى نَفْسه على حق دائمًا، ويَعجب لاعتراضها — أي زوجته — سبيله بلا مبرِّر … أليس من حقه أن يفعل ما يشاء؟ وأليس من واجبها أن تطيع وأن ترضى ما دامت حاجاتها مقضية ورزقها موفورًا؟» (ص٦٨). وهناك «السيد سليم» التاجر الثري صاحب الصينية المشهورة. الصينية التي تفنَّن في صنعها إله الجنس في الأساطير لا ريب … إنها تصيد إليه الشباب والحيوية لدرجة مثيرة، لدرجة أن يصيب امرأته الاشمئزاز والتقزُّز … «كانت لا ترحِّب بالصينية من بادئ الأمر وهي بعدُ شابة في ريعان الشباب. كانت ذات فطرة سليمة تنفر من الشذوذ عن الطبيعة ولكنها تحمَّلَت ما كانت تعدُّه إرهاقًا؛ إكرامًا لزوجها النَّهِم، وإشفاقًا من تكدير صفوه. ومع ذلك لم تتردَّد عن نُصحه بالعدول عن أمرٍ في المداومةِ عليه خطرٌ، وأي خطر، على صحته. ولمَّا أن تقدَّم بها العمر قلَّ صبرُها وتضاعف إحساسها بالأمر، وبدا تذمُّرها صريحًا، حتى كانت تهجر بيت الزوجية إلى بيوت أبنائها؛ زيارةً في الظاهر، وهربًا في الحقيقة. وضاق بها السيد ذرعًا، ورماها بالبرود والنضوب، وتكدَّر صفوهما، وتنغَّص عيشهما دون أن يعدل عن هواه، أو يعطف على ضعفها الملموس وقد اتَّخذ نشوزها — هكذا دعاه — حُجة له في هواه، وفيما يرتاد من حياة زوجية جديدة» (ص١٢٠). وهكذا يتحوَّل الشذوذ إلى «علاقة شرعية» ما دام الرجل سيتخذ «زوجة» جديدة.
… أما تطوُّر حميدة فليس شاذًّا على الإطلاق. إنها الحلقة الطبيعية في سلسلة طويلة بدأت ﺑ «العوز»، ثم ﺑ «الرغبة» وانتهت إلى «الطريق القصير» نحو الثراء والحياة والعظمة. رفضت حميدة خطبة «عباس الحلو» إذ لمحَت معالم الطريق القصير على يدي «فرج». غير أنها اعتبرت فرج نَفْسه وسيلة لتحقيق أهدافها، وليس هدفًا في ذاته، فحينما اختلى بها لأول مرة وطلب إليها أن تجلس بجانبه إلى الكنبة … «لم تمانع، فنهضت قائمةً إلى حيث جلسا جنبًا لجنب على كنبة كبيرة. وكانت تتقاسمها في تلك اللحظة مشاعر الميل إلى الرجل الذي تحبه، وأحاسيس التحدي للرجل الذي قد تمنِّيه نَفْسه بأنه قادر على الضحك على ذقنها. واقترب الرجل منها رويدًا حتى لاصقها، ثم أحاط خاصرتها بذراعه، وهي مستسلمة ساكنة لا تدري متى يحق لها المقاومة، ومدَّ يُسراه إلى ذقنها فرفع ثغرها إليه وهوى بفمه متمهِّلًا كأنه ظمآن يكرع من جدول حتى الْتَقت الشفاه. وطال الْتِقاؤها كأنما أخذتهما سِنة من الغرام. وأما هو فكان يستجمع حرارته وقوَّته في شفتَيه لينفذ بهما ما يريد، أما هي فكانت تسكر وتمثل إلا أن توثبها أفسد عليها رقية السحر التي تحرق شفتَيها، فظلَّت متنبِّهة متربِّصة. وأحسَّت يده تسترخي عن خاصرتها وترتفع إلى منكبها، ثم تهفو الملاءة عنه، فخفق فؤادها بعنف، وتصلَّب عنقها مبتعدًا عنه، وأعادت الملاءة بحركة عصبية إلى موضعها وهي تقول بجفاء: كلا» (ص١٧٣).
أول ما يُثير انتباهنا في هذه الصورة الغنية هو نبوعها من صميم البنيان الدرامي للقصة، فجاء المشهد «خاصًّا» بهذا الحدث دون غيره؛ أي إنه ليس كليشيهًا عامًّا يمكن الاستعانة به في أي وقت … لذلك سَمَت الصورة إلى مستوى الضرورة والحتمية. لذلك أيضًا كشفت لنا بوعي عن التكوين النفسي والاجتماعي لحميدة. لقد تعرَّفنا عليها منذ كانت تخلع قلوب أبناء زقاق المدق، إلى أن طار أحد هذه القلوب من بين أضلع صاحبه إلى التل الكبير ليأتي لها بصورة صغيرة لأحلامها؛ بثمن الشَّبْكة الذهبية التي لن تنالها إحدى صديقاتها عاملات المشغل. ثم طار لب السيد سليم بعدما انتوى التضحية بسُمعة أسرته ليتزوَّج من هذه اليتيمة الفقيرة. ورغم أنه في عمر جدها، إلَّا أنها وافقت من أجل «ثرائه العريض»، ونسيت في لحظةٍ ما كان بينها وبين عباس الحلو من وعود وأحلام و«قراءة فاتحة». ولكن السيد سليم يقع في الطريق مشلولًا، وتكاد أحلامها تُشَل معه، لولا … لولا «فرج». فرج هذا الذي يجلس الآن إلى جانبها على الكنبة، ويتظاهر بأنه يريد منها شيئًا، وتتظاهر هي بالجفاء قائلة: «كلا» … ولنستعرض موقفًا جديدًا يكشف عن حقيقة كلٍّ منهما: كان لا بدَّ له من أن ينزع الستار تمامًا عن معالم الطريق القصير «وحدَّق في عينَيها بإمعان وافتتان، ورفع يدَيها — وهما مضمومتان — إلى فمه، وراح يقبِّل أطراف أناملها زوجًا زوجًا وهي مُستسلِمة ليدَيه، تجد لكلِّ لثمة من شفتَيه تكهربًا في أعصابها، حتى تندَّت عيناها برِقَّة وهيام. وندَّ عنها نَفَس حار في شبه تنهدة، فأحاطها بذراعَيه، وضمَّها إلى صدره رويدًا حتى شعر بمسِّ ثديها لقلبه، ثدي بِكر ناهِد يكاد لصلابته أن ينغرس في صدره، وراح يمسح على ظهرها براحتَيه صعودًا وهبوطًا، ووجهها مدفون في صدره ثم همسَ: «فمك»، فرفعت رأسها ببطء وقد انفرجت شفتاها قليلًا، فطبع شفتَيه على شفتَيها في قُبلة طويلة جدًّا، فأطبقت جفنَيها كأنما أخذتها سِنة من نعاس. وحملها بيُسر فصارت بين ذراعَيه كطفل رضيع، وسار بها متمهِّلًا نحو الفراش، وقد هزَّ ساقَيها المُعلَّقتَين هزةً أطاحت بالشبشب، ثم أنامها، ولبث مائلًا عليها معتمدًا على راحتَيه، مُنعِمًا النظر في وجهها المورد. وفتحت عينَيها فالْتَقت بعينَيه، فابتسم لها بابتسامة رقيقة، ولكنها ظلَّت ترنو إليه بنظرة ساجية. وكان في الحق متمالكًا لأعصابه رغم تظاهره بعكس ذلك، وكان فكره أنشَط من قلبه، وكان قد أجمع رأيه على خطة لا يَحيد عنها، فاستوى واقفًا وهو يُغالب ابتسامة ماكرة، وقال بلهجة مَن يزيح نَفْسه عن هواها: مهلًا … مهلًا … إن الضابط الأمريكي يدفع خمسين جنيهًا عن طِيب خاطر ثمنًا للعذراء» (ص١٩٩). ودهشت هي — هذه المرَّة — كما دهش هو في المرة السابقة. على أنه ليس هناك ما يُبرِّر الدهشتَين؛ فشخصية حميدة تختزل في سياق نموها كافة أطوارها السابقة. امتنعت في البداية حتى يظهر اضطرارها — وهو الحلقة الأولى — ثم استولت عليها الرغبة — وهذه هي الحلقة الثانية — ثم عاشت فيما بعدُ حياتها رغدة هنيئة تدرُّ الذهب، كخطوة أخيرة نحو بداية الطريق القصير.
هذا الموقف الذي عرَضْنا له متمِّم بشكل طبيعي للغاية للموقف السابق. لم تكُن رغبة «فرج» المرة الأولى في جسدها رغبة حقيقية، بل كان مجرد «تظاهر للوصول إلى الرغبة الأكثر من حقيقية. كذلك هي تصلَّبت في قولها «كلا» كاذبة؛ لأنها ما كانت تسمح لنفسها بمغادرة الزقاق إلى شارع سليمان، وبصحبة شاب لا تعرفه، ثم تنفرد به، ولا تكون على «وعي» بما هي مُقبِلة عليه. ثم أقبل الموقف الثاني لضرورة فنية بعيدة المدى، فقد نزع القوَّاد قناع العاشق الهيمان، وظهر تاجر رقيق، ونزعت هي الثياب المتمنعة وارتدت ملابس الطريق القصير … الطريق الذي يفتتحه الضابط الأمريكي بخمسين جنيهًا.
هكذا يلتقط نجيب محفوظ الظاهرة، فيضيف إليها من عنده دلالتها الخاصة. يُضيف إليها نظرته في الحياة والإنسان والمجتمع. ولولا هذه الإضافة، لكانت اللقطة مجرَّد صورة جامدة للظاهرة، يتألَّق سطحها فندعوه إثارة، وتختفي أعماقها فتصبح شيئًا بلا معنى.
٤
ليست أعمال نجيب محفوظ قبل ثلاثية «بين القصرين» إلا تمهيدًا كبيرًا لهذا العمل العظيم. فلقد استجمع فيه نظرته كلها: في الحياة والإنسان والمجتمع. استجمع شعاع التاريخ فتخيَّر مرحلة حيَّة جاوزت ربع القرن من حياتنا … منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الإرهاص لثورتنا الوطنية عام ١٩١٩م. واستجمع شعاع المجتمع، فتخيَّر الطبقة المأساوية (المتوسطة الصغيرة) وهي تتلوَّى من عملية المخاض الحتمية لولادتها. واستجمع شعاع الواقعية في الفن كاتجاه طبيعي في تطوُّر أدبنا.
وبهذه النظرة الموسوعية الاستيعابية الشاملة، لا تخضع «الثلاثية» لذاك التصنيف المتعسِّف الذي يحسم الأمر بوضعها في خانة الفن «التاريخي»، بينما صاحبها لم يستلهم التاريخ في ذاته، وإنما كوسيلة فنية بعرض أزمةٍ ما، أو للتعبير عن قضية معيَّنة. والفنان إذَن لم «يؤرخ» لإحدى مراحل تطوُّرنا، بقدر ما أراد أن يصوِّر بعض قضايانا الفكرية والإنسانية. لم يكُن التاريخ في الثلاثية إلا إطارًا فنيًّا مثل كل شيء، فلا ينبغي أن «نفرض» على المؤلف مضمونًا مُسبَقًا، ونستقرئ النتائج بعد ذلك من وحي خيالنا لمجرد افتراضٍ لجأنا إليه حين قلبنا الإطار إلى محتوى.
فإذا تتبَّعنا إحدى العلاقات الاجتماعية في «الثلاثية» ولاحظنا شكلها ومحتواها يتغيَّران بعامل الزمن، يجب أن نضع أيدينا على عملية «التطور» هذه ونحسب أنها فقط ما استهدفه نجيب محفوظ. يجب أن نقف طويلًا عند (العلاقة) نَفْسها: كيف رآها الفنان، كيف صوَّرَها، ما دلالتها بالنسبة للفرد، والأفراد معًا، والمجتمع؟ أما رؤيتها بالنسبة للمرحلة التاريخية، فإننا نحصل عليها تلقائيًّا من خلال منهج الأديب.
والمنهج الذي تمرَّس عليه مؤلف الثلاثية في أعماله السابقة، هو رؤيته للظاهرة أو العلاقة أو الموقف في حالة «حركة» لا في حالة ثبات أو سكون، وفي حالة «ترابط» مع مختلف الظواهر والعلاقات والمواقف، لا في حالة عزلة أو انفصام، تمامًا كما يستعين بعدسة الميكروسكوب في رؤية شريحة حية لا تنفصل في مخيلته عن بقية الكائن الحي. لهذا لم تُخدَع عدسة نجيب الفنية بالسطح الخارجي الجامد — الذي يُثير بدَوره اهتماماتٍ سطحيةً — وإنما نفذت إلى أعماق الشريحة الاجتماعية والنفسية والفكرية، لتُصوِّر الدقائق الحية الصغيرة، لتُثير بدَورها الاهتمامات العميقة الدلالة، الكبيرة القيمة.
•••
الرواية الأولى في الثلاثية هي قصة «بين القصرين». والشخصيتان النموذجيتان لدراستنا هما: «أحمد عبد الجواد» الأب، و«ياسين» الابن. والأسرة رغم انتمائها إلى الفئات الصغرى من الطبقة المتوسطة إلا أنها تعيش في مجتمع إقطاعي تسود أخلاقياته مختلف المستويات الطبقية، وذلك تبعًا لسيادة نظامه الاقتصادي وعلاقاته الاجتماعية. والنتيجة أنَّ الطبقات الأخرى — غير الإقطاعية — تُعاني هذا التناقُض المرير بين تكوينها الحقيقي من الداخل، والقالب الاجتماعي الذي يخنقها من الخارج. أي إنها تدخل في صراع (إرادي أو غير إرادي، سلبي أو إيجابي)؛ أي مع التركيب غير المتجانس لمعنى وجودها في المجتمع.
«لذلك جمعت حياته شتَّى التناقضات التي تتراوح بين العبادة والفساد» (ص٣٩). وراح المؤلف يتساءل: «أكان شخصَين مُنفصِلَين في شخصية واحدة؟» (ص٤٠). وانتقلت علامة الاستفهام إلى شفتَي رجل من أولياء الله هو الشيخ «متولي عبد الصمد»، سأل السيد أحمد عبد الجواد فيما يُشبه الوعيد: ««ماذا تقول، وأنت المؤمن الورِع، في ولعك بالنساء؟»
كان السيد معتادًا لصراحته فلم ينزعج لانقضاضه، وضحك ضحكة مُقتضَبة ثم قال: ما عليَّ من ذاك، ألا يحدِّث رسول الله ﷺ عن حُبِّه للطيب والنساء؟
فقطَّب الشيخ ومطَّ بوزه محتجًّا على منطق السيد الذي لم يُعجبه، وقال: الحلال غير الحرام يا بن عبد الجواد، والزواج غير الجري وراء الفاجرات.
مدَّ السيد بصره للا شيء وقال بلهجة جِدية: ما ارتضت نفسي يومًا أن تعتدي على عِرض أو كرامة قط، والحمد لله على ذلك.
فضرب الشيخ ركبتَيه بيدَيه وقال بغرابة واستنكار: عُذر ضعيف لا ينتحله إلا ضعيف، والفسق لعنة ولو يكُن بفاجرة، كان أبوك رحمه الله مُولعًا بالنساء فتزوَّج عشرين مرَّة، فلماذا لا تنتهج سبيله وتتنكب طريق المعاصي؟
وضحك السيد ضحكة عالية وقال: أأنت ولي الله أم مأذون شرعي؟ كان أبي شِبه عقيم فأكثر من التزوُّج، وبالرغم من أنه لم يُنجب سواي إلا أن عقاره تبدَّد بيني وبين زوجات أربع مات عنهنَّ، إلى ما ضاع على النفقات الشرعية في حياته، أما أنا فأبٌ لثلاث ذكور وأُنثيَين، وما يجوز لي أن أنزلق إلى الإكثار من الزوجات فأبدِّد ما يسَّر الله علينا من رزق، ولا تنسَ يا شيخ متولي أن غواني اليوم هن جواري الأمس، واللاتي أحلهن الله بالبيع والشراء، والله من قبلُ ومن بعدُ غفور رحيم» (ص٣٨، ٣٩).
… ولنترك «الأب» لحظات، لنعرج قليلًا على «الابن». وياسين، تختلف ظروفه عن بقية أبناء أحمد عبد الجواد. فهو من امرأة ثانية طُلِّقت مع أول بادرة تمرُّد صدرت عنها. ولهذه الأم مع ابنها قصة تفوح برائحة كريهة كلما طفت ذكراها — لأمر من الأمور — إلى سطح وعيه. إنه ما يكاد يقترب من بيتها الآن حتى يلوح له على الناصية دكان فاكهي كثيرًا ما ذهب إليه وهو غلام صغير قائلًا: «نينة تطلب منك أن تحضر الليلة» (ص٩٩). ثم يتصور «منظر الافتراس الوحشي» على حدِّ تعبيره الذي كان يعقب حضور الرجل في تلك الليالي. إن هذه الأم ما تزال فعالها تمزق ياسين بين وقت وآخَر، بين زوج قديم وزوج جديد، إلى أن كانت الطامة الكبرى فتزوجت من صاحب مخبز في الدرَّاسة، في الثلاثين من عمره! (ص٩٤) أي في عمر ولدها؛ طمعًا في المال من ناحية الرجل، ونهمًا شهوانيًّا من ناحية المرأة. هذا هو الجرح الغائر في نفس ياسين، جاء اكتشافه في موعده، في سن الجراح. أما اكتشافه الجديد، فكان شيئًا مثيرًا، شيئًا طيبًا للغاية؛ لقد اكتشف الوجه الآخر للسيد أحمد … اكتشف «الأب» في صورته الكاملة. وكان لاكتشافه قصة طريفة بدأت مع تعرُّفه على «زنوبة» العوَّادة في تخت «زبيدة» العالمة … ففي لقائهما الأول بيت العالمة استرق السمع إلى ما يدور في الصالة من طرب ونجوى، ونغم، واسترق النظر في غفلة من زنوبة، ثم سرقت وعيه دوامة رهيبة تدور حول سؤال واحد: أحقيقة ما يرى أم هو في حلم؟ أحقًّا هذا أبوه السيد أحمد عبد الجواد؟ أهذا هو الرجل الذي يمسك الدف ويتمايل على الحِسان كأي عاشق عريق في فنون الهوى؟ وانتشل نَفْسه من الدوامة في أحضان زنوبة … وغرق في بحر من النشوة الخالصة. إن دهشته لم تتلوَّن بالانزعاج، وإنما ﺑ «الراحة». «أنا هنا مع زنوبة وأبي في الحجرة القريبة مع زبيدة، كلانا في بيت واحد!» (ص٢٢٣). «ولم يشعر إلى تفكيره بارتياح فحسب، ولكنه فرح به فرحة فاقت كلَّ تقدير، لا لأنه كان بحاجة إلى مشجِّع ليواصل حياته الشهوية، ولكن لأنه — كأكثرية الغارقين في الشهوات المحرَّمة — يستأنس إلى الشبيه، فكيف إن وجده في شخص أبيه؟ «ثم تناسى كل شيء إلا فرحته»، كأنه أعز ما ظفر به في حياته، وشعر نحو أبيه بحُب وإعجاب شديدَين «وراح يُخاطب نفسه» هنيئًا لك يا والدي. اليوم اكتشفتك، اليوم عيد ميلادك في نفسي، يا له من يوم! ويا لك من أب لم يكن قبل الليلة إلا يتيمًا! اشرب واطرب والعب بالدفِّ لعبًا، ولا يد عيوشة الدفَّافة، إني فخور بك» (ص٢٢٣).
هاتان القصتان مع الأب والأم، ينبغي للمرة الثانية أن نَعِيَهما جيدًا، فسوف نكون بحاجة ماسة إلى تذكُّرهما في تسجيلنا التطوُّر النفسي لياسين. فما تزال هناك حلقات في سلسلة هذا التطور. هناك محاولته المخمورة مع «أم حنفي» جارية الأسرة التي رفضت الانصياع لندائه: «هلِّمي إلى حجرة الفرن» (ص٢٤٧)، حتى أنقذها صوت السيد أحمد: «اطلع يا مجرم يا بن الكلب» (ص٢٤٨). ولم يمضِ على زواجه أسابيع عندما أخذ يعاني في حيرة بالغة ولأول مرة في حياته ذاك المرض المتوطِّن في نفس الإنسان: الملل. لم يعرفه من قبلُ عند زنوبة، ولا حتى عند بائعة الدوم» (ص٢٧٢). لا يعرف المرأة على حقيقتها زوجة كانت أم بغيًّا «امرأة. أجل ما هي إلا امرأة … وكل امرأة لعنة قذرة … لا تدري امرأة ما العفة إلا حين تنتفي أسباب الزنا» (ص٧١). لذلك يندفع بلا تفكير إلى أحضان «نور» جارية زوجته ما دام جسدها يحمل سمًّا جديدًا قاتلًا للملل (ص٣٣٦).
… ثم لنودِّع «بين القصرين» في طريقنا إلى «قصر الشوق». مضت سنوات وأحداث. مات «فهمي» الابن الأكبر في مظاهرة سلمية تحتفي بعودة سعد من المنفى. وكان قلبه قد سبقه إلى القبر منذ رفض أبوه مشروع خطبته ﻟ «مريم» بنت الجيران. وتعانق الحزن مع الزمن في هزيمة أحمد عبد الجواد. لقد عزف عن حياة اللهو مسلوبَ الإرادة، لا بطلًا. وها هو يرى نفسه مرَّة في مرآة الآخَرين: تسرَّب الشيب إلى رءوس خِلَّانه، فكانت لياليهم توسُّلات يائسة إلى الأحلام، وسرى الكوكايين في عروق السلطانة، فتحولت — وهي على قيد الحياة — إلى أسطورة، تحيَّر الناس أين يضعونها، في تابوت الغرام؟ أم في المتحف الصحي لمحاربة المخدرات؟ أما «جليلة» فاحتاطت لقساوة الزمن، وفتحت بيتًا لتجارة الأعراض.
وسط هذه الأحداث كان أحمد عبد الجواد غريقًا في محيط الأسى والشيخوخة ثم ردَّت له الروح حين لمح من بين أمواج الزمن، قطعة من الخشب، تمثلت في زنوبة العوَّادة … كانت فتاة ريَّانة العود خلال تردُّده على خالتها زبيدة — لا يدري أن ياسين كان يمرح في عودها الريان — وها قد أصبحت امرأة … امرأة تُرضي غرور أحمد عبد الجواد في عز شبابه، فكيف به الآن؟ ولكنه تناسى — بقصد أو بغير قصد أن شبابه في خبر كان، وأن زنوبة ليست من هواة المشايخ. لذلك هوت شروطها على قلبه كسكين قصَّاب غبي لا يرحم. لا بدَّ أن يدرأ عن كبريائه هذا الهوان، ولو كلَّفه الأمر أن ينحني لشروط زنوبة، لو كلَّفه الأمر أن يستأجر لها عوَّامة في النيل، وأن يتَّخذ منها عشيقة خاصة، وأن يضع على عينيها غشاوة ثقيلة من الذهب فلا ترى مشيبه وتجاعيد وجهه.
وفي الطرف الآخَر كان ياسين في أوج رجولته، فلم يتأثر بطلاق زوجته، بل على النقيض، أحسَّ ارتياحًا عميقًا، جعل خياله ينشط في البحث عن امرأة جديدة، إلى أن اصطدم — فجأة — ببنت الجيران القديمة: مريم. إن خياله يمسح ببساطة ما نقله أخوه الأصغر «كمال» إلى الأسرة أيام الثورة من أنها كانت تبتسم لجندي إنجليزي ابتسامة غريبة، كما أنَّ خياله مهما شطح فلم يصل إلى ما كان بين أمها وأبيه في غابر الزمان. ليتوكل إذَن! البنت «بطة» مُغرية — وإن طُلقت من زوجها الأول لأسباب مجهولة — ولا بأس من إعادة التجربة المُملة … الزواج. وعندما أخذ أهبته وتوكَّل في طريقه إلى بيت أم مريم لم تكُن الفتاة هناك. وإنما كانت الأم في انتظاره … في انتظار الصورة الجديدة لفحولة أحمد عبد الجواد. وتمَّ التفاهم بينهما بأسرع من البرق، فإذا أقبل المساء التالي — وأمسيات كثيرة تالية — كانت الأم تتمرَّغ كل ليلة في فراش خطيب ابنتها، حتى إذا أدركه المرض القديم، طلب وجهًا جديدًا، طلب «الزواج» من مريم.
على أن جرثومة الملل لا تلبث أن تستردَّ نشاطها … فيلتقي بامرأة فاخرة في قوامها المدملج، في ثيابها الحديثة، رغم أنها زنوبة. زنوبة بلحمها ودمها. ولا يتوانى في جرِّها إلى بيت الزوجية، ولم يَعنِه أن تبيت مريم في الخارج «مُطلَّقة» أما زنوبة فنسيت تمامًا «الرجل» الذي كان ينتظرها في العوَّامة، لم تعُد تذكر — وهي في أحضان ابنه دون أن تدري — إلَّا مشيبه وتجعدات وجهه، ونسيت في غمضة عين العوامة والذَّهَب والعز. وعندما واجهها أحمد عبد الجواد، كانت تعرف سبيلها جيدًا … قالت له: «تزوجني»، ولم يتحمَّل الرجل نصل السكين هذه المرة، فسقط جريحًا يتلفَّع بكبريائه … ومضى. وعادت هي إلى ياسين. وعادت إليه «زوجة» فلم ترمش عينا أبيه حين زف إليه النبأ، وإنما تجمَّدَت دموعه في مآقيه، ثم ابتلعتها أعماقه.
فإذا انتقلنا إلى «السكرية» كان هذا القلب ما يزال ينزف أيامه في بيت جليلة، بينما يتبيَّن الجيل الثالث طريقه جيدًا.
«أحمد» الامتداد الطبيعي الأكثر تطورًا وازدهارًا لخاله كمال … لا يتأزم من بنات هذه الطبقة التي تطلب الواحدة منهن خمسين جنيهًا في الشهر كقيمة رمزية للزوج … وإنما يدرس وجوه الأزمة، ويرتبط قلبه بعاطفة زميلة تعمل معه في المجلة التي يشتغل بالتحرير فيها. ثم يتزوَّج بها ضاربًا عُرض الحائط باحتجاجات الأسرة التي لن تقبل ابنة عامل مطبعة زوجة لأحد أبنائها.
وهناك «عبد المنعم» — شقيق أحمد — يتحصَّن في سياج الدين من الخطيئة فيمتنع عن لقاء بنت الجيران على بسطة السلم، ويطلب من والدَيه أن يتزوج، وهو طالب في الجامعة، وحدث أن سأله أبوه: ما وجه السرعة؟
فقال عبد المنعم وهو يغضُّ بصره: لا أستطيع البقاء بدون زواج.
فتساءلت خديجة (أمه): وآلاف الشبان أمثالك كيف يستطيعون؟
أما «رضوان» ابن ياسين، فقادته وسامته وجماله إلى أحد الباشوات العزاب، فكان سُلَّم الأسرة إلى الترقي والجاه وحل الأزمات.
•••
تصادفنا عدة أسئلة أثناء قراءة «الثلاثية»، ولكن السؤال الذي يطرق وجداننا بعنف يتصل بحقيقة الدور الذي يسنده نجيب محفوظ لكلٍّ من شخوص الثلاثية. إن ملامح أحمد عبد الجواد تلخِّص عصرًا كاملًا، فهل أراد المؤلف أن يقدِّم لنا مفهوم ذلك العصر في الجنس من خلال هذا الرجل؟ وهل تُعتبر الرواية بعدئذٍ مقياسًا لتطور هذا المفهوم عَبْر تاريخنا الحديث، كما ترى في الاختلاف بين سلوك الأب، وكمال، وأبناء خديجة؟ أم إن الفنان كان يتخيَّر شخوصه كأنماط نموذجية، يقوم بتشريحها النفسي والاجتماعي، فيأتي تعبيرها عن العصر ظاهرة عرضية، لا تُغني عن الشخصية المفردة كهدف أصيل للكاتب؟
الحق أن استقراءنا لنماذج الثلاثية قد يُعطي الدلالتَين معًا، ولكنه يُعطي في نفس الوقت شيئًا آخَر أكثر أهمية؛ إنه يستهدف أساسًا رؤية المعنى الإنساني للعلاقة الجنسية، وإلى أي مدى يحقِّقه هذا النموذج أو ذاك. فإذا استخلصنا من السياق الروائي، أن معنًى ما للجنس ساد عصرًا معيَّنًا، وبالتالي يصبح العصر أبًا اجتماعيًّا لهذا المعنى … فإن أمثال هذه النتائج تعتبر وليدة «قصدنا» نحن، لا قصد الكاتب، وإذا استهوتنا شخصية ما بغرابة تكوينها النفسي، واستغرقتنا تفاصيل حياتها الجنسية، فإن غرابة أمثال هذه الشخصيات وليدة «تأملاتنا» لا تأملات الكاتب. أما إذا استعرضنا شخصية — كأحمد عبد الجواد مثلًا — فإن ما يسترعي انتباهنا هو القيمة الإنسانية النابعة من تكوينه السيكولوجي، وسلوكه الاجتماعي على حدٍّ سواء. فإذا كان لا يسمح لابنه — الذكر — أن «يحب»، وإذا كان يصل به الأمر إلى القتل لو أن عينًا وقعت على إحدى ابنتَيه، بينما هو سيد الليالي ورسول الغرام، فإن هذه الازدواجية تنعكس بأمانة على علاقاته الاجتماعية، ومن بينها العلاقة الجنسية، فتصوغها في قالب غير إنساني. فلا نعجب من تأكيده أن غانية اليوم هي جارية الأمس، ولا تدهش من تقييمه للمرأة بما هي عليه من قناطير الشحم واللحم. إنه لا يرى المرأة بعين إنسانية، لذلك تتخذ علاقته بها شكلًا ناقصًا غير إنساني، غير مكتمل.
هذا هو الدَّور الذي يحمله النموذج البشري في الثلاثية، إنه يرسم خطًّا بيانيًّا للقيمة الإنسانية النابعة من التكوين النفسي والاجتماعي للشخصية.
… وهنا سؤال جديد: ما هي القيمة الحقيقية التي يسندها نجيب للجنس في «الثلاثية»؟
لو قمنا بإحصاء لعدد العلاقات الاجتماعية بمستوياتها ونوعيتها للفرد السوي، ثم جعلنا هذا الفرد مقياسًا نقيِّم به العلاقة الاجتماعية لأي فرد، فنعرف مدى شذوذها أو سلامتها «وبالتالي شذوذ المجتمع وسلامته» … لو قمنا بمثل هذا الإحصاء بالنسبة للعلاقة الجنسية مثلًا، لَما وجدنا مصدرًا بلغ من الدقَّة درجةً عالية، كما بلغته ثلاثية نجيب محفوظ. فالنماذج التي عرضنا لها تحدِّد لنا من خلال سلوكها الخاص والعام «نوعية» هذه العلاقة ومستواها بالنسبة لقيمتها الحقيقية.
ياسين مثلًا «لا يقدِّم على النسوان غاية في دنياه» (ص٢١٧) … تتحدَّد بهذه العبارة — والأدلة العلمية التي تثبتها — نوعية العلاقة الجنسية عند ياسين فهي «سيدة» العلاقات الاجتماعية الأخرى، وما إنْ تتضاءل إلى جانبها بقية العلاقات حتى يصبح الفرد نفسه «مشوَّهًا» في تكوينه النفسي، مريضًا في سلوكه الاجتماعي … لذلك كان ياسين مَلولًا في حياته الجنسية لدرجة الانحراف المَرضي فبعد زواجه بأسابيع ارتمى في أحضان الجارية، واستفاد من تجربة طلاقه الأول في زواجه الجديد، فجاء بإحدى المومسات إلى فراش الزوجية في منتصف الليل. وهكذا يُفقده «الجنس» «قيمته الحقيقية» في حدود هذا المستوى والنوعية.
ونأخذ مثلًا آخَر في كمال … إن غشاوة الحب الرومانسي تُخفي عن ناظرَيه أشياء كثيرة. لقد رأى في عايدة نموذجًا بعيد الشبه عن بنات الحسين، فيستبعد أن تكون هذه الفتاة مثلهن: تأكل وتجوع وتتسخ ملابسها الداخلية. لا شكَّ أنها ملاك سماوي ينأى عن القذارة التي يجرُّه إليها صديقه فؤاد. إنه يعبد طيفها المتعالي في الآفاق. ولا يصدِّق — بعدما تزوجت — أن ينتفخ بطنها كبنات الحسين ويأتيها المخاض. مستحيل! مستحيل أن تنحط إلى هذا الدرك (أصبح الجنس شيئًا منحطًّا عند الأب الجاهل والابن المثقف على السواء) … إن كمال — على النقيض من ياسين — لا يضع العلاقة الجنسية في مكانها الطبيعي، بل يتجاهلها تمامًا، فيبدو «مشوهًا» في تكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي … يبدو هذا في عزوفه المُطلَق عن الزواج، وفي خطواته الوجلة المتعثِّرة نحو بائعات اللذة وفي الحركة الميكانيكية الصمَّاء التي يمارس بها هذه العلاقة. ويفقد «الجنس» قيمته الحقيقية بعدما أكسبه كمال قيمة رومانسية، كما أكسبه ياسين وأحمد عبد الجواد، من قبلُ، قيمةً إقطاعية.
ولنأخذ مثلًا ثالثًا في أحمد شوكت … نراه حاسمًا عندما انسحبت فتاة «المعادي» من حياته. لم يُذِب عمره في لحن جنائزي طويل، بل راح يبحث عن وجوده مع شريكة كفاحه في المبدأ والعمل … وكان الزواج إكليلًا رائعًا فوق هامتَيهما، كان طريقًا طبيعيًّا لبقية العلاقات الطبيعية الأخرى، حيث يصبح «الجنس» — لأول مرة — قيمة حقيقية في مستواها ونوعيتها. القيمة التي تطلَّب من نجيب محفوظ أكثر من ألف صفحة، ليرسم مقوماتها الضرورية ومعالمها الرئيسية. فتستمد دلالتها الإنسانية من طبيعة التكوين الاجتماعي لكلٍّ من أحمد و«سوسن» القائم على أساس وطيد من المساواة الاجتماعية التي تتولَّد عنها بالضرورة المساواة النفسية.
ويبرز سؤال جديد: ما هو العامل الحاسم في تطوُّر العلاقة الاجتماعية عند نجيب محفوظ: أهي الوراثة أم البيئة أم التكوين النفسي؟
لقد أجاب أغلب نقادنا بأن الوراثة — أو العامل الفيزيقي بصفة عامة — هو ذلك العامل الحاسم، وأدخلوا مؤلف الثلاثية بهذا المفتاح «المدرسة الطبيعية». وقال آخَرون إنه من أتباع (واقعية بلزاك) في عنايتها المفرطة بالدقائق الصغيرة وفي تكثيفها لسمات العصر في شخصيات روائية قليلة العدد.
وربما حفلت نماذج الثلاثية في تكوينها العام بمؤثرات بيولوجية واضحة، بل لعل الوراثة الفيزيقية بالذات، كانت أكثر وضوحًا من غيرها … لكن هذا الوضوح يختلف كثيرًا عن صفة «الحسم» التي نعلِّق عليها أهمية كبيرة إذا اتصف بها أحد العوامل كمحور للتطور. فنحن نخطئ إلى حدٍّ كبير إذا اعتبرنا ياسين شخصية موروثة. لأن ميوله الجنسية الحادة، ليست إلا زاوية وحيدة الجانب في شخصية أبيه، ولو أننا وعينا أعماقه النفسية لتَبيَّن لنا أن قصته مع أمه واكتشافه لأبيه — هاتان الدلالتان اللتان ينوبان في تفاصيلهما عن رسم عصر كامل — قد أسهما بشكل حاسم في صياغة تركيبه السيكولوجي. وتنقطع بالتالي صلته العضوية بأبيه ما دام هذا التركيب من عناصر مختلفة وعديدة في الهيكل الاجتماعي. لذلك يتحتَّم أن تنصهر هذه العناصر في بوتقة التجربة الكبيرة التي عاشها الفنان ليحصل على «العنصر الحاسم» الذي يفوز بكونه محور التطور. أما أن ترث إحدى البنات أنف أبيها أو عيني أمها، فلا تمدنا أمثال هذه الظاهرة، بأيٍّ من عناصر العامل الحاسم في التطور، وإن كانت لها أهميتها في التكوين الذاتي للفرد (خديجة مثلًا بأنف أبيها الكبير تلفعت بالسخرية اللاذعة في مواجهة الأزمات، وحكاياتها كثيرة مع ياسين وأختها عائشة وحماتها التركية).
وما يقال من أن نجيب محفوظ أحد تلاميذ مدرسة بلزاك الواقعية، فقول بعيد عن التأني في إصدار الحكم. ذلك أنَّ التفاصيل الدقيقة الكثيرة في أعمال تلك المدرسة تجعل من البيئة وعاءً زجاجيًّا يتشكَّل ما بداخله تشكُّلًا حاسمًا جامدًا. على النقيض مما نراه في مؤلف الثلاثية، حيث إن البيئة عنده حصيلة حضارية لتاريخ المجتمع، ومن هنا تصبح شخوصه أنماطًا نموذجية بغير أن يلجأ إلى عملية «التكثيف» هذه التي اضطرت بلزاك أن يعجن «الشخصية» في أعماله ببعض صفات العصر، فجاءت بعض هذه الشخوص مفتعلة في بنيانها النفسي والاجتماعي. غاية ما يمكن الوصول إليه في تحديد اتجاه نجيب الفني هو القول بأنه يستهدف الاتجاه الواقعي في مدلوله الكبير الشامل. الاتجاه الذي يتجاوز بشموله حدود المدارس القديمة، فيستعين بكافة الأدوات الفنية القادرة على التعبير مهما صرخت هذه الأدوات بأنها «ملكية خاصة» لهذا المذهب أو ذاك. فالواقعية في الفن وجهة نظر لها أن تستخدم أية وسائل تعبيرية ناجحة. فإذا أشاروا إلى الوراثة أو التفاصيل الدقيقة الصغيرة وقالوا إنها «المدرسة الطبيعية» ينبغي أن تصحح هذه النظرة بإرساء القواعد الصحيحة للاتجاه الواقعي. على أن هناك عذرًا مقبولًا لدى هؤلاء المخطئين، نتج عن إهمال نجيب محفوظ «لتوضيح» العامل الحاسم الذي يبحثون عنه. لا ريب أننا لا نطلب إليه أن يقدِّم لنا موسوعة في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ، ولكنا قصدنا بالتوضيح، هذه السعة الفنية في المجال الدرامي، حين تتجه الرواية نحو الإفصاح — الفني — عن أهدافها.
… بقيَ سؤال أخير: إذا كانت عناية نجيب محفوظ بالتفاصيل والدقائق الصغيرة لا تقرب الاتجاه الواقعي عند بلزاك، فكيف استطاع إذَن أن يلتقط «الصورة الفنية للجنس» بتفاصيلها الدقيقة؟ والجواب يتركَّز في الدلالة الخاصة للتفصيل الواحد، وكيفية اختيار الفنان له. ياسين ينظر إلى مؤخرة زنوبة وهي تتمايل في سيرها، فيُخاطب نفسه مذهولًا: «أليست هذه قبة … بلى وتحت القبة شيخ … وإني مجذوب من مجاذيب هذا الشيخ … يا هُوه … يا عدوي!» (ص٩٦). فنحس دلالة «الجنس» من الصفات الخارجية للأنثى كما تتراءى قيمتها لياسين. بينما نجد أحمد شوكت يتزوَّج سوسن حمَّاد لأنه «شعر من أول الأمر بقوة شخصيتها، حتى كان يُخيَّل إليه بعض الأحيان — رغم عينَيها السوداوين الجذابتين وجسمها الأنثوي اللطيف — أنه حيال رجل قوي الإرادة حسن التنظيم» (ص٩٧). لم يضطر الفنان هنا إلى تفصيل الصورة الجنسية التي ربطت بين الاثنين، لأن نوعية العلاقة نفسها لم تقُم على أساس المظهر الخارجي. وفي نموذج آخَر كزنوبة العوادة يلتقط نجيب زوايا متفرِّقة من حياة هذه الشخصية ولا نستشعر أنه يهدف من وراء ذلك إلى استعراض مفاتنها الجسدية — إلا في حدود دلالاتها الخاصة كأن نتعرَّف على مقياس العصر الجمالي — وإنما نحس أن الفنان يتتبع بعدسته البصيرة هذا النموذج لننفذ منه إلى أسرار تكوينه الخاص وندرك مصيره بنظرة موضوعية، فحينما ترضخ زنوبة لأهواء ياسين تعبر عن أولى مراحلها، وحين قادت أحمد عبد الجواد إلى أن يستقل بها في عوامة كانت تجتاز مرحلة ثانية، وعندما تزوَّجَت ياسين أيقنت أنه لا فرق بينها وبين أية سيدة أخرى، بل كانت الوحيدة بينهن التي نجحت في الاحتفاظ بياسين. واستطاعت أن تكسب وُد أسرته (التي كان عائلها عشيقًا لها) فنعي جيدًا من تفاصيل ودقائق حياة هذه المومس معنًى إنسانيًّا كبيرًا، وهو ما ابتغاه نجيب من الدقائق والتفاصيل. فإذا الْتَقى بنموذج آخَر تتشابه مأساته مع مأساة زنوبة لم يضطر إلى استعادة اللوحة الكاملة وتكرارها. يصف كمال الفتاة التي يضاجعها في بيت جليلة «يا لها من امرأة طيبة عاثرة الحظ لما أقنعتني أحوالها بأنها لا تمارس هذه الحياة إلا مضطرة» (ص٢٠٢). فلم يستطرد الفنان هنا في تفاصيل هذه المرأة ودقائق حياتها، ما دامت نسخة مطابقة لنموذج آخَر سبق أن لخَّص مأساة الملايين. وعندئذٍ ترتفع تفاصيل الصورة الفنية للجنس إلى مستوى الضرورة الحتمية. فلا نستطيع أن نفصل بين المقدمات والرواسب التي تتركها «المواقف الجنسية» في حياة ياسين، حيث يرتبط المشهد بما سبقه من ظروف، ويتصل بما يليه من أحداث في نسيج عضوي حي لا يتجزأ من الكائن الإنساني ككل، ويومئ بالقمة الإنسانية التي أرادها الفنان.