الموت والجنس في أدب البدوي
لست أعتقد أن قصَّاصًا مصريًّا من جيل الروَّاد، الْتَفتَ إلى قضية الإنسان الكبرى في أعمَق أبعادها، كما الْتَفتَ إليها الفنان العظيم محمود البدوي. فقد ظلَّ المصير المأساوي للبشر مشهدًا رئيسيًّا في أعماله الأدبية منذ بواكير إنتاجه الفني، وإن تفاوتت قيمة هذه الأعمال من مرحلة إلى أخرى. على أن مأساة الوجود الإنساني في أدبه تمتزج امتزاجًا عميقًا بقضية «الجنس» مما يجعل لهذه المأساة لونًا خاصًّا يتفرَّد به البدوي بين كتَّاب القصة الحديثة على الإطلاق. فهو لم يقصد إلى معالجة العلاقة الجنسية بين البشر في ذاتها، وإنما كتجسيد مباشر لقضية القضايا في حياة الإنسان: المصير.
والباحث في أدب البدوي يدهش كثيرًا لانزوائه عن أضواء الدراسة والنقد، بالرغم من أنه الأديب اليتيم في جيل الرواد الذي يستحق الأولوية بالنظر، لما كان عليه من وعي عميق بفن القصة من جانب، وأصالة شديدة الذكاء من جانب آخَر، ولما كان عليه من جرأة في ارتياد أعقَد المسائل الفنية والإنسانية. فقد كان الرائد الحقيقي لرواية الأقصوصة بضمير المتكلم … وإذا بدَت هذه الخطوة الآن، وكأنها شديدة البساطة، فإنها كانت ثورة منذ ربع قرن. ذلك أنه بالإضافة إلى كونها أداة صعبة التعبير عن بقية الشخوص والأحداث والتجارب، فإنها — أيضًا — كانت أداة هامة في تقريب أدبنا من الاتجاه الواقعي الذي سيتشرب التجربة النفسية في مختلف انعطافاتها.
ولم يكُن هذا المنهج التعبيري بمعزل عن منهج فكري مماثل … يلتقط جزئيات الواقع دون التورُّط في مبالغات تعتمد على الصدفة — كتلك التي كان محمود تيمور غارقًا منها — أو مبالغات تعتمد على تضخم الانفعال والأحاسيس، كما شاهدنا في الأقاصيص الغارقة في الرومانسية عند محمود كامل.
كان البدوي في واقع الأمر يقصُّ تجربة مَريرة وصعبة للغاية، تلك هي محاولة التعبير غير المُفتعَل عن اللحظة الحضارية التي يعيشها … فلم يجئ أدبه تقليدًا لأحد من كتَّاب أوروبا كما صنع غيره، وإن تأثر بالأسلوب الشفاف والرؤية الشعرية التي نلحظها في أدب تشيكوف … وقد حدث ذلك على أثَر إدمان هذا الفنان لإنتاج الكاتب الروسي، الذي نقل عنه إلى العربية في مستهل حياته الأدبية الشيء الكثير.
وبالرغم من أن البدوي وضع كلتا يدَيه على مَعين لا ينضب من المعاني الإنسانية الغزيرة الخصبة، إلا أنه لم يلتفت كثيرًا إلى الأسس النظرية لهذا المعنى أو ذاك، مما أعطى فنه نكهة التلقائية والعمل العفوي، فلم يرتبط صاحبه أساسًا بمنطقٍ ما يتصل بفكرة معيَّنة … ومن هنا يتَّسم هذا الفن بالعمومية الشديدة في التصدي لمأساة الإنسان، والبعد التام عن العناء الفكري المتكامل … وربما كان هذا السبب بالذات قد نأى به عن وعي النقاد ذوي الاهتمام بالقيمة الاجتماعية، فبينما تضج بعض قصصه بما يُعانيه أبطالها من بؤس وضياع، لا نرى ناقدًا واحدًا ممَّن تعنيهم هذه الموضوعات يلتفت إليه مثلًا، وكذلك لم ينتبه إليه مَن تجذبهم أضواء التراجيديا الإنسانية على الرغم من أن الفجيعة الحية هي الصورة الدائمة التجدُّد في أدبه.
كما تسبب انعدام ارتباطه الفكري بأحد الأبنية النظرية الكاملة أن جاءت بعض أعماله يشوبها الفتور والسطحية إذا ما انفصلت عرى التَّفاهم بينها وبين روح الفنان لأسباب بعيدة عن الفن … الأمر الذي قد يتفاداه ذوو النظريات في الأدب والحياة.
ويسلك محمود البدوي طريقًا وعرًا في الاستجابة لأحاسيسه عن مأساة العبد الإنساني بواسطة القصة القصيرة … وما زلت أذكر تلك الأقصوصة الفرنسية التي تقول بأن رجلًا أخذ يكتشف أن أبناء جيله وأصدقاءه يتساقطون الواحد بعد الآخَر، حتى أتى الموت على جميعهم، فتأمل الرجل حياته في هذا العالم المروع ولم يرَ بدًّا من أن يكون الحل النهائي هو الانتحار. وعندما نشرت هذه القصة، تناولها النقاد في أقطار كثيرة بالتحليل … فقال ناقد ماركسي إنها تأكيد مُلحٌّ لما أصبح عليه المجتمع الإنساني من قوة ينتحر الفرد دونها … فقد انتحر الرجل لأنه وجد أصدقاءه يموتون، وموت الأصدقاء هنا ترمز به القصة إلى تصوُّر انعدام المجتمع، فكان لا بدَّ أن يموت هو الآخَر، فلا حياة للفرد بغير المجتمع. ثم تناولها ناقد آخَر يناصر الاتجاه الوجودي في الفن قائلًا إن الانتحار كان تجسيدًا رائعًا للإحساس الوجودي في الفن، قائلًا إنَّ الانتحار كان تجسيدًا رائعًا للإحساس العميق بالعبث … ذلك أن موت الأصدقاء في القصة كان رمزًا لتوقُّف الإنسان لحظةً عن الانغماس في ذهول الحياة اليومية الذي يخدِّر حواسنا في الحقيقة البشعة. إن هذا الوجود غير مبرَّر، ومن العبث التواجُد فيه أصلًا، ومن ثَم تصبح قمة الصدق مع النفس هي الانتحار، فهو الاحتجاج الواقعي الوحيد على رعب الإدراك الحقيقي لمأساة البشر.
ولقد امتدح الناقدان في النهاية هذه القصة، بالرغم من أنهما يقفان على طرفَي نقيض، ذلك أنها تضمَّنَت شيئًا يعلو كثيرًا فوق الاتجاه الفكري أو المذهب الأيديولوجي … هو الصدق الفني، العامل الحاسم في قيمة العمل الأولى. هذا اللون من الصدق هو السمة الأساسية في أدب البدوي.
وهو ليس صدقًا أخلاقيًّا، وإلا اتَّسم بالنسبة التي يختلف عندها ذوو الاتجاهات الأخلاقية المضادة … ولكنه صدق يتجاوز بشموله الإنساني حدود الاعتبارات الخلقية، ليركِّز بصيرته على الدلالة الفنية لهذه التجربة أو تلك، ولا يقيس درجة حرارتها بالقيم السابقة على تحقُّقها الفني … وإنما يقيم صرح العمل الأدبي من مواءمة العناصر المكونة له مواءمة تبعد به عن الخلل الجزئي أو الشلل الكامل. فإذا اختلَّ أو شُلَّ، توقف عن أداء رسالته الإنسانية، فضلًا عن توقُّفه عن أن يكون فنًّا.
إن قصة «الأعمى» في مجموعته المبكرة «رجل» صدرت عام ١٩٣٦م؛ تحكي لنا قصة «سيد» مؤذن القرية الفاقد البصر، والذي يرعب النساء كلما حاولن الاقتراب من بئر المسجد الذي يحرسه. ولكن — فجأة — يغيِّر من مسلكه هذا مع امرأة غجرية اسمها «جميلة». وذات يوم طلب إليها أن ترافقه إلى مكان ما من القرية، فطلب أن يعبُرا قناةً مارَّة وسط الحقول. وعندما تلوَّثَت أقدامها بالطين جلست جميلة تغتسل، وما إن انتهت حتى قالت له بصوت ناعم: «ناولني …
فمدَّ يده إلى الجرة … فلمست يدها، فكأنما لامسه لهبٌ كاوٍ، فوقف ويده تلاحق يدها. ثم أمسك بيدها ورفعها عن الجرة، حتى استطاع أن يقبض عليها بقوة، فمدَّت وجهها مشدوهة وقالت وصوتها يرتعش: ناولني …
فرفع يده إلى ذراعها وضغط، وقد أحسَّ بألياف لحمه تلتهب … ﻧ… ناولني!
فأبقى يده ضاغطة على ذراعها، وهو واقف يتردَّد.
– ما الذي تريده مني؟
فلم يقُل شيئًا. ثم مالَ عليها وضمَّها إلى صدره وضغط على جسمها فتراخى، وحملها على ذراعَيه بسرعة ودخل بها حقل الذرة.» ومنذ الوهلة الأولى لا نستشعر قيمةً ما من أن يكون هذا الرجل أعمى، على أن هذه القيمة تبرز رويدًا مع تحليل الفنان لتكوين «سيد». فقد صوَّره لنا إنسانًا بلا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، وعاجزًا في آنٍ واحد. ومن ثَم كان فقدان البصر رمزًا عميقًا إلى عجز الإنسان تجاه مصيره … ومن قبيل الهزل أن نتوهَّم الفنان غير واعٍ لهذه الرمزية العميقة الدلالة في تجربته الفنية لأن الأحداث جميعها والشخوص كانت تصوغ هذه الرمزية في بناء منطقي متسلسل. فأن يكون «سيد» رمزًا لعجز الإنسان، فإن جميلة تصبح تمثالًا حيًّا للإحساس بالعبث.
«مشَت ذاهلة ساهمة لا تحسُّ بشيء مما حولها ولا تعرف إلى أين هي ذاهبة … على أن رجلَيها كانتا تقودانها، بحُكم العادة، إلى بيتها» … والذهول أو الهموم، هنا ليس انطباعًا وجدانيًّا لحدث فردي … وإنما هو يرتبط أشد الارتباط بقول الفنان: «لا لذة ولا متعة، ولا إحساس بشيء من هذا كله، ولكنها استسلمت ورضيت، لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى. لا إحساس بنشوة ولا شعور بمتعة، وإنما مَر كل شيء كالعاصفة الهوجاء وهي تلفُّ كل شيء لفًّا» … وإذَن فالأمر ليس مجرد «خيانة» زوجية من جانب جميلة، أو خيانة زوجية من جانب سيد، فبالرغم من أن نبض الحياة الإنسانية يدقُّ بانتظام وبغير وعي في عروق التجربة إلا أننا نحلِّق برغمنا مع جثة «سيد» الملقاة على أحد جانبَي الطريق في اليوم التالي، لنتساءل: أحقًّا كان القصَّاص يستهدف من خَلْق هاتين الشخصيتين أن يجعل من العلاقة الجنسية بينهما نذيرًا للخونة من البشر؟ إن وجهة النظر الأخلاقية هذه تذوب تمامًا في النطاق الدرامي للقصة … فلقد كان لاختيار الفنان لشخصية جميلة بالذات دون بقية النساء دلالة خطيرة؛ إذ هي تمثِّل في جمالها الرائع وصباها المشرق تفتُّح الحياة ورحابة آفاقها، وفي اللحظة نفسها باستسلامها السريع العاصف، وفجيعتها الذاتية من الداخل، تمثل الإنسان مضطرًّا إلى عناق صليبه، وكأن هذا الصليب الأبدي يتضمَّن قوة جاذبة تمتص من النوع الإنساني قوته … ثم تخبِّئ نهاية «سيد» لتقول شيئًا غريبًا حين بصر القرويون في صبح اليوم التالي، وهم في الطريق إلى سوق المركز، بجثة مُلقاة على قارعة الطريق، ومنهم مَن قال إنها لسيد الأعمى، ومنهم مَن أنكر ذلك. على أن الذي نحن على يقين منه أن الرجل لم يدخل مسجد القرية بعد ذلك … أبدًا. فإذا نحن تذكَّرنا أن العلاقة بين سيد وجميلة تمَّت بعيدًا عن العيون بصورة مُطلَقة، فلن نتصوَّر بحال إمكانية كشف العلاقة حتى تفسر الفاجعة من زاوية أخلاقية … ولكننا إذا تذكَّرنا نوعية أدوات التعبير عند البدوي، استطعنا أن نخرج من المأزق: فهو يستخدم شخصيات عادية للغاية لأهداف — تبدو — غير طبيعية أبدًّا … بحيث لو طبَّقنا مقاييس التجربة العادية على تلك الشخصيات لجازفنا بالقول بأنها مزيفة وأصيلة الافتعال … أما إذا تتبعنا منهج الفنان في تصوير القضية المُلحَّة على وجدانه، فإننا لن نتعثر ما دمنا نرتفع بالأقصوصة إلى مستوى الرمز الذي تومئ إليه الشخصية والحدث والتجربة من خلال المنهج التعبيري للكاتب.
ولعلَّ قصة «في القرية» التي ظهرت في مجموعة «الذئاب الجائعة» عام ١٩٤٤م … لعلَّها تُلقي ضوءًا كافيًا على ما نحن في سبيلنا إليه من تفسير لأعمال هذا الفنان. والقصة لأحد عمَّال الشواديف في قرية بأعماق الصعيد، وتبدأ بأن يتعلَّق بصر هذا العامل القوي الجسم بإحدى النساء الفاتنات اللائي يملأن جرارهن بالقُرب من مكان العمَّال. ويتعرض «نعمان» لهذه المرأة ذات فجر حتى لا يراها أحد، فيمسك بالفأس ويستعرض فتوَّة جسده شِبه العاري، ثم تُقبل هي من بعيد «ووقفت على رأس المنحدر أرقبها بعينَين زائغتين … وطلعت ورأتني واقفًا كالناطور! فوضعت الجرة على حافة الطريق لتُصلح من ثوبها … وقالت: لماذا تقف هكذا … أتريد أن تستحم؟
– أجل.
– في طريق النساء؟ إنك شيطان!
لقد انقطعت الرِّجل … وسأذهب بعيدًا … دعيني أساعدك على حمل الجرة.
وسرى في جسمي اللهب. نظرت إليَّ، وأدركَت ما يدور في خاطري وشددت على ذراعها … فقالت: دعني أمضي … لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ دعني أمضي.
وكانت تهمس، ولكني شددت على ذراعها بقبضة من فولاذ وحملتها … وفي سرعة البرق دخلت بها إلى الحقل.
وقالت لي وهي تحمل الجرة عائدة إلى القرية: إنك وحش … ولكني أحب الوحوش.»
وهنا تقوم المرأة بدَورها نفسه في القصة السابقة، فتمثل الحياة، ولكن الفنان يعمِّق سطور هذه الحياة فيقول إنها توءَم القوة. ولذلك فهذه السمة الأولى في الرجل هي قوة البدن، كما جاء الإلحاح على «الحقل» مسرحًا للقصتين إشارة إلى الغابة العذراء التي يسترد فيها الإنسان إنسانيته في أخيلة الرومانسيين القدامى والكتَّاب المحدثين أمثال الأمريكي ثورو والإنجليزي لورنس. غير أن الكاتب العربي لا يقدِّم «الغابة» كحلٍّ للصراع البشري، لأن العجز إحدى الصفات الفطرية اللاصقة بطبيعة الإنسان … لذلك ينهار ذلك الجسم العملاق الذي يُشار إليه باسم «نعمان» ينهار تحت وطأة المرض، فيحدث الانشطار المأساوي بين الحياة وتوءَمها؛ بين الحياة والقوة، بين التفتُّح والانطلاق، وما قد مُني به الإنسان قبل أن يُولد من مصير تَعِس يجعله عاجزًا عن الجواب. وتهمل الطبيعة الكيان الفرد للإنسان لتستقبل كيانًا جديدًا لم يُحكَم عليه بالإعدام «وكان عباس أقوى الرجال من بعدي. فاحتل مكانًا، وأدار دفة العمل أثناء مرضي.» والرمزية في أقاصيص البدوي لا يستغلق كشفها، وبالتالي فإننا لا نتعسَّف في استقراء خباياها بين أحداث القصة، لأنها هي نفسها تقدم إلينا هكذا «ورأيتها ذات مساء تديم النظر، في سكون، إلى عيني، ثم تولي وجهها مفزعة! فسألتها: لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟
فعاد الهدوء إلى وجهها، وارتسمت على فمها ابتسامة باهتة، وظلَّت صامتة.
– لماذا تنظرين إلى عيني هكذا؟
وهززتُ ساعدها … فقالت في صوت كالهمس: أرى في عينَيك شيئًا رهيبًا.
– ما هو؟
– لا أستطيع أن أبوح لك به الآن … دعني أمضي.
– لن أدعك تذهبين … حتى … حتى …
– إنك مخبول! دعني أمضي … لا شيء في عينيك.
ومضت في جوف الظلام.»
لقد جاء الحوار في مكانه المناسب، رامزًا إلى أشياء وأشياء، وإذا لم تفسره على مستوى الرمز، فلن يكون بذي قيمة فنية أو قيمة إنسانية على الإطلاق. فقد بدأ نعمان يتماثل إلى الشفاء. ولكن هذا التماثل لا يذيب المعالم الأولى للعجز … إن الضربة الأولى تتبلور في مجموعة من الملامح الغائرة في وجدان نعمان للأبد «هل تحسب أنك تخيفني بهذه النظرة؟ أنا لست مِلكًا لأحد … أنا حُرة طليقة كالطير، أطير في كل مكان … وما لأحد سلطان عليَّ … وما من شيء يخيفني … وما من شر يصيبني من إنسان … أما أنت فستُساق يومًا إلى المشنقة بين صفين من الجند.»
أكان يمكن أن تدل هذه النبوءة على دلالة غير رمزية إلا إذا كانت صادرة عن إنسانة ساحرة؟ وكما كانت المرأة في هذه الأقصوصة بعيدة تمامًا عن صناعة السحر، فإننا نلتقط تلك الكلمات على وجهها الرمزي، فنقول إن المصير التراجيدي لنعمان يتجسد في تحول المرأة إلى زميله عباس؛ أقوى العمال من بعد عباس الذي كان راقدًا إلى جانبه «وأخذني النوم، وصحوتُ فتفقدت رفيقي فلم أجده بجواري … ودرت ببصري فيما حولي … ولمحت امرأة خارجة من الحقل … مضت في الطريق وهي لا تلتفت … ورفعت وجهي وعرفتها … لقد كانت هي بعينها بلحمها ودمها ومشيتها، ولا أحد يمشي غيرها، في غلس الليل، وليست هناك امرأة تركب الأخطار مثلها … في سبيل إرضاء رغبتها. وسحبت البندقية من تحتي، كنت في حالة هياج وخبل.»
وكان من الممكن أن يقتل نعمان زميله والمرأة معًا … ولكن البدوي يُكسب الأحداث مع رمزيتها نبضًا إنسانيًّا، فينتظر نعمان حتى يلتقي بغريمه في حقل ويلعبا التحطيب، ويصيب منه مقتلًا … «ووضعوا الحديد في يدي … وساقوني وحولي نطاق من الجند إلى المركز … وسرنا على جسر القرية الطويل، مع الشمس الغاربة. في سكون وصمت … ولمحت ناعسة عن بُعد نازلة إلى الطريق وسائرة إلى النيل تتهادى على مهل، وعلى رأسها جرتها. وكانت تمشي الهُوينى تعوَّدتها في سكون وهدوء ظاهرَين، كأن لم يحدث شيء.»
وهكذا تدور الدوَّامة أو الطاحونة فيظل الإنسان ضحية أبدية لمصير وجوده على الأرض، بينما تظل الحياة في دورانها لا تعبأ بالضحايا.
والبدوي يتعاطف مع الضحية تعاطفًا واضحًا، ولكنه لا يتخذ معه موقفًا متمرِّدًا من عبث وجوده ومأساوية الحياة … وأضحت هذه التجربة في أدبه أقرب إلى الانطباع الوجداني بقضية الموت، منها إلى الوعي بمأساة الجنس البشري في صراعه مع الطبيعة. كما جاء في قضية الجنس تجسيدًا رمزيًّا لجوهر الحياة عندما تعانق إحدى لحظاتها المعدن الإنساني في قوته وجبروته، حتى إذا حدث التناقض فالانشطار بين الاثنين، لن نجد هناك مأساة «جنسية» وإنما نرى مأساة وجودية عبَّرَت عن نفسها في ثياب الجنس. ولذلك لا يعالج الفنان أزمة الجنس كأزمة واقعية إلا في القليل من قصصه. وعندئذٍ تجيء الغابة أو الحقول في قصص البدوي أرضًا صالحة للدراما تحدث بين طياتها الرواسب الرومانسية الكامنة في أعماق الكاتب.
ولقد كان تطوُّره من عام ١٩٣٥م حيث أصدر مجموعته الأولى «الرحيل» … إلى مجموعته الثالثة «الذئاب الجائعة» عام ١٩٤٤م حافزًا لنا على تتبُّع تفاصيل هذا التطور. فنحن نلحظ في قصة الأعمى أنه كان يتخذ شخوصه على المستوى التجريدي المباشر، فيصبح «سيد» فاقدًا للبصر أي عاجزًا، وتصبح «جميلة» رائعة الفتنة والجمال … ثم تتسلسل التجربة في سلسلة من الأحداث المنطقية: سيد يسكن مع امرأة عجوز تعيش في منزل قديم لأحد الملَّاحين المهاجرين وتقتات خبزها من «سحور» شهر رمضان. وسيد هذا لا يحب النساء ويرعبهنَّ رغم صوته الجميل عند الآذان. إنه يمنعهنَّ من مَلء جراراهن من بئر المسجد. ولكن جميلة تقلب حياته رأسًا على عقب، فيملأ لها جرتها بنفسه ويحسُّ معها بأُلفة شديدة، حتى إنها تُداعبه مداعبات سافرة، ثم يُرافقها ذات مساء، وفي الطريق تنفجر أعماقه التي كانت تغلي باشتهاء جميلة. ويمارس الاثنان العلاقة البدنية في أحَم غلوائها. وفي اليوم التالي تشاهد جثة سيد بعيدًا عن مدخل القرية.
هذا المنطق التجريدي المباشر، أسهَم في الميل بالأقصوصة إلى العمومية الشديدة في علاجها لقضية الجنس، فلم تنبض العلاقة بين الاثنين بما يبرِّرها من جانب الأنثى التي يقول المؤلف — على العكس — إنها لم تستشعر أية متعة أو شعور باللذة، أي إنها كانت مجرَّد آلة تنطق بالهدف الأشمل من الأقصوصة. ولعلَّ هذه القضية الفنية من أعقَد المسائل التي واجهت محمود البدوي على طول حياته الأدبية. وبالرغم من أنه يمزج بين الموت والجنس مزجًا عميقًا، بمعنى أننا لا نحس بأحدهما مُقحَمًا على الآخَر، بل يتداخلان فيما بينهما تداخلًا جدليًّا … إلا أن تركيزه في تلك المرحلة الباكرة من تاريخه الفني على قضية المصير في مستواها التجريدي، كان ينأى بالعلاقة الجنسية بين شخوصه عن أن تكون علاقة إنسانية تتعقَّد تعقيدًا بالِغ الحِدَّة والعنف في المستويات الإنسانية غير المباشرة والبعيدة عن التعميق.
على أننا رافقنا مع قصة «في القرية» مرحلة جديدة في أدب البدوي. ولقد تخيَّرتُ هذه الأقصوصة بالذات، لأن هيكلها العام يقترب كثيرًا في ملامحه الخارجية من هيكل «الأعمى» ومن هنا تصلح مادة للمقارنة. ﻓ «في القرية» يعي القصَّاص أن العجز الإنساني ليس بسيطًا ولا ساذجًا، وبالتالي ليس مباشرًا، ومن هنا يثور نعمان في أوج اكتمال الرجولة وقوتها. يؤكد بصورة واضحة على أن المرأة أعجبت أساسًا بقوته، فلا يستغلق علينا الرمز، بالرغم من أن الصورة عادية ومألوفة … ولذلك كان شيئًا طبيعيًّا للغاية أن يتَّجه نظر المرأة إلى عباس بالذات «أقوى العمال من بعده» لأنها لا تشتهي في نعمان شيئًا عميق الخصوصية، بل تستحوذ على كيانها صفة عامة، قد توجد عند نعمان بدرجة أكبر ولكنها توجد عند عباس بالدرجة نفسها إذ باغتت الرجل الأول مِحنة العجز؛ أي إن النتيجة النهائية في القصتَين هي العجز الفردي أمام المصير البشري العام. ولكن هذه النتيجة تبشِّر في القصة الأولى بشيء من التعسُّف بينما تبتعد عن التعميم في كثير الأحيان في القصة الثانية. وهكذا أقبلت قضية الجنس في هذه القصة تجسيدًا مفصَّلًا للمأساة الإنسانية، فلم يجنح الفنان إلى تجريدها من جزئيات الحياة اليومية. بل آثر أن يُضفي عليها من هذه الجزئيات ما يضمن لها النبض الإنساني والرؤية الواقعية الحادة لضراوة المأساة. فلم نشهد تسلسُلًا منطقيًّا للأحداث، وإنما بناءً عفويًّا لدقائق التجربة بين وجهيها النفسي والوجداني: اشتهى عباس هذه المرأة «النورية»، وأعجبت المرأة بقوته. تمكَّن من أن يصاحبها إلى حقل الذرة وهو الرجل الذي حُرم من العلاقة الجنسية في هذه المنطقة النائية منذ زمن ليس بقصير. تعرَّض نعمان لإحدى ضربات الزمن فأصابه جرح أقعده فترة من الوقت تعرفت المرأة خلاله بأقوى زملاء نعمان. نهشت الغيرة صدره، فبالغ في معركة التحطيب بينه وبين عباس حتى قتله، وسِيق إلى المحاكم بين صفين من الجند. ولولا اللمسات الذكية من جانب الفنان التي نحسُّها في نبوءة المرأة أو حوارها مع نعمان أو تصويبها نظراتها العميقة في قاع عينَيه … لَما كنَّا نكشف أي رمزية في هذه التفاصيل التي أضفت على الأقصوصة جوًّا نفسيًّا رائعًا، كانت المزاوجة بينه وبين العلاقة الجنسية واضحة الدلالة التي تومئ بأن أزمة الحرمان التي يُعانيها نعمان ليست أقل قسوة من أزمة وجوده نفسها … هذا الوجود الذي تعمَّق في جرأة للمصير المأساوي الحاد، عندما اهتزَّت في عينَيه صورة العالم في اللحظة التي كان عباس خلالها يصنع شيئًا مماثلًا مع الغجرية.
تؤرِّخ مجموعة «العربة الأخيرة» التي صدرت لمحمود البدوي عام ١٩٤٨م مرحلة جديدة تمامًا من مراحل تطوُّره، فقد تخلى نهائيًّا عن الأسلوب التجريدي المباشر، وأضحى ارتباطه بقضية الجنس لا يسلك سبيلًا رمزيًّا خالصًا وإنما هي تتجسَّد من خلال الأزمة الاجتماعية للإنسان في بلادنا. ويسهم في تحديد هذه المرحلة أساسًا، بلورة الاتجاه الواقعي في القصة المصرية آنذاك، وارتياد البدوي لهذا الاتجاه بلا منازع. ففي قصة «العربة الأخيرة» كان يتلقَّى السائق الترام، «يقف وحيدًا في الجزء الأمامي منها … فما من أحد يستطيع أن يشارك وقفته في هذه البرودة الشديدة. كان يتلقَّى البرد كله وحده. وكان الهواء يصفِّر في أذنَيه ويلفح وجهه، فقد كانت العربة مكشوفة ولا زجاج أماميًّا لها. وكانت يده تتحرك على المفتاح … والطريق يلمع أمامه على ضوء المصابيح البرَّاقة … وكان رأسه يدور كما تدور يده بالمفتاح، فقد ترك والدته في البيت في نزعها الأخير … ولم يكُن يدري من أين يأتي لها بمصاريف الدفن. كان قد أتعب ذهنه طوال النهار دون أن يصل إلى نتيجة.»
بهذا المنهج التفصيلي في تكثيف العلاقة بين السائق والمجتمع، يكشف لنا الفنان ضبابية المسافة الموضوعية بين الإنسان ووجوده المأساوي من خلال محنته الاجتماعية الخاصة. وهي مقدمة رائعة للبنيان الدرامي في الأقصوصة، فهي لا تقحم الجنس على المأساة، وإنما — كما سنرى — تمتزج به امتزاجًا عميقًا … إننا لا نرافق السائق حتى النهاية، ولا ندري هل دفن أمه أم لا، وإنما الْتَجأ القصَّاص إلى هذا التمهيد التراجيدي ليشيع جوًّا نفسيًّا معيَّنًا في القصة هو الحزن. وهو حزن مزدوج بدقة غريبة، حزن على المصير الأسود الذي ينتظر موتانا الأحياء؛ أي الذي ينتظرنا نحن على وجه الحصر والتجريد، وحزن على فجيعة الحياة التي نحياها بلا حياة، فنصبح موتى بلا قبور.
إن الكاتب يصِف بعد ذلك سكَّان العربة الأخيرة، ويترك سائقها تمامًا! ولكن صورته ومأساته تظل عالقة بوجداننا ونحن نتصفَّح وجه المقامر ووجه المومس ووجه المفلس … لأنهم جميعًا وجوه عديدة لشخصية واحدة، تجسَّدت في إحدى مراحل القصة في السائق المسكين، كما تتجسَّد في مرحلة تالية في شخصية «نرجس» وهي امرأة فشلت في حياتها الزوجية ثم احترفت الرقص في شبابها الأول … «وأولاها الدهر ظهره فوجدت نفسها في الشارع. وأخيرًا أشفق عليها صاحب ملهًى وجعلها عاملة في شبَّاك التذاكر … وكانت تُغلق الشباك وتذهب إلى المشرب، لتنسى مجدها الآفِل … فإذا انتهى المرقص خرجَت من الباب الخلفي إلى الترام الأخير» … إننا نحس بتوالي النماذج في «العربة الأخيرة». إن اختيارهم تمَّ وَفْق منهج تعبيري محدَّد هو تركيز الضوء على مأساة الإنسان من خلال نماذج بشرية مأساوية بطبيعتها، ومن ثَم تقوم العربة الأخيرة بدور تابوت الموت، فكل ما يحمله هذا التابوت رمز واقعي لدورة مصيرنا. وهكذا تلتقي نرجس ﺑ «يوسف النجار» … «ولم يكُن يوسف متزوجًا، وليس في تاريخ حياته كلها امرأة واحدة … ومع ذلك فقد كان سعيدًا قانعًا من حظه في الحياة، وراضيًا عن نفسه كل الرضا … لم يكُن يتصوَّر أن شيئًا ينقصه، لم يدُر بخلده هذا قط» … ولن نحس تناقضًا بين هذه الكلمات، وما تلاها عندما يقول الكاتب: «إن يوسف عرض على فتاة الليل مبلغًا كبيرًا من المال كي تقضي الليلة معه» وكان هو ينظر إليها بعينَين نهمتَين شرهتَين … ويحدِّق بشدة في نحرها العاري، وجيدها وكل جزء من أجزاء جسمها. كان كأنه يرى امرأة لأول مرَّة في حياته، وكان في حركاته ما يبعث السخرية والاشمئزاز في نفسها، وكان لا يصدق نفسه: أحقَّا أنه مع امرأة وبعد قليل سيضمها إلى صدره ويطفئ نار وَجْده … ويشرب من شفتَيها؟ هل سيحدث هذا حقَّا بعد كل هذه السنين الطوال من الحرمان والجدب؟ واستكثر على نفسه كل هذا واخضلَّت عيناه بالدمع! وأخيرًا جثا تحت قدمَيها، وأخذ يبكي ويغمر رجلَيها بالقُبلات.
قلت إنه ليس ثمَّة تناقض بين صورة يوسف هذه، وصورته التي قبلها إذا أخذنا في اعتبارنا أن ما نراه تناقضًا هو فجائية الوعي لدى الإنسان بهذا الوجود، ورعب إدراكه لمعنى هذا الوجود … وهنا يجيء الجنس تجسيدًا لهذا الوجود بعينه من خلال انعكاسه الاجتماعي الذي يمزِّق كيانات البشر في صورة وجه أبيض لم يعرف امرأة كيوسف النجار، أو امرأة فاتتها جميع عربات الحياة ولم يتبقَّ لها سوى العربة الأخيرة، مثل نرجس. إلا أن فجائية الوعي ليست قاصرة على كينونة يوسف وحدها، بل هي قانون عام يشمل النوع الإنساني كله … لذلك تهبط لحظة الوعي على نرجس صباح مبيتها في أحضان يوسف «كانت نرجس ثمِلة مُتعَبة في الليل … واستيقظت قبل رفيقها في الصباح ونظرت إلى وجهه بجوارها … نظرت إلى وجهه وجسمه وصرخت! إن بَرَصه ودمامته … لا حدَّ لبشاعتهما … شعرت بتقزُّز وغثيان مفرط … ونهضت من الفراش مُسرعة وصرخت، وفتح عينَيه ونظر إليها كالكلب الذليل، وقال بصوت مرتعش: ما الذي جرى؟
ونظرت إليه باحتقار … وكان جسمها كله ينتفض من فورة الغضب. وصاحت بأعلى صوتها: أيها الكلب القذِر … كيف تسوِّغ لنفسك أن تقترب من امرأة؟ لقد قتلتني. لا يمكن أن أنسى هذه الليلة … لا يمكن أن أنساها … لا يمكن أن أمحو صورتك البشعة من خيالي … خذْ نقودك.
وألقت في وجهه الورقة المالية التي أعطاها لها في الليل وخرجت.»
ومرَّة أخرى لا ينبغي أن ندهش لصدور هذه الكلمات عن أجواء فتيات الليل، فقد أومأ لنا الكاتب بأن الصفقة تمَّت في الظلام؛ أي في خلال الحاجة الاجتماعية المُلحَّة رفيقة الذهول، بينما أفاقت نرجس مع أضواء الفجر حين اكتشفت أن العلاقة بينها وبين هذا الرجل، العلاقة المتدفِّقة بالحياة، تعلن عن وجه بشِع للغاية يتمتَّع به أحد أطراف العلاقة … وفي خضمِّ هذا الوعي تتضاءل قيمة الأزمة الاجتماعية، وتبرز المأساة الأكثر شمولًا واستيعابًا لجوهر الإنسان، وحينئذٍ تُلقي فتاة الليل المعدمة الورقة المالية في وجه الرجل، على الرغم من انتهاء الصفقة من جانبها، أي على الرغم من أنها كانت تستطيع أن تأخذ الورقة بعد أن قامت بدَورها التعس وتغرب عن وجهه للأبد … ولكن الفنان يريد أن يؤكد على وجداننا الطابع الحقيقي للمأساة … فلا يطمس ملمحًا واحدًا من ملامحه تحت ستار معالم القشرة الخارجية … «لقد رمَتْه المرأة اللعينة بسهم قاتل … واستلَّت منه سَكينة النفس والرضا بما هو كائن، والقناعة بما تأتي به الحياة. لم يذكر له واحد من عملائه قطُّ أنه دميم أو أبرص، ولقد نسي هذا كله باستغراقه في عمله، وكان يؤدِّيه على أحسن وجه.» ذلك أن علاقته بهؤلاء العملاء علاقة خارجية، علاقة غير حياتية، أما علاقته بنرجس، فهي تمسُّ أعماق حياته … «تغيرت نظرته للحياة ونظرته للناس … وأصبح قلِق النفس، مضطربًا، صامتًا حزينًا حُزنَ الخصيان الأبدي.»
ويعنيني هنا أن أكرِّر أن منهج البدوي في رؤية المأساة الوجودية للإنسان وأزمته الاجتماعية على السواء، تخلو تمامًا من التمرُّد. لهذا يصبح الخمر القاسم المشترك الأعظم بين أغلب قصصه. فهو الإجابة الوحيدة الشافية عند إنسان البدوي على ما يعتري حياته من لحظات وعي تنفجر بالحزن والفجيعة. بل إن الموت يلعب دورًا مماثلًا لدور الخمر في أقاصيص هذا الفنان؛ إذ بالرغم من أن الموت يلعب لديه أساسًا دور المصير التراجيدي الرامز إلى الدورة العبثية في حياة الإنسان منذ مولده إلى انقضائه، فإن مبالغة البدوي في استخدام الموت جعلت منه شكلًا هروبيًّا يحذر الإنسان عن واقعه الوجودي والاجتماعي … وهكذا سقط يوسف النجار من الترام وهو ثمِل … وكان غمام كثيف يزحف أمام عينه وسقط رأسه على صدره وأغفى، وتنبَّه على حسِّ امرأة ففتح عينَيه وتلفَّت. إنه يعرف صاحبة هذا الصوت … إن العهد بها لم يكُن بعيدًا … ودار ببصره ثم حدَّق، إنها «نرجس»، ثم يحاول النزول وراءها، فيسقط بين العجلات.
يموت يوسف إذَن كشخصية إنسانية ليبقى في وجداننا شخصية فنية متكاملة، قوية التَّماسُك، تثير تساؤلاتنا بصفة دائمة. فقد توخى الفنان في صياغتها المزاوجة بين دلالتها الخاصة ودلالتها العامة بأن أتاح للشخصية حرية السلوك الفردي الضيِّق والسلوك الرمزي الشامل، فامتزجت قضية الجنس بمأساة وجوده امتزاجًا عميقًا، باتخاذه الأزمة الاجتماعية صورة حية واقعية للصراع بين هذه الأضواء، ولولا هذا الصراع المعقَّد، لجاء بناء الأقصوصة تقريريًّا للغاية، حين راح المؤلف يقدِّم شخوصه في عبارات سريعة للغاية تخلو من الحركة الدرامية للحدث. ولكن اتساع هذه الحركة بين المقدمة التي مهَّد بها الفنان لقصته بشخصية السائق الذي ترك أمه في النزع الأخير، وبين سقوط يوسف النجار بين عجلات العربة الأخيرة أن همزة الوصل بين يوسف والسائق، هي الإطار المأساوي للتجربة الإنسانية، تجربة الإدراك المرعب للحياة … كما نرى في قصة «رجل في الطريق»، حيث يقول الكاتب: وكان إدراكه الصحيح للحياة قد جعله لا يعبأ بشيء مما تواضع عليه الناس، فهو يسكر وينام في الطريق، «ذلك أنه في إحدى لحظات الوعي هذه، توفَّرَت له فرصة اللقاء المنفرد بزوجة زميله، ووجدت أمامي — أنا الشاب القوي الذي يعاني مَرارة الحرمان — امرأةً ناضجة محرومة مثلي … كان في نظراتها تكسُّر ولِين. وكان جسمها يروح ويجئ أمامي وهي في أحسن مجاليها، فأخذتُ أنظر إليها، وأنا مستغرق فيها بحواسي ومشاعري جميعًا. ونسيت أنها امرأة صاحبي، نسيت هذا وذكرتُ أنني وحيدٌ في قلب الليل مع امرأة اشتهيتُها من كل قلبي. ودون أن ندري ما حدث كانت بين ذراعي وكنت أرتوي منها. وغرقنا في الشهوة فلم نحفل بأحد. وأصبحتُ أقابلها كلَّ يوم.»
هذا اللقاء مع الجنس، ليس لقاءً عاديًّا. وحقًّا لا نعثر هنا على أزمة اجتماعية، لو نظرنا إلى الأزمة من الخارج … ولكنا سوف نعثر على أعماق الأزمة في الحرمان والوحدة والعمل الشاق المرهق إلى نهاية هذه الآلام المرَّة التي يُعانيها الرجل، ومن ثَم كان طبيعيًّا أن تذوب هذه الآلام مؤقتًا بين أحضان أقرب امرأة. فإذا تخيَّر الفنان هذه المرأة من بين مئات النساء، لتكون زوجة أقرب الناس إلى الرجل، فإنه يكون قد تخيَّر شكل «المأساة» في الأقصوصة ليعبِّر عن عشرات التناقضات بين العواطف الإنسانية إزاء مأساة وجوده ومِحنته الاجتماعية وانحداره النفسي وبلبلته الفكرية … «ودون أن نتبادل كلمة واحدة — يقصد بينه وبين الزوج — تشابكنا في عراك دموي وظللنا نقتتل حتى لم تبقَ فينا قدرة على الحركة، ورحت في غيبوبة طويلة … ولما فتحت عيني نظرت إليه كان الدم يلطِّخ وجهه، وكان صدغه قد تهشَّم من ضربة قاتلة … فأدركت هول ما حدث، وأغمضتُ عيني.» هكذا يحدِّد الكاتب العلاقة بين الجسد والموت، فإذا كان الجنس يعبِّر عن ذروة الحياة والمأساة معًا، فإن الجسد وحده يصوِّر تطوُّر هذه الدورة التراجيدية بوعي كامل … فهو يزدهر مع نشوة الجنس ويذبل مع الموت، أي إنه يعلن لحظتَي الوجود والعدم في آنٍ واحد. تمامًا كما شاهدنا في قصة «زهور ذابلة» التي تضم فيها عربة الموتى جثة أحمد في الجزء الخلفي منها، والقريب الذي تسلم الجثة في الجزء الأوسط والسائق في الجزء الأمامي … وتعترض طريق القافلة امرأة تريد السفر إلى سمالوط، ويسجل قريب الميت «كانت تنظر إليَّ بعينَين ذابلتَين … وتحاول أن تصل بهما إلى أطواء نفسي، ولكنني وجدت نفسي مرة أخرى أغيب عنها، وأرسل البصر إلى الليل … وأخذت أرقب النجوم وأفكر … إنني الآن في عربة … وبجواري فتاة ريفية في مثل جمال الفجر … وهي تنظر إليَّ، وقد يكون في نظرتها اشتهاء … ولكنني بعيد عنها، وإن كنت أقرب شيء إليها … بعيد عنها بجسمي ونفسي، أفكر في الموت … وما بعد الموت … والزهور الذابلة في الحديقة … والأوراق التي تتساقط من الشجر، وأحمد الذي بيني وبينه نافذة زجاجية صغيرة … فإذا فتحتها، ربما طالعتني رائحة كريهة، عفن الموتى … ما أعجب الحياة! الشاب الذي كنت أحادثه بالأمس قد غدا اليوم جيفة.» ولا بدَّ لنا من أن نُعير الْتِفاتًا كاملًا إلى هذه التأملات في الموت والحياة والزهور الذابلة؛ لأنها تشكِّل جميعًا الصورة النفسية لمشهد المصير عند محمود البدوي. فهو يلحُّ إلحاحًا شديدًا في بنائه الفني على استخدام أقرب النماذج المعبِّرة إلينا، كالعربة الأخيرة والمنارة في الميناء، وعربة الموتى، ثم يجيء بالجنس والجسد من زوايا متعدِّدة، من زاوية العلاقة الحميمة بين الزوج والعشيق (رجل على الطريق)، أو في وجود القريب العزيز (الزهور الذابلة) … وفي هذه القصة الأخيرة بالذات، لا يتوانى القصَّاص عن أن يدعنا نلتقي بمصيرنا وطريقنا إلى هذا المصير، بكلِّ ما يتحمَّله هذا اللقاء من قسوة رهيبة. لقد تعطَّلَت العربة، ونزل السائق ليمضي إلى إحدى البلاد المجاورة فاستقدم مَن يصلحها، وترك الميت وقريبه في الجزء الأوسط من العربة، يقول: «شعرت بعد أن تركنا السائق أن حملًا قد انزاح عن صدري. وأن الفاصل الذي كان يحجب عني هذه المرأة قد أزيل ونسيت الموت … وصاحبي الراقد خلفنا في العربة. نسيت كل شيء يتَّصل بهذا واتَّجهتُ بكُليَّتي إلى هذه المرأة، وكانت قد رفعت رأسها وواجهتني. ونظرَت إليَّ … وعاودتني الرعشة من جديد … وابتدأ العَرق ينضح على جبيني … واقتربَت مني وقالت في صوت خافت: أخائف أنت؟
فقلت لها بصوت مرتعش: أبدًا.
ومددتُ يدي دون وعي، كانت يدي تزحف في الظلام كالعنكبوت: يدك ساخنة.
ولم أقُل لها شيئًا … وتركت يدي في يدها … وأغمضت عيني.
– ما لك؟ أنت محموم؟»
ليس هذا تداعيًا في الصور عند البدوي، كما أنه ليس تداعيًا فكريًّا وإنما هو البناء العام للأقصوصة، يفرض نوعية هذه التفاصيل … فقد جعل من عربة الموتى «لحظة» متميِّزة داخل الزمان والمكان، ثم ترك لنا الميت في الجزء الأخير من العربة كشخصية فنية تلعب دورًا رئيسيًّا هو الموت، ودورًا ثانويًّا هو الجسد في أحد مظاهره. ثم التقينا بقريب الميت الذي ينسى الموت تمامًا في ذهول جمال المرأة، التي كانت بدَورها وجهًا آخَر للجسد، الوجه المقابل للعدم. وفي غمرة الإحساس بالحياة، بالوجه الاجتماعي منها ينسى — أو يتناسى — الصورة العدمية للجسد، ويُقبل على المرأة في نشوة واهتياج … «ومرَّت يدها على يدي وذراعي … ووجدت يدي تتمسَّح على ذراعيها … وشعرت بنعومة بشرتها تحت ملمس أصابعي … وأحسستُ بجسمي يتخدَّر» … ذلك أن الْتِماس «المتعة» في الحياة، بمعناها البسيط الساذج، يستلزم أن نكون ذاهلين عن وجودنا الحقيقي، ومتعته المأساوية الكبرى، متعة اكتشاف أو محاولة اكتشاف دلالة واحدة له تنقذ الإنسان من هوَّة العبث التي يتردى فيها … لهذا تحين الفرصة أمام بطل عربة الموتى، فيستيقظ من سباته وخدره … «وكأني كنت في غيبوبة ورجعت إلى نفسي، وبحركة لا شعورية … مددتُ رأسي ونظرت من النافذة … إلى صاحبي. وكان في نعشه وعليه الغطاء الحريري، هل تصورته تحرك، ونظر إلينا؟ ووضعت يدي على جبيني، ومِلت إلى النافذة، وابتعدت عن المرأة» … أي إن ثمة تناقضًا نفسيًّا بين الإحساس العميق بالحياة والإحساس المقابل بالموت إزاء قضية الجنس؛ لأن الفنان هنا لا يصُوغ قضيته مستقلة بذاتها وإنما تجسيدًا لقضية الوجود بكاملها.
إن مجموعة «العربة الأخيرة» لا تؤرِّخ فحسب لمرحلة من مراحل تطوُّر الفنان محمود البدوي، وإنما تسجِّل — له أو عليه — محور القضية الأساسية التي يعيشها في الحياة والفن … تلك هي قضية المصير. كما تسجل — له أو عليه — الإطار الدرامي لهذه القضية … ذلك هو الجنس، فقد تضمَّنَت هذه المجموعة أكثر من خمس أقاصيص تعالج المأساة بصورة مباشرة لا تتحمل التأويل … الأمر الذي لم يحدث في إحدى مجموعاته القصصية، السابقة أو اللاحقة. كذلك بلغ البناء الفني في هذه المرحلة — عام ١٩٤٨م — درجة عالية من التكامل لم يصِل إليها البدوي في إنتاجه الأخير؛ إذ كان اعتماده الأكبر — فيما مضى — هو تسخير كافة دقائق التجربة وجزئيات أحداثها في تشييد القمة الدرامية للأقصوصة بلا تعرُّجات في الوسط أو تمهيدات في المقدِّمة أو زوائد وتذييلات في النهاية. لذا جاء عرضه لقضية الجنس بعيدًا عن التشريح الموضوعي للعلاقة البدنية الحميمة بين الرجل والمرأة، كما لم يجئ صورة عرَضية أو قيمة ثانوية تتنازعها قوى الخير والشر … أي إنه لم يناقش الجنس باعتباره ظاهرة اجتماعية أو طبيعية فطرية في ذات الفرد، وإنما ناقشه باعتباره تجسيدًا جوهريًّا لقضية وجودنا كله، لقضية مصيرنا. لهذا ارتبط في وعينا — بتأثير من الفنان — أن ثمَّة علاقة بين الجسد والموت، علاقة تتجاوز الرؤية السطحية للجسد وهو في رعشة الحياة والجسد تعانقه ديدان القبر … كلا، لم تكُن هذه رؤية محمود البدوي في تصوُّره وتصويره لعلاقة الجسد بالموت، إذ كان كلاهما تعبيرًا علويًّا رامزًا إلى مسألتَي الجنس والوجود … وكيف أن التناقض الحاد بين الموت والحياة، يتخذ لنفسه تعبيرًا حاسمًا في العلاقة الجنسية، فقد خللت فورة الاشتهاء، أو ثورة الانفعال الحس تؤكد منذ بدايتها إلى نهايتها، أنها تمثل بداية الحياة ونهايتها، فبالرغم من تناقضهما إلا أنهما متصلان فيما بينهما أوثَق الاتصال. وفي حركة جدية دائمة التجدُّد، نرصد دورات حياتنا ووجودنا ومصيرنا. ولا شك أن المأساة هي الكلمة الأولى والأخيرة لهذه الدورات، نتيجة مسبقة ولاحقة لوعينا وقسوة إدراكنا. ولهذا أيضًا تتجاوز قضية الجنس في أدب البدوي الأزمة الاجتماعية وإن لم تتجاهلها بل تتخللها في صميمها، كما أنها تتجاوز العناصر المتصارعة في ذوات الأفراد، وإن تضمنتها في جوهرها.
في قصة «ليلة لن أنساها» تختلط على ذهن البطل مشاعر كثيرة تتشابك فيما بينها تشابكًا معقَّدًا للغاية … فقد ترك أخاه في المستشفى بين الحياة والموت، ولكنه إذ اضطرَّ أن يبيت إلى جانب امرأة فوق سطح المنزل لفقدانه مفتاح الشقة، فإنه يتساءل: «إن على قيد خطوات مني امرأة غريبة في ربيع عمرها، وتُعَد فتنة في بنات جنسها، قد أطفأت المصباح وتركت باب حجرتها مفتوحًا تكرُّمًا منها وتأدُّبًا، وأنا أسمع بين كل لحظة وأخرى حركة جسمها على السرير، فكيف أنام؟» وأما نحن فنتجاوب معه بصورة عكسية فلا نتساءل معه، وإنما نرقب الحركة السلوكية من جانبه … «أخذتُ أعدُّ النجوم في السماء حتى غفوت، واستيقظتُ مع الفجر … وأنا شاعر بالعطش الشديد … وبحثتُ عن القلة حولي فلم أجدها … ثم رأيتها وقد وضعتها على منضدة رخامية قرب الباب، فاتجهت إليها ودخلت الغرفة على أطراف أصابعي، مخافة أن تصحو صاحبتي … ووقع نظري عليها وهي نائمة على السرير، وقد تهدَّل شَعرها وانحسر ثوبها عن ساقَيها. وقفت عند مدخل الباب أنظر إليها وإلى القلة وأسائل نفسي: من أين أرتوي؟» هكذا يراجع الفنان بين المظهر الخارجي والسلوك الداخلي في نفس الشخصية، لا لتصبح النتيجة منطقية أو تداعيًا ذهنيًّا، وإنما لتصبح تصرُّفًا طبيعيًّا لا استغلاق فيه. «ودخلتُ إلى غرفتي وجلستُ على الفراش وأنا مُطرِق برأسي، وشعرت كأني أحمل وحدي شقاء الناس جميعًا … واقتربت مني سعدية وجلست بجانبي ومدَّت وجهها إليَّ وقالت: صلاح … أنت سكران؟
فأمسكت بيدها، ونظرت إلى عينَيها، وسبَحَت عيناي في الضوء والبريق والظلام … سبحت عيناي … وجرَّدتها بخيالي من كل ملابسها، وتمثَّلَت لي الفتنة التي تطلُّ من كل شيء فيها. وطوَّقتُها بذراعي وهي تتمنَّع، ثم لانت أخيرًا واستسلمت.» في هذا الإطار من النشوة الجنسية، وفي القمة الدرامية للتجربة، يموت شقيق صلاح، وعندما يذهب إليه في اليوم التالي، يكون قد وُضع في ثلاجة المستشفى، فتخترق لحظة الجنس قلبه، ويمضي تاركًا الشقة والمنزل والقاهرة إلى الأبد، وكأني بالفنان يتجاوز لحظتَي الجنس والموت، ليصل إلى قرار معنى الوجود، الذي يترسَّب في قاعه معنى العدم، في اللحظة نفسها، وبالقوة والمنطق نفسهما.
ومحمود البدوي — كما قلت — لا يثور على اللحظة ولا على منطقها، ولا يعلم أن العبث واللاجدوى حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقيقة المقابلة هي موقف الإنسان من الحقيقة الأولى: هل التمرد أم الانتحار؟ إن أدبنا يجيب، بمنتهى الشجاعة والجرأة والحزن: الانتحار! ففي قصة «الدرس الأول» من المجموعة نفسها «العربة الأخيرة» يتعرف مدرس الموسيقى على تلميذه، وهو يخوض أزمة نفسية، فيقع المدرس في هوى زوجة التلميذ. وبينما تتأزم حالة المريض تأزمًا بالغ الحدة، يكون المدرس قد حاول السقوط مع الزوجة المحرومة. و«محاولة السقوط» مشهد رهيب يستيقظ عليه الزوج، ويشفى من مرضه، ليذهب في أول دفعة في حرب فلسطين؛ أي لينتحر! لقد كان زوجًا مزيَّفًا نسي تمامًا هذه الزوجة، وغمرته لحظات الضعف بما يُشبه الشلل عن الوعي … فجاء الرجل الغريب ليُسقط على وجدانه قطرات لاهبة من الوعي الحاد … فما كان منه إلا أن حمل عصاه على كاهله ورحل عن العالم … لم يُرِد له الفنان أن يموت على فراشه، وما أيسر ذلك بالنسبة لمريض نفساني تهزه صدمة نفسية جديدة. ولكنه آثَرَ أن يقول شيئًا، وأن يقول هذا الشيء في بنيان درامي ممتاز؛ لذا أفاق من المرض العابر، لينتحر في بطولة مثالية هي الحرب؛ أي إنه شُفِي من المرض الصغير، ليقع في مرض أكبر هو الخنوع والاستسلام. وتصل إلينا هذه المعاني عبر الأقصوصة في مستويات تصاعدية؛ أي إن الفنان يبدأ بلحظة الجنس كنتيجة للحرمان، ثم يرتفع بهذه اللحظة إلى مستوًى آخَر هو دلالة الوجود، فإذا اكتشف الرجل هذه الدلالة صهرته الفجيعة في بوتقة الوعي، ومات منتحرًا.
وبعد عشر سنوات من ظهور تلك المجموعة القصصية الهامة لمحمود البدوي نراه يلحُّ على قضية حياته وفنه وبين حين وآخَر، كما نلاحظ في مجموعة «الأعرج في الميناء» التي صدرت عام ١٩٥٨م. ولكنا نلاحظ شيئًا آخَر؛ إن التجربة الإنسانية في أدب هذا الفنان العظيم بدأت تتسطَّح شيئًا فشيئًا، فيصبح الموت حادثًا عارضًا يثير الاستفزاز، يصبح الجنس مسألة عابرة لا تثير التأمل. وما زلت أتساءل: ماذا؟ ماذا حدث لهذا الرائد الكبير؟