احتجاج بين الطين والدماء
شاعت في نقدنا الحديث عبارة «التحليل النفسي»، دلالةً على ما يلجأ إليه الفنان من جلاء المشاعر الإنسانية لنماذجه البشرية، مستنيرًا بما توصَّل إليه علماء النفس، متوسِّلًا إلى إيضاح العالم الداخلي للذات بما توصل إليه الفن من أدوات التعبير، كالمونولوج الداخلي، حيث تتداعى الخواطر وتنساب الفِكَر وتتدفَّق النفس تدفُّقًا تلقائيًّا بلا أية ضوابط إرادية.
ورغم أن أزمة الجنس من أكثر أزمات الفرد والمجتمع الْتِواءً وتخفيًّا في التعبير عن نفسها، وبالتالي من أكثرها حاجة إلى وسائل التعبير القادرة على امتصاص كافة أبعادها … فإن القصة العربية الحديثة ظلَّت بمنأًى عن معالجة هذه الأزمة من خلال أدواتها الخاصة بها. وذلك لاقتصار مناقشتها لموضوع الجنس على الظاهرة الاجتماعية، أو الصراع بين القيم الروحية وبعضها … ولكنه لم يناقش باعتباره عنصرًا ذاتيًّا في نفس الإنسان إلا على يدَي الفنان يحيى حقي. وهو الكاتب المصري الوحيد — من جيل الرواد — الذي يتميَّز بأنه مُقِل للغاية في إنتاجه الأدبي. فرغم أنه بدأ ينشر قصصه منذ عام ١٩٢٥م إلا إنه لم يغامر بنشرها في كتب مستقلة إلا بعد ذلك التاريخ بحوالَي ثلاثين عامًا. وإذا كانت قصته «البوستجي» قد لفتت نظر النقاد عند ظهورها في «المجلة الجديدة» منذ أكثر من ربع قرن، فإن قصته «قنديل أم هاشم» التي ظهرت في سلسلة «اقرأ» هي التي أرست بصورة واضحة الملامح العامة في أدب يحيى حقي.
وشخصية «بمبة» في قصة «احتجاج» تصوِّر لنا هذه المعاني جميعها بشيء من التفصيل والإسهاب. فهي تتجاوز الأربعين من عمرها الذي قضته — كما فعلَت أمها — في خدمة إحدى العائلات ورثتها الست خيرية مع ما ورثته عن والدتها … وأصبحت بمبة مع الزمن كلبًا أليفًا لكل مَن في المنزل … ومثل الكلب تدرَّجَت من طفولتها إلى أن تجعَّدَت وجنتاها وترهَّلَت بعض أجزاء جسدها، وضمرت أجزاء أخرى … تتزوج بنات الأسرة فلا تفارقهن حتى في أحرَج اللحظات. وإذا استعصت عليها اللحظة الحرجة أرسلت بخيالها إلى غرفة العروسَين فترى كل شيء ولا ترتوي نفسها … إلى أن أقبلَ الأسطى حسن، ساكنًا جديدًا لدكان أسفل العمارة، وبدأت تراكمات السنين في أعماق بمبة تتحول إلى تغيرات كيفية سريعة.
وعندئذٍ يكون الفنان قد فرغ من الْتِقاط أهم العناصر المكوِّنة لهذه الشخصية: العنصر الاجتماعي الذي تبلور في كونها خادمة سليلة فرع من الخدم، والعنصر النفسي المرتبط بتكوينها الاجتماعي كإنسانة تعيش في حضيض المجتمع بينما هي تمارس صناعة الرفاهية للآخَرين الذين يعيشون على درجة معقولة في السلم الاجتماعي. بالإضافة إلى أنها أنثى في الأربعين لم تعرف رجلًا بعدُ، والإناث من حولها لا تكتمل أعوادهن حتى يعرفن الرجال معرفة صميمة … تستشعر أسرارها الغامضة من خلال علاقاتها الوطيدة بالعرائس. أي إن هذه الشخصية جماع لعديد من العوامل، فلا يختص بتحريكها عامل دون آخَر … وهنا يأتي دور يحيى حقي في تجسيد أحد هذه العوامل، لا باعتباره عنصرًا حاسمًا في تكوين الفرد، بل لأنه قوة دافعة في حياته.
فما إنْ يتعرَّف الأسطى حسن على الأسرة حتى يتحرَّك بين ضلوع بمبة شعور غريزي بالتعاطف مع هذا الشاب: إنه فقير مثلها، يدفع الثمانين قرشًا — إيجار الدكان — بعد عذاب، يمزح معها بلا تهيب، تستجيب وجنتاها لمداعباته بالاحمرار والضحك غير المسموع، تنتهب عيناها جسده طولًا وعرضًا … وفي هذا كله يرتعش جسمها برجفات خفيفة يتخلَّلها ذهول غريب يستولي على كيانها. وذات مرَّة الْتَفتت فرأت الأسطى حسن خارجًا من الدكان وفي يده القُلَّة، ففتحت له الباب، وانثنت معه تصحبه للصنبور، ومدَّت يدها لتأخذ منه القلة، ولكنه تشبَّث بها: «خلِّي عنك».
وتلاشت أيديهما برهة، وانحنى الأسطى حسن ووضع القلة تحت الصنبور، ووجه بمبة الهادئ تتغيَّر معالمه في لحظة، تندلق عليه ضحكة ساذجة وتلمع عيناها ببريق صبياني خبيث … ومدَّت يدها المبتلة نحو قفاه ولمست بإصبعها جلده فانتفض الرجل وهبَّ واقفًا، حركته المفاجئة أذهلتها فقفزت من مكانها والتصقت بالجدار وسترت رأسها بذراعَيها، كطفل يلعب «الاستغماية» لم يتمالك نفسه من الضحك، شيء في وقفتها وضحكها وجزعها أفقده اتزانه، فإذا به، على غير انتظار، يملأ كفه بالماء ويرش به وجهها، فغَرَت فمها في صرخة عالية طويلة مستمرة تقرب من «صوات» النائحات، كأنها تتوجَّع من ألم حادٍّ، أو كأنها مُقبِلة على نوبة صَرَع، وأحسَّ الأسطى حسن أن شعر رأسه يقف، صرخة مخيفة انخلع لها قلبه، وقف بُرهة حائرًا، لم يُخرجه من دهشته سوى صوت الماء تشرق به القلة ويقرقر في حلقها، قفل الأسطى حسن الصنبور، وعاد لبمبة، وقف بجانبها بُرهة ثم ربت على ظهرها ولمس رأسها وانحدر ذراعه إلى كتفها واستدار حول رقبتها، تضاءلت بمبة وكادت تهبط إلى الأرض. قال لها: لمَّا انتي مش حمل الهزار يا بنت الحلال بتهزري ليه؟
كان جوابها: رش الميه عداوة.
– لا أبدًا، هو فيه أعز عندي منك، دَنتِ ضفرك عندي بالدنيا يا ست بمبة!
وأخذت بمبة تُعيد لف الطرحة بيدَيها، وعادت لذهنها كلمة سمعتها من قبل عشرة أيام كانت قد نسيتها فإذا هي الآن تملأ رأسها: يا ريت يشوف له واحدة بنت حلال تصون له نعمته.
وربت الأسطى حسن مرَّة أخرى على كتفها واستسمحها وأخذ القلة وخرج (ص٣٩، ٤٠).
هكذا يدفع الفنان بالرواسب الكامنة في أعماق الشخصية إلى السطح، فتبدو أزمة بمبة الحقيقية من خلال العلاقة الاجتماعية بينها وبين الأسرة من جانب، وبينها وبين الأسطى حسن من جانب آخَر … إنها لا تتحسَّس تجاعيد وجهها مطلقًا، لأن نفسها لم تكُن تجعدت بعدُ، فما تزال تكنز في ثناياها الشيء الكثير، مما يشترك في حيازته الناس جميعًا: أعني هذه القوة الدافعة في نفس الإنسان، التي قد تختفي تحت ركام الزمن، وفي غمرة الظروف الشاقة المريرة … ولكنها لا تخبو أبدًا، بل تتوهَّج بين حين وآخَر، كلما دفعت بها إلى السطح إرادة فنان كيحيى حقي، يتلمَّس البساطة العميقة في أتفَه مظاهر الحياة، فيصوغ من جزئياتها العادية شيئًا غير عادي. فإذا تبلورت هذه الإرادة في شخصية كالأسطى حسن، فإن الأربعين عامًا التي قضتها بمبة في غياهب العيش الوضيع، تتجسَّد فجأةً في أنثى تتشبَّع كل ذرات دمها بلهيب الجنس … لا كظاهرة اجتماعية بين الرجل والمرأة، ولا كضرورة عضوية يزدهر بها الجسد، وإنما كقوة دافعة نابعة من الطبيعة الفطرية للفرد … فتحمرُّ وجنتا بمبة وتبرق عيناها وتصرخ إذا رشها حسن بالماء، ولا نعثر على اللحظة الميكانيكية في الجنس. لا لأن الأسطى حسن شاب، وبمبة جاوزت الحلقة الرابعة، بل لأن الفنان يستهدف أساسًا النفاذ إلى تلك القوة الكامنة في أعماق بمبة حتى يكتشف معنى طبيعتها والعناصر المكوِّنة لها … لهذا تثور بمبة ثورة عارمة حينما يتحدَّث أفراد الأسرة عن زواج الأسطى حسن، ويقترح كلٌّ منهم «بنت الحلال» التي تُسعده، دون أن يشير أحدهم بحرف إلى بمبة … بل لقد دهش بعضهم دهشةً بالغة، وقابل الآخرون الأمر بالمزاح والمداعبة، حين صاحت بهم «يعني إيه … تاخدوا الجدع من إيدي؟» إذ بات لديها ما يشبه اليقين بأن هذا الشاب — الرجل سوف يكون لها، رجلها … فهي أنثى … أنثى … وأعماقها تتضوَّر جوعًا إلى الرجل، أي رجل … مهما جاوزت الأربعين، ومهما كان حسن شابًّا، وغريبًا، ولا تعرفه. وهي لا تعبِّر عن ضراوة الجنس تعبيرًا ضاريًا أو وحشيًّا، لأنه لا يتوسَّد في خفاياها نتيجة أزمة طارئة أو عابرة … لقد أمسى مع السنوات الأربعين رمزًا للحياة نفسها … ليس رمزًا خياليًّا … إنه يموء بالرغبة الدافعة لخلاياها أن تستصرخ الضمير الاجتماعي حقها في الحياة. ولم يعُد هذا الحق هو ارتفاع مستواها المعيشي، فأعصاب وعيها الاجتماعي ماتت على المستوى الراهن. ولم يبقَ لها سوى أعصاب الجنس التي تختلج لمرأى حسن، كما كانت تختلج في ليالي الزفاف مع بنات الأسرة. على أن الفنان كان حَريًّا وهو يلتقط هذه الخلجات، ثم وهو يبرزها ويصوِّرها، ألا يقطع همزات الوصل بينها وبين نوعية أحاسيسها الأخرى. وهذا هو سر عظمة المنهج التعبيري عند يحيى حقي … لقد تخيَّر شخصية بمبة من بين مئات النماذج الصالحة للتعبير عن أزمة الجنس عند العانس. ولكنه استلهم من هذه الشخصية بالذات عدَّة حقائق من خلال تكوينها النفسي والاجتماعي والذهني، ثم تناول هذا التكوين بالتشريح الدقيق، ففصَّل لنا الخيوط المتشابكة الصانعة لمأساتها … فلم تكُن هذه المأساة هي «الجنس»، وإنما كان الجنس أحد معالم المأساة، كما كان رمزًا مكثَّفًا لها في الوقت نفسه. والمأساة الحقيقية في حياة بمبة هي حياتها نفسها … الحياة التي تنخفض بالإنسان إلى ما دون المستوى الحشري للحياة، وإذا ارتفعت لحظة إلى المستوى الإنساني مع الأسطى حسن، فإن الجنس هنا يكون بمثابة القوة الدافعة التي أسهمت في ارتفاعها … ولا يكون القصَّاص مشغولًا حينئذٍ بالقشرة الخارجية، لانهماكه في تتبُّع عملية الارتفاع هذه، بل عملية الحيادية. ولا يصبح الجنس ظاهرة اجتماعية تعلو وتهبط حسب المستوى الحضاري للفرد والمجتمع، ولا يصبح قيمة خلقية تتقدَّم أو تتخلَّف حسب مستوى الوعي … وإنما يصبح تجسيدًا عميقًا لأخلد ظواهر الحياة وأروع قيمها على الإطلاق. لذلك اقترنت ببساطة أسلوب يحيى حقي صفة العمق، لأنه يتوغَّل بهذه البساطة إلى جوهر الظاهرة البشرية، إلى لُب القيمة الإنسانية، فلا يقيس هذه أو تلك بمدى ما وصلت إليه بمبة أو حسن من رقيٍّ أو انحطاط، بل بمدى ما وصلت إليه الإنسانية نفسها يوم ولادتها من قوى دافعة إلى أمام أو قوى جاذبة إلى الخلف.
ولا يغفل يحيى حقي، أن التصادم بين تلك القوى المضادة هو المحور الدرامي للمأساة الكبرى، مأساة الوجود الإنساني. ولذلك فهو ينتهي من كشف القوى الدافعة للفرد، ليضع وجود هذا الفرد نفسه، موضع التساؤل. إنه ينتهي من رصد هذه الظاهرة البسيطة، ليضع العالم كله بين قوسين.
•••
والقوسان لا يضمَّان احتجاجًا على اللامعقول، بل احتجاجًا على المعقول! وفي مجموعة «دماء وطين» التي صدرت ليحيى حقي عام ١٩٥٥م عن سلسلة «اقرأ» نعثر على قصتَين يفسران هذا الاحتجاج.
أولاهما «قصة في سجن» كما عنونها المؤلف … والحق أن السجن في القصة ليس مجرَّد المكان الذي رُويَت فيه القصة على لسان بطلها، وإلا كان عنوانًا ساذجًا. السجن الحقيقي هو الاستجابة الشعورية لدى هذا البطل إزاء الأحداث التي مرَّت به منذ تسلَّم قطيع الغنم من أحد الأثرياء، ليقوم بتوصيله إلى مدينة المنيا، إلى أن الْتَقى بالمرأة الغجرية برفقة عصابة من بني جنسها لسرقة المواشي.
وما إنْ يقبض البوليس على العصابة حتى تكون المرأة قد هربت إلى مكان عليوي «ومدَّت الغجرية ذراعها وتعلَّقت برقبته. لم تكُن ترتعش، ولا كانت سريعة التنفس. وكل ما تغير منها أن زالت ضمة شفتَيها فبانتا متضخِّمتَين، وانفجرتا عن سِنَّين كبيرتين، وتركت عينَيها مسبلتَين، لعله التعب، أو كأن هذه أول تجربة صادفها عليوي» (ص٩٢) … بل هو أول حصار فني تُصادفه هذه الشخصية، فالمؤلف يلتقط من لحظات حياتها المتزاحمة، اللحظة النموذجية التي تُتيح له الغوص إلى أعمَق أعماقها … «وطال صمته، يعلِّله ضميره بأنه من آثار تربيته التي علَّمَته منذ الصغر أن يرهب الغجر ويخشاهم. ولكنه لم يردَّ ذراعَي المرأة، بل أحسَّ بعد قليل أن ما انحلَّ من أعصابه عاد لينفر في جبهته، ويجف في حلقه، ويرتعش في قلبه. واجتمع هذا وذاك على ملء عروقه بدم يغلي ويطن في أذنَيه … وإذا بذراعَيه على ذراعَيها يتبادلان ضمتها … وزاده الْتِهابًا أنها ابتدأت تقترب منه شيئًا فشيئًا … وكان يدفعها نحوه شعور هو خليط من الفرح والعناد … وربما لم يكُن شوقها للرجل، بل لتذوُّقها لذة حريتها في ليلتها الأولى.» هذه إذَن معالم اللحظة التي حوصر فيها عليوي: شخصية أنهكتها ضروب الزمن، وطال البعاد بينها وبين الحياة الرخية … والشخصية الأخرى مجرَّد مرآة تصوِّر لنا الصراع داخل عليوي. والجنس هو المجهر الذي ترصد به طبيعة هذا الصراع. «ثم ما إنْ بادلها الرجل ضمتها حتى انطلقت من مكمنها رغبة قوية طالما كُبتَت، فكانت في انفكاكها هوجاء … ولكنها حريصة على نفسها ألا تفنى سريعًا. فهي تضغط على حِدَّتها وتغطي عنقها بستار من الاتئاد واتزان الخطوة … وجعلت كلَّ همِّها أن تُعطي الرجل ما لم ينَلْه من قبل، وأن تأخذ منه أكبر ما تستطيع. وكانت — وفمه على فمها — تلمع في نظرتها — رغم الظلام — صورة الانتصار. ولو كان للغريزة جسد وأشرق عليهما لهزَّت رأسها رضًا وافتخارًا، ولدافعت عن نفسها بأنها لم تكُن لترضى من أغلب الناس بالعبارة المحتشمة المتسربلة في الحياء والخفر، إلا لأنها تنقل لأفراد قلائل منهم، وفي أوقات متفرقة، كامل قوتها، فيهبونها أرواحهم، ويدعونها أن تحلَّ بهم من غير شريك … ولم تطل القُبلة؛ لأن المرأة استيقظت وتنبَّهت لموقفها، فقامت وسحبت الرجل من يده، ودخلت من ثغرة في سور الوابور، وشملها الظلام … وكان على الكلب هذه الليلة أن يحرس مع الغنم سيده» (ص٩٣).
إن اللحظات، التي تكوِّن في تسلسُلها المنطقي حياة عليوي، لا تستقبل هذه اللحظة الجديدة بشيء من الرضا؛ لأنها تختلف كثيرًا عن منطق حياته كلها، بل هي تؤدي — فيما بعدُ — إلى سلسلة أخرى من اللحظات التي تتعارض مع هذا المنطق تعارُضًا يؤدي بدَوره إلى ذروة المأساة، فلم يكُن اللقاء الجنسي الحار بينه وبين التجربة لقاءً عاديًّا بين رجل وامرأة، سرعان ما يفترقان فور انطفاء شهوتهما … كلا، لقد باع عليوي كل ما يمتلك من كرامة وشرف في سبيل لحظته تلك، بأن عاد مع المرأة إلى بني جنسها بقطيع الغنم الذي لا يمتلك فيه حملًا واحدًا … عاد ليشارك الغجر أسلوبهم في الحياة، فكان أن قُبض عليه وسِيق إلى السجن ليروي لنا قصته قائلًا في نهايتها: «أنا توِّ ما اطلع أخرج أدور عليها» … على الغجرية؛ على المرأة، على اللحظة الفذة التي عاشها في أدق أعصابه، اللحظة التي ترسم قوسَين كبيرَين متقابلَين، يضع يحيى حقي العالَم كله بينهما.
فنحن نمضي مع الفنان وهو يسرد لنا القليل من التفاصيل في حياة عليوي، نمضي في طريق طويل من العذاب عاشه ويعيشه الإنسان الفقير في بلادنا، وهو عذاب اللقمة، وعذاب اليأس وعذاب الهوان. ومقوِّمات هذا العذاب معقولة للغاية، ليست خارجة عن الزمن، أو عن إرادة الإنسان أو التاريخ … إنها مقوِّمات دامية تكوَّنَت عَبْر آلاف — بل ملايين — المعقولات، ثم تنتهي إلى أمر غاية في المعقولية: إن عليوي ينغمس في لحظة مليئة بالحياة مع امرأة غريبة، فيضرب عُرض الحائط بكافة المواضعات التقليدية كالشرف والكرامة، ولا يذهب بالغنم إلى المكان الذي أرسله إليه صاحبها، ويعود إلى المرأة، إلى اللحظة الحية. فإذا اختطفته إحدى المواضعات التقليدية إلى السجن، فإنه لا ينسى بين القضبان أنه — حين يخرج — سوف يبحث عنها حتى يجدها؛ لأنها القوة الإيجابية الوحيدة في حياته التي تُخرجه عن نطاق الرتابة والآلية والموت. وحقًّا، هو يخرج من قبر الحياة الراكدة الملولة، إلى عالم المأساة، حيث تصطدم أغلاله وقيمه وبقية قواه السلبية بصخور وجوده الجديد فينزف جسده، وترسم دماؤه علامة استفهام كبيرة حول دلالة هذا الوجود وقيمته. وهو يصوغ علامة الاستفهام هذه من الجنس، من أتون اللحظة الحية العامرة بشهوة الحياة … وهنا بالتحديد يحاصر يحيى حقي العالَم كله من خلال عليوي بين قوسين، ليتساءل: لماذا؟ لماذا يُحرَم الإنسان من حقه في الحياة؟ لماذا ترسم ظلاله علامة الصليب عندما يفتح ذراعَيه ليستقبل الدنيا؟
والفنان لا يجيب! إنه يكتفي بطرح القضية في أكثر صورها وضوحًا وبساطة، وتعاطُفًا مع هذا الإنسان المأساوي ووجوده الدامي. ويُخيَّل إليَّ أن الوضوح والبساطة في أسلوب يحيى حقي، يحتِّمان عليه البُعد عن مناقشة القضايا الإنسانية الكبرى من خلال نماذج المثقفين … غير أنني لا أستطيع القول بأنَّ هذا الأسلوب هو المفتاح الفني لأدب يحيى حقي … فالأسلوب هو ظِل المفتاح فقط. ومفتاح هذا الفنان — فيما أرى — يكمن في الوحدة العميقة بين منهجه في التفكير ومنهجه في التعبير.
وكثير من أدبائنا يتخلَّف منهجهم التعبيري عن منهجهم الفكري أو العكس. ولكن هذه الوحدة المنهجية عند يحيى حقي هي الظاهرة الأساسية في أعماله الأدبية كلها … ولقد أسهمت هذه الوحدة الفكرية التعبيرية في معالجته لقضية الجنس علاجًا بعيدًا عن السرعة والتسطُّح. إنه لا يُعير الْتِفاتًا إلى القشرة الخارجية للعلاقة الحميمة بين عليوي والغجرية، وإنما ينفذ من خلال هذه العلاقة بعينها إلى جوهر الفرد البسيط … فلا يصبح التعارُف الجنسي بينه وبين المرأة مغامرة ناجحة، لأنها تكلِّفه أشياءَ كثيرة ما كان ليفكِّر فيها لولا أن هذا التعارُف دفع به إلى خارج حدوده العادية. فقد أحسَّ أنه يُولَد من جديد بين أحضان الغجرية، فكان لقاؤهما يتَّسم بقوة إيجابية دافعة للحياة تمثَّلت أساسًا في نشوة جسدَيهما المتأجِّجَين بالشهوة. ثم يرتطم الميلاد الجديد بالقوى الكثيرة الغامضة التي تحيط بشخصية عليوي من الداخل والخارج، وتنفجر المأساة! وليست المأساة هي «السجن»، بل إن السجن نفسه ليس هو القضبان الحديدية التي ضمَّت عليوي خلفها … كلا إن المأساة الحقيقة هي العجز الدائم المستمر من جانب الإنسان الفرد — وقواه الإيجابية الدافعة إزاء الاصطدام المتلاحق بينه وبين بقية القوى السالبة الهاربة خلف أستار كثيفة من رواسب القرون والجهل والتخلف، الرواسب التي تشكِّل قوى اللاوعي الكامنة في نفسية عليوي وتكوينه الذهني — لذلك يصوِّر يحيى حقي هذه الشخصية بحرص شديد على أدَق جذورها الاجتماعية والنفسية والذهنية … وهو كما يجعل من الغجرية المرآة السلوكية لتطوُّر عليوي، فإنه يجعل من الشاب الذي يستمع إليه في السجن المرآة الحضارية التي تسجِّل هذا التطور بالكثير من السخرية والقليل من التأثُّر الجاد. والمرآتان تعكسان المشهد الجنسي بين عليوي والغجرية على غير ما تراه العين الساذجة القصيرة النظرة، إنهما تلتقطان مشهدًا مأساويًّا مكثَّفًا، تذبح فيه شهوة الحياة على صليب من القوى المضادة والقيم المتصارعة، ويظلُّ الإنسان ضحية أبدية، ترسم دماؤه بغير انقطاع علامة استفهام كبيرة.
•••
ولعل قصة «أبو فودة» التي تضمها نفس المجموعة السابقة «دماء وطين» خير تعبير عن علامة الاستفهام هذه … إن جاسر هنيدي يخرج من السجن — وهي حالة شعورية تختلف عن حالة عليوي — وفي منزل أحد أقاربه يلتقي بها … بالمرأة وهو رجل أمضى خمسة عشر عامًا في السجن، ونرجس «أبعَد ما تكون عن القروية الرعديدة التي لا تخلو مع رجل إلا وملأت رأسها فكرة واحدة: أنها عُرضة لهجومه، وأن انتصاره عليها لا يتوقف على إرادتها، بل على الظروف. فلو كانت ملائمة له خيم عليها جو من التسليم والعجز، وقد تناضل قليلًا ولكنها تنتهي دائمًا بالخضوع، وأغلب الأمر أنها تنسى نفسها وتشترك في النهاية فيما أُكرهت عليه. فهي تعيش طول عمرها ونظرها لنفسها أنها مطفأ شهوة، لا يربطها بالرجل إلا قانون واحد: أن تحرِّك — من بُعد — شهوته دائمًا بحيث لا تخبو لها نار. لا تُقدِم، ولكن إذا رغب، عليها أن تعطي» (ص١١٤). ليست نرجس هذه المرأة … إنها — على النقيض — امرأة مِقدامة طَموحة، تسرق جيوب الرجال عن طريق قلوبهم، وما تزوجت إسماعيل — قريب جاسر — إلا للانتفاخ الذي طرأ على جيبه يومًا، وعندما هبط هذا الانتفاخ، كانت تفرط في نفسها بمنفلوط يوم السوق لأحد مشايخ الخفر … «وتوصلت على يدَيه، وارتقت إلى معرفة بعض شباب الموظفين. ولأجلهم كانت إذا خرجت تدس في قعر قفتها — تحت البيض وربطة الكتاكيت — الجلباب الذي يروقها. بعضهم يقنع به، وبعضهم تدفعه الحاجة للمرأة، ويأنف من ثيابها وقدميها، فيجمِّلها ويلبسها من ملابس الرجال» (ص١١٦). الْتَقى جاسر بزوجة قريبه إذَن، وهو أشد ما يكون تعطشًا إلى المرأة، أية امرأة، ولذا كان طبيعيًّا للغاية ما حدث … «قام إليها، وماتت يده على معصمها … جرَّها معه. لا يزال محنيَّ الظهر، خطوته سريعة، وأغرب شيء فيها أنها قصيرة، شيء خفي يشد قدميه الواحدة إلى الأخرى. وسترهما ظلام الغرفة» (ص١١٨).
وإذا كان جاسر قد ذهب إلى السجن المرة السابقة احتجاجًا على إهانة لحقت به من أحد زملائه لأنه لم يستطع أن يحمل حجرًا ضخمًا فقتله وهو غاضب، فإنه لن يذهب هذه المرَّة إذا قتل إسماعيل — وهو كامل الوعي والهدوء — احتجاجًا على قسوة الحياة التي تجعل من نرجس شريان حياته، زوجة ذلك الرجل. وضمَّهما منزل واحد … في لذة لا يعرفها أكثر الناس (ص١٣٨).
ورغم ذلك تحدث المأساة … يذهب جاسر إلى عمله كشأنه كل يوم، وينفجر الديناميت في المحجر، فيفقد بصره … ويعيش بقية حياته يمد يده بالسؤال.
ولأول وهلة لا نستشعر في هذه النهاية عقابًا إلهيًّا من السماء ضد جرائم جاسر وإنما نحن نشم رائحة المأساة منذ بدأت العلاقة بينه وبين نرجس، لا كامرأة متزوجة، ولا لأن زوجها قريبه … فهي امرأة تحترف — بعد ذلك كله — الدعارة، وإنما لأن نرجس بالذات تمثِّل نبع الحياة الذي تغيرت به حياة جاسر تمامًا، النبع الذي جعل من خمس عشرة سنة في الليمان، حلم ليلة! أي إن العلاقة البدنية بينهما كانت السِّمة الإيجابية الوحيدة في صحراء جاسر الممتدة عَبْر خمسة عشر عامًا … إلا أن الزمن والتقاليد والعُرف وبقية الظواهر السلبية في تلك الصحراء كان لا بد أن تغمر السمة الإيجابية بالرمال، وتقتلها في وهاد الحرمان من النور والرؤية … فيُصاب جاسر بالعمى رمزًا عميقًا إلى اختناق القوة الدافعة في كيانه تحت وطأة القوى المعادية لهذا الكيان، لحياة هذا الكيان.
ولعلَّ أبرز ما يميز يحيى حقي في تصويره هذه المعاني التجريدية هو إحصاؤه الدقيق لشعيراتها الحية في أعماقنا … فهو لا يتتبَّع جاسر من بوابة الليمان إلى بيت قريبه إلى نرجس إلى المحجر إلى هاوية المأساة إلا من خلال أدَق مشاعر الشخصية وظلال الحديث وخفقات التجربة … لذلك تأتي صورة الجنس من الداخل في أدب هذا الفنان، إنه لا يتجاوز اللحظة الميكانيكية في العلاقة فحسب، بل يتجاوز كونها علاقة مباشرة بين رجل وامرأة، ويرفعها إلى مستوى الرمز. وهي لا تستتر بذلك خلف أودية كثيفة من التجريد، وإنما تستظلُّ بالدلالة العميقة الناتجة من النفاذ الحاد لبصيرة القصَّاص.
وهكذا نحن لا نكتشف معنًى للجنس في أدب يحيى حقي، ولا تفسيرًا لأزمة الجنس في قصصه، ولا علاجًا لقضية الجنس عند الأجيال المعاصرة … إننا نكتشف تحليلًا واعيًا للطبيعة الإنسانية في الفرد، وإحاطة شاملة بالعناصر المكونة لهذه الطبيعة، ثم إبراز «الجنس» كعامل إيجابي يدفع الإنسان … غير أن هذه القوة الدافعة تصطدم دائمًا في النماذج التي تعيش حياتها في غيبوبة انحطاط العيش والوعي — تصطدم بجدر سميكة تدمي صاحبها وتخطِّط حياته بلون المأساة، والمأساة هنا ليست مأساة وجودية، ليست ثورة على اللامعقول، وليست مأساة اجتماعية، ليست ثورة طبيعية … ولكنها مأساة التناقض المَرير بين العناصر الأصيلة في طبيعة الفرد، تستمد القليل من مأساة الوجود الإنساني، والكثير من مأساتنا الاجتماعية. ثم تتفرَّد في النهاية بخصائص ذاتية مستقلة نابعة من ضراوة الصراع الذي لا يمل بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والمجتمع وبين الإنسان والطبيعة، ولا يصبح الجنس — على هذا النحو — وحشًا ضاريًا، كما سبق أن قلت لأنه لا يشكِّل في ذاته جوهر المأساة، وإن كان أحد معالمها الرئيسية.
والغريب حقًّا، أن هذه الوحدة المنهجية في التفكير والتعبير لم تسلك في التعبير عن نفسها الطرق التقليدية، بمعنى أنه لم يستخدم — مثلًا — المونولوج الداخلي في تجسيد البنيان الداخلي والعوالم الشعورية للشخصيات … ولكنا نراه يعتمد على أقرب المظاهر السلوكية بساطة، فهو يُرافق بمبة في علاقاتها العادية ببنات الأسرة والأستاذ محمود والست خيرية، ثم بالأسطى حسن. ومن الكلمات المغرقة في البساطة، بل في السذاجة أحيانًا، من فم بمبة، يلتقط الفنان ما يحمل في مجموعه دلالة هامة يشارك المتلقي في اكتشافها. لذلك تتبيَّن حقيقة الرغبة الهائلة بين ضلوع بمبة دون أن تتشنَّج ذرات دمها بلهيب الجنس، بصوت مسموع، وإنما يتصاعد هذا التشنج همسًا يلفح وجداننا بمعنى أكبر من الرغبة السريعة الزوال، بمعنى يترسَّب في كياننا مضيفًا إليه جرعة من الإيجابية الدافعة للحياة. وعندما تفاجأ بمبة بالسخرية اللاذعة من حولها — لمجرد أنها فكَّرَت في الزواج من الأسطى حسن — نتلقى مأساتها بتعاطف ومشاركة ووعي … تمامًا كما تلقينا مأساة عليوي، فلم نتوقف كثيرًا عند السطح المظهري الذي جاء به إلى السجن، لأننا توقفنا كثيرًا نتأمل طبيعة العلاقة بينه وبين الغجرية. فلم يكُن أمامنا سوى هذا الإنسان المعذَّب الطامح إلى الحياة فحسب. وتسمو لحظات النشوة بينه وبين المرأة إلى أن تصبح تعبيرًا رائعًا عن شهوة الحياة … على أن السجن الكبير يقذف به إلى السجن الصغير لنستقبل منه بعدئذٍ إنسانًا جديدًا هو جاسر … وتتكرَّر الكارثة في دورة تراجيدية كاملة، كارثة التمرُّد الرهيب من جانب القوى المضادة، في ذات الفرد للقوى الإيجابية الدافعة في حياته … وعندئذٍ يتحوَّل الجنس إلى لحظة غنية بالحياة وإن لم تكُن محور الحياة.
ويؤسف الباحث حقًّا ذلك الإقلال الشديد من جانب يحيى حقي في الإنتاج الأدبي، لأنه يفتقد وفرة النماذج التي يستشهد بها في تسجيل هذه الظاهرة الهامة في أدبنا الحديث.