الرجل والمرأة وإحسان ثالثهما
يُلحُّ إحسان عبد القدوس إلحاحًا واضحًا في مقدِّمات كتبه على هذا السؤال: «هل أنا صحفيٌّ أم أديب؟» وأعتقد أنه سؤال جادٌّ، لا يتضمَّن أكثر ممَّا يعنيه بالفعل؛ ذلك أن السِّمة الأساسية في أدب هذا الكاتب هو ذاك الامتزاج بين الأسلوب الصحفي والمعالجة الأدبية للتجربة التي يتناولها بالتعبير.
وأعتقد كذلك، أن هذه السمة كانت خيرًا على الأدب في إحدى مراحل تطوُّره؛ أعني تلك المرحلة الواقعة بين الأسلوب العربي القديم، والأسلوب الحديث. فقد أسهمت بصورة جِدَّية في إذابة الثلوج اللغوية المعوِّقة لتطورنا الفني.
غير أنَّ مجهود إحسان في هذا السبيل لا يقتصر على الجانب اللغوي فحسب، لأن هذا الجانب لم يكُن بمعزل عن الموضوعات التي يطرقها في أعماله القصصية. ولعله الكاتب الوحيد من أبناء جيله الذي تطوَّر بالرؤية الرومانسية للجنس إلى رؤية جديدة أكثر تقدُّمًا. فبينما ما يزال يوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله في ذلك الطور المختلف من أطوار الرؤية الفنية للواقع، نلحظ أن إحسان عبد القدوس، كان يحاول مرارًا تخطِّي تلك المرحلة الضبابية. ولهذا السبب نكتشف في الكثير من قصصه عنصرًا هامًّا ما كنا نستطيع اكتشافه في ظلال الرومانسية الوارفة. ذلك العنصر يشكل المنظر الأساسي في أدبه، وعنيتُ به «الانهيار» الكامن في أعماق الفئات العليا من المجتمع، ولولا أن أسلوب إحسان تجمَّد في ذلك المزيج من الأسلوب الصحفي والمعالجة الأدبية لَاستطاعَ أن يُثري أدبنا بأخطر مراحل الانتقال التي عرفها مجتمعنا من القيم القديمة إلى القيم الجديدة.
ولكن هذا الكاتب ظلَّ مغلولًا في قيود غريبة على الفن منذ بدأ الكتابة الأدبية، حتى إنه لم يستطِع التخلُّص منها إلى الآن. وحالت هذه القيود والأغلال بينه وبين الأبعاد المختلفة، التي كان يمكنه أن يصل إليها لو أنه تحرَّر قليلًا من تلك العوائق.
•••
أولى هذه العوائق السرعة الفلاشية في التكنيك … والأديب هنا يستمدُّ من الصحافة أكثر أسلحتها تدميرًا للأدب. فالجوهر الأصيل للعمل الصحفي، هو الطبيعة «الخبرية»، سواء كان ذلك في المقال أو التحقيق أو الخبر. هذه الصفة تعتمد أساسًا على الأسلوب التلغرافي في ذِكر إحدى الحقائق الجديدة المثيرة. بينما الجوهر الأصيل للعمل الأدبي هو التجربة الإنسانية التي تفرض شكلًا معيَّنًا من التعبير يتناسب مع أبعادها، ويتَّسم ذلك الشكل التعبيري بالأناة البالغة في اختيار الصور المحقَّقة لانطباعات التجربة في وجدان الفنان، ومن ثَم تتحوَّل التجربة الإنسانية في الأدب إلى تجربة فنية، تكتسب مقومات صياغتها من مصادر عديدة، أهمها قوانين تطوُّر التراث الأدبي، والتقاليد الفنية السائدة والحصيلة الثقافية للكاتب، بالإضافة إلى تكوينه الذاتي الذي يدخل في تركيبه الكيان اللغوي.
والصحفي لا يَعنيه، في الكثير ولا القليل، أن يتمهَّل أو يتمعَّن في الأخذ بأسباب هذه المكوِّنات والمقومات والمصادر؛ لأنَّ ما يَعنيه فقط، هو سرد الخبر أو مجموعة الأخبار (سواء اتخذت شكل المقال أو التحقيق) بصورة مثيرة لحبِّ الاستطلاع. ومن هنا تكمن الخطورة في أدب الكاتب إذا كان صحفيًّا؛ إذ إنَّه من اليسير أن تختلط عليه أدوات التعبير، فيتحوَّل أدبه إلى شيء لا هو بالصحافة ولا هو بالأدب. وهذا لا يلغي إمكانية الاستفادة من العمل الصحفي لمصلحة الأدب؛ لأن كليهما تجمعهما وشائج عدَّة في أجهزة النشر ووسائل التعبير والجمهور القارئ. وهناك أمثلة عالمية ومحلية كثيرة للأدباء الذين أفادوا من الصحافة، وظلُّوا بالرغم من ذلك أدباء.
والأزمة الحقيقية في أدب إحسان هي أزمة منهجه في التعبير، هي أزمة المزاوجة بين أسلوبه الصحفي والمعالجة الأدبية. فالأسلوب الصحفي يُنسيه في أغلب الأحيان معنى التجربة في الأدب، وإذا اكتشف التجربة، وضمَّنها أحد أعماله، سارع ذلك الأسلوب بإجهاضها. وليس للتجربة الإنسانية تعريف محدَّد، فهي ظاهرة — اجتماعية أو فكرية — يعرضها الفنان من وجهة نظره، ومن خلال جزئيات حياتنا اليومية (في الماضي أو الحاضر).
… وتنصهر التجربة في بوتقة الفنان الكبرى، في حياته ووجدانه ووعيه، وتتَّحد ببقية العناصر المكوِّنة للعمل الفني، ومن ثَم تتحوَّل إلى تجربة فنية.
والباحث في أدب إحسان، يُضنيه بلوغ هذه الغاية، أعني العثور على هذا الجوهر المعقَّد للعمل الأدبي، فهو إمَّا يكتفي بتسجيل إحدى الظواهر في حالتها الساكنة، وبمنتهى السرعة الفوتوغرافية … وهنا يقترب العمل من التحقيق الصحفي، أو الصورة الصحفية إن جاز هذا التعبير. وإمَّا أنه يعثر على تجربة إنسانية حقيقية يلاحقها بأسلوبه الذي يعتمد على الفراغات المليئة بالنقط الثنائية، والتشبيهات الخالية المضمون … وهنا تسقط التجربة في وهاد السطحية والسكون، ويتوقَّف العمل الأدبي عن أن يكون أدبًا.
في الحالة الأولى — حالة التسجيل — نتحسَّس معالم صورة فوتوغرافية الْتَقطها أحدهم عفوًا وبغير قصد، ومن ثَم جاءت مشاهدها لا تتضمَّن أية إيماءة أو إيحاء. وفي الحالة الثانية، حيث يتمكَّن الكاتب من العثور على تجربة إنسانية، يُصبح العمل ناقصًا مُجهَضًا، لم تنضج حلقات تطوُّره لتكوِّن فيما بينها كائنًا حيًّا هو العمل الأدبي المتكامل. ولست أقصد بالتكامل أن يكون العمل خاليًا من العيوب، وإنما أعني أن يكون مستوفيًا للخطوط العامة في أيِّ عمل أدبي. وهذا ما أفتقده في أهمِّ الأعمال التي كتبَها إحسان، وكان من الممكن أن تكتمل لولا تلك القيود والأغلال الصحفية التي تعوق كتاباته عن النموِّ الطبيعي.
وليس شكٌّ أن الصور الفوتوغرافية والأعمال الأدبية الناقصة لهذا الكاتب تتضمَّن نقدًا تلقائيًّا لكثير من القيم الفاسدة في المجتمع، ولكن التلقائية هنا تشكِّل خطرًا رئيسيًّا على الفن؛ إذ تجعل من الصورة مشهدًا فرديًّا لا ظاهرة عامة، فلا يغوص الكاتب في أعماق الظاهرة حتى الجذور. ومن ثَم لا نرى سوى الانعكاسات الباهتة للفساد، ولا نبصر صورته العميقة.
ولهذا يتورَّط إحسان كثيرًا في تحقيق فكرته فنيًّا؛ إذ هو لا يتساءل حين يعثر على ظاهرة غريبة شاذة، عن كيفية التعبير عنها، إنما ينقلها إلينا صورًا طِبق الأصل. والغريب أنَّ القارئ يدهش كثيرًا لهذه الصور، ويتَّهم كاتبها بالشذوذ، بينما يمكن لأحداث هذه الصورة أن تقع في حقيقة الأمر. ولو أنها كُتبت في صفحة الحوادث بالجريدة اليومية لتقبَّلَها القارئ بشيء من الدهشة والإعجاب. أما الأدب فيتطلَّب شيئًا آخَر في غاية الأهمية هو عنصر «الاختيار». وقد يؤدي الاختيار إلى أن يلتقط الفنان صورًا أخرى من زوايا مختلفة لنفس الظاهرة الأولى التي وقع عليها، وهنا تختفي التجربة الإنسانية في ثياب التجربة الفنية، أي أن يتحوَّل الواقع إلى فن.
ويتورَّط إحسان مرة ثانية حين يعيش في إحدى التجارب الإنسانية، ويتخيَّر بعضًا من أحداثها بنظرة نافذة. ولكنه يقيم العلاقة بين هذه الأحداث من الخارج، أي بين سطوحها الخارجية، فلا يحاول أن يتعمَّق هذه الأحداث من الداخل. وهكذا لا تستطيع التجربة أن تعبِّر عن نفسها تعبيرًا متكاملًا. والتجربة الإنسانية لا تتحوَّل إلى تجربة فنية إلَّا إذا أُقيمَت العلاقة بين أحداثها في إطار من الوشائج الحية الداخلية. حينئذٍ لا يضطر الفنان إلى التشبيهات المفرطة في التسلُّل إلى خارج التجربة بدلًا من تعميقها والتسرُّب إلى داخلها.
ولهذا تصبح الشخصية في أدب إحسان تِمثالًا مجوَّفًا بلا معنًى؛ لأنها تجسيد لمجموعة من الصفات والأحداث الخارجية، وليست تجسيدًا لتجربة حية ناضجة، فهي تتخلَّى عن كونها نموذجًا بشريًّا، وعن كونها نمطًا مفردًا بذاتها، أي إنها تتخلى عن كونها شخصية فنية.
وعندما يتخلَّى الأدب عن التجربة الفنية والشخصية الفنية، يتوقف عن كونه فنًّا أصيلًا. إنه قد يُعطينا اللَّفتة البارعة أو اللمحة الجديدة، ولكنَّه لا يمنحنا هذه الدفقة اللاشعورية التي تصوغ بنياننا النفسي على نحو جديد متفرِّد، والتي لا يهبها سوى الفن الصادق.
•••
والصدق كما أعنيه هو الصدق الفني، فأنا أرى — مثلًا — أنَّ قصص إحسان عبد القدوس ربما كانت صادقة أخلاقيًّا، على غير ما يرى الكثيرون، ولكن هذا الصدق الأخلاقي مجرَّد غشاوة تَحُول دون رؤية الصدق الحقيقي النابع من ملاءمة العناصر العديدة المكوِّنة للعمل الفني ملاءمةً قد تتعارض مع الصدق الأخلاقي … ذلك أنَّ الصدق الأخلاقي نسبي للغاية، وملاءمة عناصر العمل الفني لبعضها البعض تعني في المقام الأول خلوَّ العمل من الاختلال أو التورُّم؛ أي طغيان أحد العناصر على بقية العناصر. ولذلك ندعو الأعمال الصارخة بالآراء السياسية، أعمالًا غير صادقة، لأنها تغلِّب العنصر السياسي أو الدلالة الاجتماعية على بقية العناصر الفنية.
وكذلك تفتقر معظم كتابات إحسان في القصة إلى ذلك الصدق الفني؛ لأنَّ التجربة الشخصية فيها تطغى على بقية العناصر، فتتَّسم القصة بالفوتوغرافية — على المستوى الفني — وبالتحريض على المستوى الاجتماعي … فإنني أرى أنَّ اللحظة الميكانيكية في الجنس كما يبدأ في تصويرها إحسان وينشط خيال القارئ في تكملتها، يرجع إلى ذلك المنهج القاصر في التعبير، والذي يغلب عنصر التجربة الشخصية على بقية العناصر الخاصة بأدوات التعبير والاختيار ورسم الشخصيات وبلورة التجربة والدلالة الاجتماعية والمعنى السياسي … إلخ.
ولست أميل إلى القول بأن الكاتب «يستهدف» ذلك ويتعمَّده لأسباب بعيدة عن الفن، فما يعنيني هو اكتشاف العلَّة الفنية في هذا اللون من الأدب، والتي تؤدِّي بدَورها إلى ذلك «الهدف» المتعمد، كما يقولون.
إنَّ أزمة هذا الكاتب — كما سنرى عند التطبيق — أزمة عميقة غامرة في منهج التعبير الذي يجهض تجاربه حينًا، ويحول القصة إلى مجموعة من الصور الفوتوغرافية حينًا آخَر، ويحوِّلها إلى تحقيق صحفي أو مقال قصصي حينًا ثالثًا.
•••
ويحسن بنا في الطريق إلى أدب إحسان عبد القدوس أن نعيِّن خطًّا واضحًا بين مرحلتين هامَّتين في تاريخ تطوُّره الأدبي. إحدى هاتَين المرحلتَين تقع حوالي عام ١٩٥٤م، حيث صدرت قصته الخطيرة «أنا حُرة». وترجع خطورة هذه القصة إلى أنها ارتادت الطريق في مناقشة أزمة الفتاة المصرية مناقشةً جريئة، تعتمد على صِدق الملاحظة، والتأنِّي في إصدار الحُكم، وتقييم تلك الأزمة تقييمًا خاليًا من المعايير الأخلاقية المُسبَقة. فالفتاة «أمينة» تعيش في بيت عمَّتها بين جدران تحوطها التقاليد المتزمِّتة، بعد أن ألقاها أبوها بين هذه الجدران، ليعيش حياته الخاصة كما تروق له، وبعد أن ألْقَتها الأم لتعيش بين أحضان العزِّ والترف وزوجها الثري. وتسبَّب جمال أمينة في اجترائها المستمر على اختراق الجدران السميكة التي أقامها زوج عمَّتها في وجهها … فاستطاعت أن تلفت إليها أنظار الشباب وأهليهم عن طريق البلكون تارة، والحفلات التي تُقام في بعض البيوت تارة أخرى. فقد وهبها جمالها مكانًا خاصًّا في قلوب الجميع، حتى إنَّها أصبحت بفضل هذا الجمال فتاة الحي التي تُثير الأمل في قلوب شبابه، والحسرة في قلوب شيوخه، والتنهُّد في قلوب أترابها وأمهاتهن. غير أن أمينة كانت تبني لنفسها عالَمًا خاصًّا، من أبرز ملامحه الاحتجاج المستمر على الواقع الذي تعيش فيه؛ فقد كان هذا الواقع مليئًا بما يصطدم مع طبيعتها وظروفها الخاصة. وإذا كان الاحتجاج قد اتَّخذ في طفولتها شكل الصراخ، فإنه اتخذ بعد ذلك شكلًا آخَر هو التبرُّم، بكل ما يُحيطها من مظاهر تَعُوق احتياجاتها الصغيرة، فالكبيرة، إلى التحرُّر. لهذا تتغيَّب عن المدرسة، وتتسكع في شوارع القاهرة، وتتعرَّف على خيَّاطة يهودية تتَّخذ منها صديقة لبعض الوقت، على أنها لا تلبث أن تثور على قِيَم المجتمع الخارجي، وتثابر على الدراسة حتى تحصل على التوجيهية، وعندئذٍ تقف الجدران حائلًا بينها وبين الالتحاق بالجامعة، بحُجة أنها أصبحت «عروسة»، وأنَّ الشائعات تحوط سلوكها من كلِّ جانب. وفي هذه اللحظة يفيق أبوها من سباته العميق، ويتدخَّل لإنقاذها، فيستأذن شقيقته في أخذها لترعاه في شيخوخته وتواصل خطوات مستقبلها. وتحتجُّ أمينة مرَّة أخرى على سنوات عمرها، فتلتحق بالجامعة الأمريكية إلى أن تكمل دراستها العالية وتعمل بإحدى الشركات.
ويتخيَّر المؤلف من جزئيات الحياة اليومية في واقع أمينة ما يتَّصل بأزمة الجنس، فيعرض لما حدث لها في صباها عندما حاول أحد الشبان أن يغتصب احتضانها ويقبِّلها … وظلَّت أنفاسه الكريهة تلاحقها من شاب إلى آخَر، إلى أن ارتمت بين أحضان عباس، ذلك الفتى الجاد، الذي كان يمرُّ من أمام منزلها فلا يرفع عينَيه إلى الشرفة التي تقف بها. حتى إذا جرؤت على الاتصال به حين باعدت بينهما السنوات، وأصبح صحفيًّا، أحسَّت أنها تصوغ حريَّتها أخيرًا في رجل تُحبه وتؤمن به، فإذا تجرأ واحد من الأصدقاء القريبين … «ويلح عليها في السؤال: متى تتزوج من عباس؟ وقد يضمن سؤاله لهجة عتاب ولوم أو شفقة وتحذير، فتغضب أمينة وتثور كأن الصديق يتدخَّل فيما لا يعنيه، وتصرخ في وجهه: أنا حُرة» (ص١٤١).
•••
وكثيرًا ما أحسُّ، إلى الآن، أن هذه القصة هي أنضَج أعمال هذا الكاتب على الإطلاق. حتى إنني لست بحاجة إلى إبراز «صورة الجنس» من بين صفحاتها. لأنَّ حيوية التجربة الإنسانية في القصة، أضفَت على الجنس بها دلالة خاصة تتَّصل بمعنى التجربة ككل؛ أي إنَّه لم يكُن سوى أحد عناصر الرؤية الشاملة لمعنى «الحرية» في وجدان الفتاة المصرية آنذاك، وهو الدلالة التي قصد إليها الكاتب مباشرةً.
إلا أنه في محاولة التعبير عن هذه التجربة الكبيرة، لم يوفَّق في استحداث المنهج التعبيري الكفيل بتجسيدها وتأدية أهدافها على الوجه الأكمل. فقد سلك أكثر الطرق مباشرة وتقريرية في الكشف عن جوهر التجربة، بدلًا من إكسابها عناصر جديدة، ترتفع بها إلى المستوى الفني الجدير بها.
والمباشرة التقريرية من سمات العمل الصحفي، ولهذا اختلطت أدوات التعبير عند الكاتب، فبينما كنَّا نتوقَّع أن يكون المونولوج الداخلي هو الأداة الرئيسية التي تكشف لنا عن البنيان الداخلي للفتاة، لم نعثر إلَّا على مجموعة من التقارير الصحفية حول نشأة أمينة وما آلَت إليه حياتها. وليس شكٌّ أننا كنا بحاجة ماسَّة إلى التعرُّف على جذور أزمتها، حتى لا تبدو هذه الأزمة مفتعلة. ولكن الفرق بين الصحفي والأديب فيما أرى، أن الفنان يصور انعكاسات الجذور الاجتماعية للأزمة على وجدان الفتاة. ومن هنا يضطر الكاتب إلى تعمُّق هذه الأزمة من الداخل — على المستوى النفسي — ويضطر إلى استخدام أداة التعبير المناسبة لذلك، كالمونولوج الداخلي أو الخواطر المتداعية — على المستوى الفني — ثم يربط بين الداخل والخارج ربطًا ديناميًّا مُحكَمًا، فترتفع أزمة أمينة إلى مستوى الرمز، أي إنها تصبح تجسيدًا عميقًا لأزمة مصر بكاملها.
ونتيجة لذلك، بَدَت القصة في كثير من المواضع، وكأنها تصوِّر أزمة وهمية، فالكاتب يمهِّد للعلاقة بينها وبين الفتاة اليهودية «فورتينيه» هكذا: «أصبحت تتلذَّذ من سماع أحاديث فورتينيه وهي تصف لها كيف يقبِّلها صديقها وكيف يحتضنها بين ذراعَيه، وبماذا يمنِّيها وبماذا يَعِدها … ولم تكُن هذه الأحاديث تُثير فيها شيئًا من غرائزها إلَّا غريزة حب الاستطلاع وحب المعرفة، ولم تصِل بها أبدًا إلى حب التجربة» (ص٤٩). ثم يعود ليصف حياتها مع عباس بعد ذلك قائلًا: «كانت تتركه لتذهب إلى بيتها وترقد في فراشها، فإذا به ينطلق من خيالها ويرقد بجانبها وليس بينه وبينها سوى خيط رفيع يظلُّ يفصل بينهما مهما مدَّت ذراعها نحوه، ومهما تقلَّبت لتلتصق به … وكانت تتصوره بخيالها عَبْر هذا الخيط الرفيع وهو راقدٌ مرتديًا بيجاما تنتقي له — بخيالها أيضًا — لونها وطرازها، ثم تقيس طول قامته بعَيْن الوهم وتلتفت إلى آخِر الفراش لتبحث أين سيكون موضع قدمَيه العاريتَين الكبيرتين، ثم تمدُّ قدمها العارية علَّها تصطدم بهاتين القدمَين ثم تنظر — بعين الوهم أيضًا — إلى موضع رأسه فوق الوسادة وترى وجهه الصارم وقد هدأ وارتاحت عضلاته وتشعَّث شعره الأسود حتى انتثرت خصلات منه فوق جبينه، ثم ترى شفتَيه وقد انفرجتا انفراجةً ضيِّقة كأنَّها تناديها، فتكاد تحسُّ بشفتَيها تلبِّيان النداء، وتكاد تحسُّ بذراعه القوية تحيط بخصرها وبجسدها ينتفض في رفق كأنَّ يد الله تمرُّ به لترحمه من عذابه» (ص١٢٥).
هذا الاستغراق الحاد في جزئيات الصورة الخارجية، قد يوحي لنا بمدى السلبية والجنوح إلى الخيال عند أمينة، ممَّا يتعارض مع حقيقة هذه الفتاة التي كانت تعبِّر عن إرادتها في التحرُّر بمجموعة من أشكال السلوك الثوري الخالص. ولو أنَّ المؤلف اهتمَّ قليلًا بجزئيات العالم الداخلي للفتاة، ثم ربط بين العالمين بوسائل تعبيرية ناجحة، لتحوَّلَت الشخصية الإنسانية — أمينة — إلى شخصية فنية ناضجة أي مليئة بالرمز والإيحاء. ولكن القصَّة أغفلت تمامًا هذا الارتباط الحي الوثيق بين الصورة الداخلية للنفس البشرية، والصورة الخارجية للشخصية الإنسانية، مهما كان هذا الارتباط قائمًا على الصراع بين الداخل والخارج … ومن ثَم جاءت صورة «الجنس» في الرواية، غائمة باهتة، لا تكاد تبين.
والباحث في «أنا حرة» يرى الجنس وكأنه على استعداد لأن يكون تجسيدًا لأزمة الحرية عند الفتاة … فهي عندما تثور على جدران بيت عمَّتها، تلتقي بفورتينيه وصديقها، والشاب الآخَر الذي حاول تقبيلها. وهي عندما تحطِّم جدران المجتمع وتلتحق بالجامعة الأمريكية، فلكي تلتقي بذلك الشاب الذي يقبِّلها فعلًا هذه المرة بين أحضان عربته الخاصة. وهي إذا تخرجت من الجامعة، وعملت في إحدى الشركات، تحطِّم الجدران للمرة الثانية وتتَّصل ﺑ «عباس» وترتمي بين أحضانه من اللقاء الثاني أو الثالث، ثم تلتحم حياتهما في شقة واحدة دون أن يقيما وزنًا لما يدعوه المجتمع بالزواج.
أي إنَّ الجنس، في المستوى الاجتماعي كان الشكل التعبيري لمضمون الحرية كما تريدها أمينة، وهو جوهر التجربة الإنسانية كما تخوضها هذه الفتاة، وكما أراد أن يقدِّمها لنا إحسان عبد القدوس، ولكن الأسلوب الخبري الذي يعتمد على الوصف الخارجي دون النفاذ إلى التكوين الداخلي للشخصية، والذي يقيم الارتباط بين التجربة وأحداثها وشخصياتها على مجموعة من الفراغات المليئة بالنقط الثنائية والتشبيهات التي تتوسَّل إلى المعنى بإشارات جزئية من الخارج … هذا الأسلوب أدَّى في النهاية إلى إجهاض هذه التجربة الخطيرة بأن أسهمَ في تعريتها من أي رداء فني، وأذاب همزات الوصل الدقيقة بينها وبين الأحداث، والأواصر الواجبة الوجود بين هذه الأحداث وشخصيات القصة. كما كان هذا الأسلوب مدعاةً لأن تسقط القصة في وهاد الآلية من جرَّاء الهرولة الصحفية الواضحة في تصوير مجرى الأحداث. حتى تبلغ هذه الآلية ذروتها في حديث تقريري مباشر بين عباس وأمينة حول الحرية، ينتهي بأنَّ الحرية في حقيقتها هي العبودية لشيء ما، فالإيمان بمبدأ الحرية نفسه، والعمل من أجل تحقيقه، هو أحد أشكال العبودية … ومن ثَم تختار أمينة هذا الرجل … عباس … كشيء تؤمن به الحياة، كرمز لحريتها أو عبوديتها على السواء. وهكذا يحيط الكاتب معنى الحرية بالضباب الكثيف … ولو أن هذا الضباب سلك أقل الطرق مباشرةً وتقريريةً لكُنَّا نستطيع القول بأنَّ «الحيرة» هي السمة البارزة على جبين شباب ذلك الجيل، ولكُنَّا نستطيع القول بأننا أصبنا تجربة غزيرة خصبة. غير أن منهج التعبير لدى الكاتب أفسد علينا هذه الدلالة أيضًا.
وبالرغم من ذلك، فإننا لم نشهد «الجنس» في القصة مفروضًا مُقحَمًا، ولم نشهده في لحظته الميكانيكية … ولهذا خَلَت القصة من صوره الفنية والمبتذَلة جميعًا؛ لأن أدوات الصياغة الصحفية أصابت الرؤية الشاملة لمعنى الجنس والحرية بالشلل، إذ هي أفقدت التجربة الكبيرة حيوية النمو المعقَّد داخل إطار من العلاقات المتشابكة، التي تصوغ النسيج العام للرواية في القالب الأدبي الناجح. ومع هذا ستظلُّ «أنا حُرة» إحدى علامات الطريق إلى اقتحام أزمة الفتاة في مجتمعنا، بل إشارة جادة إلى أزمة هذا المجتمع بكامله.
•••
ويؤسف الناقد حقًّا ألَّا يرى امتدادًا ناضجًا لهذه القصة في أعمال إحسان خلال تلك الفترة الواقعة حوالي عام ١٩٥٤م. بل إنني حين أتصفَّح قصص تلك المرحلة أُصاب بخيبة أمل كبيرة. فنحن نلتقي مثلًا ﺑ «الخيط الرفيع» حيث يقول الكاتب في مقدمة صغيرة: «شيء اسمه الحب … وشيء اسمه غريزة التملُّك، وبين الحب وغريزة التملك خيط رفيع … رفيع جدًّا … إذا ما تبينته تكشَّف لك الفارق الكبير.» وحول هذه الحكمة تدور أحداث «القصة»، وندرج هذا التعبير مع التجاوز الشديد. فنحن نلتقي في واقع الأمر بتحقيق صحفي حول شاب أجهد عمره بين صفحات الكتب، فسلب منه الزمن كلَّ نضارة الشباب وروعته. وتصطدم عيناه بفتاة جميلة يراها لأول مرة في أحد البنوك. ويراها ثانيةً برفقة أحد الأثرياء. ويحدث أن يُنقَل إلى المستشفى في حادث ألمَّ به في الطريق، وحينئذٍ تذهب إليه «يولند» وتُعنى به عناية كبيرة يدهش لها. غير أنَّها كانت قد أشفقت عليه إشفاقًا نال من عواطفها وإحساساتها الشيء الكثير، كذلك الإشفاق الذي استدره منها أحد الضباط البريطانيين «أراد أن ينسى لندن فدعاها إلى بيته ليشربا قدحًا من الشاي الساخن … وهناك فوق الأريكة الواسعة أخذ يحدِّثها عن لندن وعن لياليه التي قضاها في لندن، وعن الفتيات اللواتي الْتَقى بهنَّ في لندن … ثم أغمض عينَيه ليتوهَّم نفسه في لندن … ثم ضمَّها إلى صدره واحتضن شفتَيها بشفتَيه ليتوهَّم أنها إحدى فتيات لندن! ثم مدَّ ذراعه وأطفأ النور.» ثُمَّ يترك الكاتب سبعة أسطر من الفراغات المليئة بالنقط الثنائية (ص٥٧ من طبعة الكتاب الذهبي، في أبريل ١٩٦١م). ثم الْتَقت بالشاب الوحيد الذي أحبَّته. كان ابنًا لأحد كبار موظفي السفارة البريطانية في مصر … «أحبته بكل ما في قلبها من حنان وطيبة وشفقة وكرم، وبكل ما تمنَّته في أحلامها من سعادة وحياة مستقرة آمنة وادعة. أحبَّته حتى لم يعُد في قلبها شيء تعطيه للضعفاء المحزونين الذين اعتادت أن تُشفق عليهم … وكانت الحرب قد انتهت، والْتَحقَت بوظيفة في بنك باركليز، فإنها — كأبيها — لا تستطيع أن تعيش بلا عمل … وكان هو موظفًا في شركة شل، فنُقل إلى أحد فروع الشركة على ساحل البحر الأحمر. وقبل أن يسافر إلى مقر منصبه الجديد، أعلنا خطبتهما. واكتملت لهما السعادة … ومضى عام كامل وهي تخرج من البنك لتجلس في بيتها تكتب له … كانت تكتب له كل يوم، وتعيش معه في صفحات طوال لا تنتهي إلا عندما تنام بعد أن تضع صورته في جفونها … ولكن هذه السعادة لم تدُم، فقد تدخَّلَت أمه لتحرمها منه، وكان قلبها الطيِّب الحنون أضعف من أن يقاوم أنانية الأم التي تريد لابنها أن يتزوَّج من فتاة هي ابنة رجل مالطي، والإنجليز لا يحترمون كثيرًا أبناء وبنات مالطة!» (ص٥٩).
وعلى أثَر هذا الجرح العاطفي، ساءت معيشة أسرتها، حتى وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام المأساة … «وهنا فقط تذكرت عبده بك. تذكرته من أجل أمها المريضة، وأبيها العجوز وشقيقها اللاهي، وشقيقتها العاطلة … وكان عبده بك يتردَّد على البنك، وكان ينظر إليها طويلًا وحاول أن يُحيِّيها مرَّة أو مرَّتَين فصدَّت تحيَّته في إهمال رغم أنها تعرف مدى نفوذه وتعرف — خلال الأرقام التي تمرُّ بها أثناء عملها — مدى ثروته … وكان قد أرسل لها إحدى زميلاتها يدعوها إلى موعد فرفضت … ولكنها قرَّرت أخيرًا أن تقبل … وقالت له بصراحة — وفي المرة الأولى التي خرجت فيها إليه — إنها تريد أن تدفع نفقات أمها … ودفع عبده بك في سخاء كبير يكفي لعلاج أمها وجميع أفراد عائلتها لو مرضوا مدى الحياة، وأصبحت عشيقته» (ص٦١).
وفي هذه الحال التعيسة، الْتَقت بالبروفيسور الشاب العجوز مرَّة أو مرَّتين، كان يرافقها عبده بك حينًا، أو أحد الشبان ممَّن تتوفَّر فيهم صفة الشباب حينًا، ولكنها لأمرٍ توجَّهَت فورًا إلى المستشفى الإيطالي «ولم تكُن تدري أنها قامت لتكتب قصتها معه» (ص٥٠) كما يقول المؤلف بالحرف، وهو اعتراف ضمني، بأن ما مضى من أحداث مجرَّد مقدمة. وقصتها معه أنها أشفقت عليه، أمَّا هو فأحبَّها، وامتزج إشفاقها بحُبه في حياة مشتركة، ضحَّت أثناءها بكل شيء، بالرخاء والشباب. إلى أن ضاقت بهما هذه الحياة فقد دفعته بيدَيها إلى القمة، ولكن هذه القِمة لها متطلباتها التي تتعارض مع بقائه أسيرًا لهذه الحبيبة. أما هي فقد بدأ شبابها وأنوثتها يتمردان عليها، فأطلقت لهما العنان. وحاولت المستحيل في أن تُبقي عليه وعلى نفسها في آنٍ واحد، إلَّا أنها فوجئت به يرفض كل ذلك، ويطلب إليها أن ترسل بثيابه إلى مكتبه، فأرسلتها إليه ممزَّقة إلى قطع صغيرة … «إن الناس كلها تعرفه وترى صورته وتقرأ أبحاثه في الصحف.» وسيصبح أكبر مما هو، وسيكون حتمًا وزيرًا … ولكنَّ أحدًا لا يدري أنه يبيع كل ذلك لو وجد امرأة تحبه، يبيعه ليصبح رجلًا كاملًا وسيمًا متَّسق العضلات يستحق الحب … أما هي، فقد عادت إلى عبده بك أيامًا، ولكنها لم تحتمله ولم يحتملها … فتركته إلى رجل آخَر … وإلى آخَر … وإلى آخَر … وأخذت تهوي من رجل إلى رجل حتى أصبحت محترفة رجال لا تُبقي على واحد منهم أكثر من ليلة … فقد فقدت قلبها، وفقدت أعصابها، وفقدت اتزانها … إنها تريد رجلًا تمتلكه، ولن تكون أبدًا لرجل يمتلكها ما دامت لا تحبه … وهي تريد أن تمتلك هذا الرجل بالذات الذي صنعته من شفقتها وطِيبتها وجعلت منه عملاقًا أفلتَ من يدَيها … إنها لا تزال تنتظر اليوم الذي يعود إليها فيه زاحفًا على ركبتَيه … ولا تزال تمزق كل جريدة ترى فيها صورته … ولا تزال تتمنَّى له أن يموت قبل أن يكون لغيرها. إنها تتعذَّب ولا تدري سر عذابها … كلٌّ منهما لا يدري … لأن أحدًا منهما لم يستطع أن يرى الخيط الرفيع … الرفيع جدًّا … الذي يفصل بين الحب وغريزة التملُّك … عاطفة الحب التي تسمو بك إلى مرتبة الملائكة … الحب الذي يدفعك إلى أن تضحِّي بنفسك في سبيل مَن تحب، وغريزة التملُّك التي تدفعك إلى أن تضحِّي بمَن تحب في سبيل نفسك. الحب الذي يدفعك لأن تغار على مَن تحب، على سعادته وراحته وسلامته … والتملُّك الذي يدفعك لأن تغار على نفسك … لسعادتك وراحتك وسلامتك … الحب: العطاء … السخاء. والتملُّك: الأخذ … الأنانية … والناس كلهم لا يرون هذا الخيط الرفيع … وإلَّا لَعرفوا لماذا تخون هذه الزوجة التي تبدو سعيدة بزوجها وبيتها وأولادها … لماذا تخون زوجها وقد وفَّر لها الشباب والمركز الاجتماعي وضَمِن لها المستقبل، ولماذا يخون هذا الزوج زوجته … وقد وفَّرَت له الشباب والجمال والبيت السعيد، وحسده عليها الجميع، ولماذا يحرص الزوج الخائن على زوجته إلى حدِّ أن يقتلها، ولماذا تحرص الزوجة الخائنة على زوجها إلى حد أن تقتله، ثم لماذا في هذه القصة يتعذَّب الفتى وقد كان يستطيع أن يكون بجانب المرأة التي أحبَّها لو ضحَّى بالمجتمع وببعض مستقبله في سبيلها، ولماذا تتعذَّب المرأة وكانت تستطيع أن تبقى له لو ضحَّت بأنانيتها في سبيل مستقبله وسعادته … إنها غريزة التملُّك … الغريزة البشِعة التي يفصل بينها وبين عاطفة الحب السامية خيط رفيع … رفيع جدًّا» (ص١١٣).
… ولقد آثَرتُ أن أنقل هذا النص المطوَّل لأتساءل مع أي قارئ مُنصِف: ما صِلة هذا الكلام بالشيء الذي تواضعنا على تسميته بالقصة؟ هذا التدخل التقريري السافر من جانب الكاتب، هل يُبقي — في هذه الصفحات الطوال — على شيء اسمه قصة؟ إننا لا نعثر على التجربة الإنسانية في أي معنًى من المعاني، لا نعثر على أي ظاهرة من وجهة نظر الكاتب ومن خلال جزئيات حياتنا اليومية، وإنما نتحسَّس معالم ريبورتاج عن «حادثة»، يمكن وقوعها في الحياة، نقلَها إحسان كما هي في الواقع مضافًا إليها تعليقاته السطحية. هل ثمة قضية فكرية حقيقية، تناولها الكاتب بالتعبير، من خلال أية أداة من أدوات التعبير. إننا نلاحظ ببساطة أن المؤلف لم يتمثَّل سوى الأداة الوصفية، لا في تصوير الحدث، وإنما في تقريره، ولا في تجسيد الشخصيات، وإنما في التعليق على وجودها خارج النص المكتوب … حتى إننا نستطيع الاكتفاء بالكلمات التي قدَّم بها المؤلف هذا النص، لا لمناقشتها، وإنما لتسجيل هذا الرأي فحسب. فنحن لم نُعايش تجربةً اختلطَ فيها الأمر على شخصياتها بين عواطف الحب والشفقة وما إليها — كما نرى في قصَّة تولستوي «حذارِ من الشفقة» — حيث تزوغ الرؤية في العيون، ومن ثَم لا ترى مأساتها بوضوح. وإنما تجد تقريرًا صحفيًّا عن الشاب العجوز، وتقريرًا مماثلًا عن الفتاة. التقرير الأول يقول إن صاحبه يحب. والتقرير الثاني يقول إن الفتاة تمكَّنَت منها غريزة التملُّك. ثم يهتف الكاتب في النهاية أن ثمَّة خيطًا رفيعًا بين الحب وغريزة التملُّك هو إصبع الديناميت غير المرئي، الذي تنفجر بواسطته كل مأساة إنسانية تعتمد على العواطف المتضاربة والنوازع المتباينة. وبغضِّ النظر عن صواب هذا الرأي أو بُعده عن الصواب، فإنني أقول بضمير مستريح، إنَّ المؤلف جانَبَه التوفيق تمامًا في أن يصوغ هذا الرأي في قصة فنية.
ولذلك تبهت قضية الجنس في هذا العمل بهتانًا شديدًا … فلا نحن نعرف شيئًا عن طبيعة الأزمة «الجنسية» التي يعيشها كلٌّ من الفتى والفتاة. وإنما نُحاط علمًا بأن الفتى لم يكُن يحسُّ بالمرأة مطلقًا في حياته إلى أن التقت عيناه ﺑ «يولند»، فيستشعر مجموعة من الأحاسيس تهتز لها خلجات نفسه اهتزازات منتشية، بينما تكون الفتاة المالطية غارقة حتى أذنَيها في «الجنس» … وإن كان ذلك على حساب شبابها الحقيقي وأنوثتها الحقيقية. وربما كانت اللحظة اليتيمة التي أحسَّت فيها بهذا الشباب وهذه الأنوثة، هي تلك اللحظات التي كانت تقضيها مع شاب متسق العضلات فوَّاح بالرجولة.
إن المؤلف هنا لا يصوِّر الجنس على أنه مأساة تكوي الأفراد بلذعات لا تطفئها الشهوات العابرة، ولا هو يصوِّره كإحدى أزمات حياتنا الاجتماعية، أو كانعكاس لأزمة المجتمع ككل … وإنما ينهج في رؤيته للجنس منهجًا تسجيليًّا لا يكتشف ظاهرة، ولا يستحدث قضية، ولا يشير مجرَّد إشارة إلى علة ناخرة في جسد المجتمع. ذلك أنه اكتفى بأن يعرض للجنس من خلال تسجيله الصحفي لمعنى الحب وغريزة التملُّك في حياة فردَين من الناس.
ولعلَّ الظاهرة الخطيرة في أدب إحسان عبد القدوس تخصُّصه الحاد في «الجنس» دون أن يعطينا شيئًا ذا بالٍ في هذا المجال. ونحن لا نطلب إليه أن يأتينا بنظرية في الحضارة من خلال الجنس كما سبقه إلى ذلك بعض الكتاب في أوروبا … ولكنَّا توقَّعنا منه، في نطاق هذا التخصُّص الكامل، أن يتناول هذه القضية في أبعادها الكثيرة. غير أننا نلمس أنه لم يتناول الجنس مطلقًا كقضية خطيرة تستحق أن تُناقش، وإنما كمجموعة من المشاهد العرضية التي يسلبها الأسلوب الصحفي مقومات وجودها كعنصر جزئي في تجربة شاملة. ذلك أننا نفتقد التجربة الشاملة منذ البداية في أدب هذا الكاتب. ومن ثَم نفتقد الرؤية الشاملة لمعنى الجنس في هذا الأدب.
•••
في المجلد الذي يضم الخيط الرفيع تصادفنا «طقطوقة» صحفية في غاية السذاجة، عنوانها «أشرف خائنة» … وهي تجسيمٌ مُضحك ومُبكٍ في آنٍ واحد لأزمة هذا المؤلف، فقد الْتَقى اثنان من البشر — رجل وامرأة بالطبع — ذات يوم … ولظروف قهرية امتنع كلٌّ منهما عن لقاء الآخَر. ثم اكتشفا أن التليفون هو الوسيلة الوحيدة لِلِّقاء الشريف … فقد كان كلاهما متزوجًا، ولسبب أو لآخَر لا يريدان تدنيس الشركة المقدسة التي تجمع كلًّا منهما بزوجه. والمؤلِّف يبدأ الطقطوقة بقوله: «إنَّ في الفنَّان قسوةً لا غِنى له عنها. قسوة الرسَّام عندما يضع أمامه امرأة عارية ويكشف عن مفاتن جسدها بريشته، ثم يعرضها على الناس … وقسوة الكاتب عندما يسرق سر فتاة أو سر رجل ويصوغه في قصة ينشرها على العالم … بل أحيانًا يقسو الفنان على نفسه فيستغل أعزَّ عواطفه وأعزَّ الناس إليه ليُشبع بهم شهوة قلمه أو شهوة ريشته … وقد شعرتُ بهذه القسوة وأنا أكتب قصصي التي اعتدت أن أختار أبطالها من أشخاص واقعيين … شعرت بها وحاولت دائمًا أن أكفِّر عنها … وتماديت في التفكير حتى جعلت من نفسي عبدًا مأمورًا لبعض البطلات وبعض الأبطال الذين اغتصبتُ قصصهم وذبحتُها بطرف قلمي. ولكن ماذا يُجدي التفكير بعد أن تقع الجريمة؟ وها أنا ذا أرتكب جريمة أخرى. قصة أذبح فيها سر سيدة وثقت بي، وسر رجل أحترمه وأجلُّه» (ص١١٦). وليست هذه الكلمات مقدمة ﻟ «قصة!» إنها جزء لا ينفصل عنها، فهذا هو منهج الكاتب في التعبير، إنه يختتم حديثه بقوله: «لم يلتقيا إلى اليوم لقاء حبيبَين، ولا لقاء صدفة … ولا أدري إن كانا سيكتفيان بخيالهما أم سيفرَّان من العذاب إلى مكان لقاء.» يتساءل بإخلاص شديد: «ولكن هل هي خائنة لزوجها حتى اليوم؟ وهل هو خائن لزوجته؟ إنها أشرف خائنة! وهو أشرف خائن!» (ص١٢٢) … ولست أدري ماذا يكون العبث وامتهان العقل والوجدان البشريين، إذا لم يكونا متجسِّدَين في مثل هذا الكلام الفارغ من أي معنًى أو دلالة.
•••
يقدِّم إحسان لقصة «أين عمري؟» بهذه الكلمات: «إن العمر لا يُحتسب بالسنين، ولكنه يُحتسب بالإحساس … فقد تكون في الستين وتحسُّ أنك في العشرين، وقد تكون في العشرين وتحسُّ أنك في الستين» … وحول هذه الحكمة البليغة تدور أحداث القصة في سلسلة متصلة برباط وثيق من الجبرية والحتمية التلقائية. فالستُّ أم عليَّة تتشح بالسواد من الداخل والخارج وهي ما تزال في أواسط الحلقة الرابعة من عمرها؛ ذلك أنها تزوجت في سنٍّ صغيرة من رجل مسنٍّ، فترمَّلَت بأسرع ممَّا تتوقَّع. وقد حدَّدَت هذه السيدة — لأسباب لا يدريها أحد سوى المؤلف — مصيرَ ابنتها في حدود مصيرها. ولذلك فاجأتها بالزواج من رجل مسنٍّ وهي ما تزال على أعتاب السادسة عشرة. وهكذا تمرُّ «عليَّة» بنفس الأطوار التي سبق أنْ مرَّت بها أمها، فيشيخ الزوج ويمرض، ثم يموت ولمَّا تتجاوز الثلاثين من عمرها. وتقرِّر المرأة الصغيرة — لأسباب لا يدريها أحد سوى المؤلف أيضًا — أن تغيِّر من المصير الذي آلَت إليه أمها من قبلُ. وتحاول العودة إلى صباها فتفشل وتنهار شخصيتها بين الانجذاب إلى الصبا وحقيقة شبابها الراهن وجنازة شيخوختها الباكرة التي استكانت زمنًا في أحضان شيخ مهدم، لفظ أنفاسه وهي تتحرَّج باتِّهامه لها بالخيانة مع الطبيب الشاب الذي يعالجه. ولم تكُن قد خانته بعدُ. غير أنَّها لا تلبث أن تنتقم لهذا الماضي المحمَّل بعبء السنوات الباهظة التي دفعتها من أروع فترات عمرها. إذ بمجرد أن يموت الزوج، تتعرَّف على شابٍّ صغير السن هو «عادل» ترتاد برفقته الحفلات الصاخبة إلى أنْ كان يوم «خطا نحوها خطوة واحدة، وأزاح الكتاب من أمام وجهها في حركة خاطفة ولفَّها بذراعَيه، وسقط على شفتَيها بشفتَيه، وكان هو نفسه قد فاض به الاندفاع والارتباك حتى سال لعابه على شفتَيها قبل أن يستطيع أن يبتلعه. وجذبت علية نفسها من بين ذراعَيه، وابتعدت عنه خطوتَين وفي عينَيها دهشة أقرب إلى الذهول، وكأنها فوجئت بفصلٍ من فصول القصة لم تحسب حسابه، ولم تستعدَّ له، ولم يخطر على بالها عندما قرَّرَت أن تبدأ الحياة من عمر الخامسة عشرة. وقالت مبهورة الأنفاس وهي تمسح لعابه من فوق شفتَيها وجانب خدها بظهر كفها: إنت اتجننت يا عادل … احنا مش اتفقنا نبقى أصدقاء؟» (ص١٨٠) … «وكادت علية تُجَن، وأخذت تضرب صدره بقبضتها وتحاول أن ترفعه من أمامها … ولكنه كان قد أصبح قطعة من الحجر الملتهب لا تعي وإنما تنفث النار … وعندما أعجزه أن يشلَّ ذراعَيها اللتين ترتفعان في وجهه وتدقَّان على صدره وتحاول بهما أن تُزيحه عنها، رفع كفه بكل ما فيها من نار وشباب وهوى بها على صدغها … وسكتت علية … وكفَّت عن المقاومة … وانهمرت دموعها صامتة فوق وجنتَيها … وشدَّت دموعها إلى الأرض، فسقطت وهي لا تعي» (ص١٨٣). ثم يترك الكاتب خمسة أسطر من الفراغات المليئة بالنقط، لينشط خيال القارئ في وضعها فوق الحروف!
ولا يستطيع عادل أن يخلق التوازن في حياة علية؛ لأن المؤلف كان يختزن في ركام تجاربه شخصيةً أخرى تقوم بهذا الدور. كان هناك «خالد» الطبيب الشاب الذي عالج زوجها، فقد عاد إليها أو عادت هي إليه، ليقوم بعلاجها. وتمكَّن خالد وتمكَّنت علية بعد جُملة مناورات تعرفها السينما المصرية جيدًا، تمكَّنا من التغلب على الأزمة بالزواج، وعاشا في التبات والنبات كما تقول الحدوتة، وتتطوَّع الشاشة المصرية بإثبات القول.
وتتضاءل أزمة علية في «أين عمري؟» إلى جانب أزمة أمينة في «أنا حرة»، بالرغم من أن أزمة المؤلف فيهما واحدة، أعني أزمة المنهج القاصر في التعبير عن التجربة الإنسانية التي أُجهضت في «أنا حرة»، والتي لم توجد أصلًا في «أين عمري؟»؛ فقد تسبَّب الترتيب الآلي في أحداث هذه القصة الأخيرة، فيما يمكن تسميته بتجميد تلك الأحداث في قوالب تجردية غير مبرَّرة فنيًّا، أي إنها خَلَت من التَّماسُك الطبيعي الذي تخلقه عادةً العلاقات الإنسانية المتناهية التعقيد. ذلك أنَّ هذه العلاقات في القصَّة جاءت مسطَّحة إلى أبعَد الحدود، كلٌّ منها تؤدي إلى الأخرى بصورة ميكانيكية، بقوة الدفعة الأولى لكلمات المؤلف التي قدَّم بها قصته، والتي تخلَّلَت القصة في بعض المواضع، تخلُّلًا مُقحَمًا مُفتعَلًا … كما نرى في حديث خالد إليها عن سنوات عمرها التي أُهدرت، وأفسحت الطريق لهذا العمر أن يتأرجح بين الخامسة عشرة والخمسين، ويهجر مرحلتها الزمنية الحقيقية: «عرفت إنك اتجوزتِ وعندك خمستاشر سنة، وإن جوزك كان عنده خمسين سنة، وإن من يوم ما اتجوزك ما سبكيش لوحدك أبدًا، ما كنتيش تخرجي إلا معاه، ولا تزوري حَد إلا معاه، وكان ياخدك يقعَّدِك في العزبة، بُوزك في بُوزه ست أشهر في السنة … كل ده عرفته من قرايبك وصاحباتك … واستنتجت إنه لازم معيِّشك زي عيشته، وإنه سيطر عليكِ لغاية ما خلَّى عقليتك زي عقليته، وتفكيرك زي تفكيره، وحركاتك زي حركاته، ومزاجك زي مزاجه … يعني نط بيكي من سِن خمستاشر سنة لسن الخمسين مرَّة واحدة … وخلاكي عايشة زي أمي كده» (ص٢٢٢). «وبعدين جوزك مات الله يرحمه! وتنبهتِ لنفسك، خرجتِ من دنيا العواجيز اللي كان معيِّشك فيها، وعرفتِ إنك متمتَّعتيش بعمرك، وإن قطار الحياة ما وقفش بيكي على محطات شبابك. وخدك زي الإكسبريس لآخِر محطة في عمرك … وقفتِ حيرانة مش عارفة تعملي إيه ويمكن عيَّطتي زي البنت الصغيرة التايهة بتدوري على شبابك وخايفة يكون ضاع وما تلقهوشي … وبعدين قررتِ إنك تاخدي الإكسبريس نفسه وترجعي بيه لغاية المحطة اللي ركبتيه منها … ونزلتِ منه في محطة خمستاشر سنة وابتديتي تعيشي أصغر من سِنك بعد ما كنت عايشة أكبر من سنك … ابتديتي تركبي بسكلتات وتلعبي مع العيال الصغيرين، ومين عارف؟! يمكن كنت بتنطي حبل وتلعبي استغماية» (ص٢٣٤). وتزوجت خالد، وعندما فاجأها يومًا ووقف وراءها ووضع كفَّيه فوق عينَيها، وقال مداعبًا: أنا مين؟!
تظاهَرَت بالتخمين، وأخذت تتحسَّس كفَّيه بأصابعها ثم لمست خاتم الخطوبة في إصبعه، وقالت في صوت كنغم الناي: «أنت عمري» (ص٢٤٢).
ولعلَّ هذه القصة من أهم أعمال إحسان التي تكشف خطورة المزاوجة بين التعبير الصحفي والمعالجة الأدبية؛ إذ نحن هنا لا نعثر على التقرير الوصفي المباشر إلَّا في مواضع قليلة من القصة … ولكنا نعثر على شكل آخَر من أشكال التقريرية هو تسجيل الأحداث تسجيلًا تقريريًّا، يؤدي إلى نتيجة مُسبَقة. وهذه الظاهرة تؤكِّد ما سبق أن ذكرناه من أنَّ الطبيعة الأصيلة للعمل الصحفي هي التقرير أو الصيغة الخبرية، بينما تظلُّ الطبيعة الأصيلة للعمل الأدبي هي التصوير والرؤية الفنية. ومن هنا يصبح الترابط بين الأحداث تلاحقًا آليًّا؛ مما يجعل من الجنس قضية مُعلَّقة في الهواء … إن استسلام علية، أو زواجها المبكِّر من شيخ مُسِن، لا يشير — ولو من بعيد — إلى أن الجنس وثيق الارتباط بالعمر. وهي القضية التي كان يمكن أن نفترض أنها المسألة الرئيسية في القصة … وهذا يؤدي بنا إلى القول بأن أزمة إحسان، ككاتب قصة، ليست أزمة تعبيرية فحسب، وإنما هي — في صميميها — أزمة فكرية أيضًا. أي إنَّها أزمة لها وجهان: أحدهما منهج التعبير، والآخَر منهج التفكير. وكلاهما يتداخلان فيما بينهما تداخُلًا جوهريًّا. فالمزاوجة بين الأسلوب الصحفي والمعالجة الأدبية في «أين عمري؟» حاصرت علية في نطاق ضيِّق للغاية، فأصبح الجنس مسألة ثانوية تخصُّ تلك المرحلة المريضة في حياة المرأة الصغيرة، حيث كانت تتشبَّث بالعودة إلى صباها الذاهب، مهما دفعت الثمن من لحظات عمرها مع عادل. وليس هذا إلا فهمًا مُفرِطًا في السطحية؛ لإغفاله الجوانب العديدة المتعلقة بمعنى العمر في وجدان علية، هذا المعنى الذي لا ينفصل في أزمة الجنس في دلالتها العميقة. وهكذا تكاتفت الفِكَر السطحية مع أداء التعبير الأكثر سطحية في تحويل القصة إلى مجموعة من الأحداث المُنسَّقة في بناء منطقي يفتقر إلى التبرير الفني والزاد الفكري معًا.
•••
الوجه البارز من أزمة إحسان في مجال الأدب، هو الفراغ الفكري الذي تقسم به أعماله القصصية. إنَّ الموضوع الأساسي في هذه الأعمال هو أزمة الفتاة المصرية. وهو موضوع حيوي غزير الخصوبة، وأسجِّل مرَّة أخرى أنه سيظلُّ لأدب إحسان عبد القدوس فضل الريادة في اقتحام هذه القضية الشائكة، غير أنه للأسف الشديد لم يتزوَّد في معالجتها بوجهة نظر فكرية عميقة، وهذا هو السر المباشر وراء المعالجة الصحفية لأغلب أعماله الأدبية. إن الأسلوب الصحفي يلتقي تمامًا مع الفراغ الفكري والسطحية، فيُكسب العمل بريقًا لامعًا خاليًا من أي مضمون، بل إذا كان ثمَّة مضمون، فإنه يهبط إلى مستوًى بشِع من الضحالة والاستخفاف بعقلية القارئ.
وأزمة الفتاة المصرية — والعربية بشكل عام تتَّخذ من قضية الجنس إطارًا تعبيريًّا لها، وقد أدرك إحسان هذه الحقيقة دون عناء. ولذلك كان تخصُّصه في الأدب الجنسي — إذا صحَّ التعبير — نتاجًا لتخصُّصه في أزمة الفتاة المصرية. أسجِّل ذلك أيضًا، إنصافًا للحقيقة. غير أن الحقيقة كذلك تقول إن إحسان أغفلَ بقية العناصر التي أسهمت في صياغة أزمة الفتاة في مجتمعنا، بحيث طغى العنصر الجنسي طغيانًا لا يمتُّ بصِلة إلى واقع الأزمة من جهة، ويُضفي عليها جوًّا مريضًا من جهة أخرى، ويَحُول دون الرؤية العميقة الشاملة للأزمة من جهة ثالثة.
والفنان ليس مُطالبًا بأن يُدلي بأقواله في حيثيات العُقدة التي تُصاب بها إحدى شخصياته، أي إنَّنا لا نطلب إليه أن يقدِّم لنا بحثًا اجتماعيًّا في الجذور الموضوعية التي أدَّت إلى هذه الإصابة … على أن من حقنا أن نبحث عن دلالة هذه العُقدة في السياق التعبيري، وما إذا كانت تخدم غرضًا فنيًّا أو فكريًّا. لهذا ندهش كثيرًا حين تُصبح عُقدة نادية في التآمُر هي محور القضية الأساسية في «لا أنام» دون أن تومئ الأحداث بما هو أبعَد من ضراوة هذا الانحراف. بل إن هذا الانحراف بعينه يبدو كما لو كان شديد الفردية والشذوذ، بحيث لا يستحق بناءً تعبيريًّا ضخمًا بلغ أكثر من الخمسين والثلاثمائة صفحة بالحرف الدقيق (طبعة الكتاب الذهبي).
والقصة تحكي — بضمير المتكلم — أن نادية لطفي، اكتشفت مع صباها أنها لا تملك في الدنيا سوى أبيها الذي يفرط في حبها ورعايتها … بعد أن هجرته أمها إلى أحضان رجل آخَر. ثم تكبر الفتاة، ولم يكُن الأب قد تجاوز الأربعين، فيذهب إليها في المدرسة الداخلية ذات يوم ليأخذها إلى البيت ويفاجئها بأنه قد تزوَّج. وتحاول زوجة الأب «طنط صافي» أن تجذب إليها قلب الفتاة دون جدوى. وبدأت نادية تفكر في الحال: كيف تتخلَّص من هذه المرأة الهادئة الجمال، والتي أصبحت عن جدارة «سيدة البيت». وتفكِّر على التَّوِّ في عمها «عزيز» الشاب الأعزب الذي يقطن بأعلى المنزل، ويعيش حياة بوهيمية، تاركًا الأمور المالية في يدي أخيه الأكبر — والد نادية — لقدرته على التصرُّف في شئون العزبة. وينتهي بها التفكير إلى أن تشكِّك أباها في العلاقة بين زوجته وأخيه، وتبدأ في سلسلة من المؤامرات الشيطانية، تنجح في خاتمتها أن يتم طلاق الأب من «طنط صافي»، ويرحل العم إلى أحد الفنادق، بغير أن يحدث بينهما أية علاقة آثِمة. ويهيم الأب بين الحانات والبغايا حتى تنهار أعصابه. وخلال تلك الفترة تكون نادية قد تعرَّفَت على شاب أعزب يُدعى «مصطفى» تتفنَّن في قضاء لياليها معه بمختلف الحِيَل والمغامرات. ولكن أعصابها تخونها أخيرًا، فينتابها إشفاق مذلٌّ على أبيها وما آلَت إليه حياته، وتقضي أيامًا طويلة مسهدة في فراشها لا تنام. وفي أحد المصايف تلتقي بصديقتها كوثر فتعمل بذكائها على تمهيد اللقاء بينها وبين أبيها حتى يتمَّ زواجهما. وتكتشف بعد الزواج أن كوثر تحتفظ بعشيق لها هو الشاب «سمير حسام الدين». وتتجاهل في بادئ الأمر ما تسمعه وتراه بعينها، لمجرد الحفاظ على حياة أبيها وسعادته الجديدة. وتضع كوثر كلتا يدَيها على نقطة الضعف هذه فتُسفر عن وجهها تمامًا، وتتمادى في ذلك، تماديًا غريبًا، بأن تعمل على تزويج سمير من نادية حتى تُتاح لها بعدئذٍ الفرصة كاملة. ولكن نادية تكون في هذه الفترة قد تعرَّفَت على «محمود» الشاب الذي يحبها وتحبه، وكان قد سافر في بعثة إلى لندن. وكانت العلاقة بين نادية ومصطفى قد انتهت، حتى شاهدته برفقة «طنط صافي» وفي إصبع كلٍّ منهما دبلة. وهنا يحدث الصدام الحاد بين نادية وكوثر، بعد أن تناقضت مصلحتهما في اللحظة الأخيرة. وينشط ذكاء نادية في التآمُر على زواجها من سمير. ومن ثَم تُعلن قبولها الزواج وتتم الخطبة فعلًا. وتتبلور خطتها في اكتساب ثقة سمير وحبِّه لها والمباعدة بينه وبين كوثر. وينجح الشطر الأول من الخطة نجاحًا تامًّا. ثم تؤكد أمام كوثر أنها لا ترغب في سمير مطلقًا، وأنه هو الذي يرغب فيها رغبة شديدة. وتمتحن كوثر عواطف سمير، فتُصاب بخيبة أمل كبيرة. وحينئذٍ تعمل بكل ما لديها من إمكانيات — وبمعاونة نادية — على فسخ الخطبة انتقامًا من العشيق الغادر. عندما يتم ذلك يكون «محمود» قد عاد من لندن وسمع بكل ما حدث، فيرفض العودة إلى نادية، ويعيد إليها خطاباتها وتنتهي القصة والفجيعة تُظلِّل معظم القلوب، إلا قلب الأب السعيد بالغفلة التامة عن كل ما يجري من حوله.
وليس شك أننا نواجه منذ البداية بناءً قصصيًّا، اكتملت له كافة مقومات هذا الشكل التعبيري. على أننا نبتئس كثيرًا حين يفتقر هذا البناء إلى مبرِّرات وجوده. فالعُقدة المَرَضية في حياة نادية لا تشير إلى أزمة حقيقية في كيان الفتاة العربية. بل إن صورة الجنس في حياتها ليست انعكاسًا للأزمة، وإنما هي صورة عَرَضية عابرة تجعل من الجنس مسألة ثانوية لا تستحق الالتفات. إنها تسترق السمع إلى ما يدور في غرفة النوم المجاورة بين أبيها وزوجته. ويلتهب خيالها بنشوة الاستمتاع مع رجل … هو أبوها على وجه التحديد … ثم تختار حبيبها الأول في سِن تضاعف عمرها. وتتوسل إلى إمتاع جسدها بين أحضانه، بكافة الحِيَل التي يتفتَّق عنها ذهنها.
ونحن إذا أردنا أن نربط بين هذه المجموعة من الصور للجنس في الرواية، وبين بنائها ككل، لَما أحسسنا بالجنس كمسألة جادة تستحق الالتفات. بل إننا لا نعثر عليه كعنصر ضروري من عناصر العمل الفني نفتقده إذا غاب. ولهذا السبب يشوب الأحداث جميعها — ومنها ما يتصل بموضوع الجنس مباشرة — يشوبها الافتعال والزيف الذي يؤدي تلقائيًّا إلى تصوير اللحظة الميكانيكية في الحدث الجنسي. وهذا ما يدعو الكثيرين إلى التساؤل — من زاوية الصدق الأخلاقي — عمَّا إذا كان المؤلف يتعمَّد هذه المشاهد لمجرَّد التحريض وإشباع غرائز المراهقين. ولو أنَّ للمؤلف رؤيةً ما للجنس، لكان من الممكن الدفاع عن أدبه بأنَّ الضرورة الفنية والفكرية تدعو إلى ذلك. غير أننا من خلال قصَّة طويلة مثل «لا أنام» لا نكتشف أية رؤية على الإطلاق. وإنما يعتمد هذا البناء الضخم للرواية على أساس العُقدة المَرَضية في حياة نادية. وإذا كان بعضُ الأدباء في أوروبا يتَّخذون من الأمراض النفسية الشاذة في حياة الأفراد، موضوعًا لأعمالهم الفنية، فإن ذلك يتمُّ لخدمة نظرية فكرية أو فكرة مُعيَّنة، وفي بناء فني تُبرِّره الأحداث تبريرًا سليمًا.
وهذا ما لا نعتقد أن إحسان عبد القدوس قد أتى به … بينما أتت به فرنسواز في قصتها. ولهذا ما كان يستطيع الكاتب المصري أن يسرق الفكرة الأجنبية، وإن تشابَهَ الهيكل الروائي بين القصتين. فالمرحلة الحضارية التي تجتازها أوروبا تختلف عن المرحلة التي يجتازها الشرق العربي، وإذا كانت الحضارة الأوروبية اليوم تُفرز أمراضًا خطيرة كغرام الفتيات الصغار بالرجال الكبار، فإنَّ هذا لم يفعله إحسان. لأن المرض الذي أصاب به نادية لا يمثِّل تكوينًا حضاريًّا في الشرق أو الغرب. وهكذا تناقَضَ البناء المتشابه بين «لا أنام» و«صباح الخير أيها الحزن» وبين التركيب النفسي والحضاري لشخصيات كلٍّ منهما.
والأزمة لذلك هي أزمة فكرية، هي أزمة الخواء الفكري الذي تتَّسم به أعمال إحسان، الأزمة التي تنعكس على فن التعبير الأدبي، فتجعل من المحاور الرئيسية في تلك الأعمال قضايا معلَّقة في الهواء، وتجعل من قضية الجنس بالذات على المستوى الفكري قضية تافهة. أمَّا على المستوى الفني فتدعو الكثيرين إلى التساؤل — من زاوية الصدق الأخلاقي — عما إذا كان المؤلف يتعمَّد هذه المشاهد لمجرد التحريض وإشباع غرائز المراهقين.
•••
ولعلَّ مجموعة «البنات والصيف» التي صدرت عام ١٩٥٩م أيضًا، هي أصدق دليل على ما يُعانيه الكاتب من خواء فكري وأزمة في التعبير، بلغا بهذه المجموعة من القصص حدًّا بشعًا من التفاهة والسطحية. والجنس هو المنظر الأساسي في الأقاصيص الخمس … و«البنت الأولى» تتعرَّف على شاب رائع تتمنَّاه الفتيات جميعهنَّ. وما إنْ تبدأ علاقتها به حتى تعلم أنَّه على علاقة بسيدة متزوجة. ومن ثَم تأخذ في البحث عن هذه السيدة، وتكاد توقن أنها «زيزي هانم» المرأة الجميلة التي تشاهدها على الشاطئ، ولكن زعمها يسقط من بين يدَيها حين تطلب إليها عشيقة «بكر» أن تلتقي بها في منزلها. وفي المنزل تفاجأ ﺑ «امرأة سمينة … وجهها كالرغيف البلدي … محمَّل بالأصباغ الفاقمة … ترتدي ثوبًا من الدانتل المخرقة فوق قميص من التفتة اللامعة الزرقاء … وفي معصمَيها أساور ذهبية كثيرة … وعلى صدرها عقد كبير من الزجاج الملوَّن … نفس ألوان إشارة المرور: أخضر، وأصفر، وأحمر» (ص٧٢).
… ويُغشى على مايسة، على الفتاة الجميلة الراقية، التي فُجعت في غريمتها وفي ذوق حبيبها على السواء «ولكنها لا تزال مغتاظة من زيزي … ليست مغتاظة ولكنها كلما تذكرتها أحسَّت بشيء يتمزَّق في صدرها» (ص٧٧).
وتتمزَّق صدورنا نحن أيضًا عندما تصبح فجيعة «البنت» في ذوق فتاها هو كل ما يلفت نظر الكاتب. وحقًّا نحن نلتمس طرفًا من مأساة الفتى والفتاة، في رضوخ الأول لسلطان امرأة «بلدي» كبيرة السن، ورضوخ الثانية في التمسُّك به في البداية حين كانت تظن أن غريمتها أجمَل منها. فالعلاقة هنا تومئ إلى مأساة واضحة في حياة الاثنين. على أنَّ الفنان لم يمسَّ هذه المأساة مسًّا عميقًا، بل اكتفى بهذا البناء المتسلسل الذي يؤدي إلى المفاجأة في النهاية. وكأن الهدف الأساسي للمؤلف هو هذه النهاية في ذاتها، لا كعنصر ضروري مكمِّل لهدف آخَر، هو الكشف عن مأساة أولئك الذين يرتضون الحياة المزدوجة، فيعيشون على هامش الحياة الحقيقية.
و«البنت الثانية» هي سيدة على أعتاب الحلقة الرابعة من العمر، تقع في هوى شاب من عمر أبنائها لو كانت قد أنجبت من زوجها «الباشا» الذي يقبع مع شيخوخته في القصر برفقة المرض. ولقد حاولت أن تمنح شبابها لجمعية «إنقاذ الفقراء»، ولكن هذا الشباب كان يلحُّ عليها أن تبحث عمَّا يُرضيه على نحوٍ آخَر. وعندما عرفت «مصطفى» عرفت في نفس الوقت أنها عثرت على «إكسير الحياة». حتى إنها عندما ركبت العربة إلى جانبه في الطريق إلى أبي قير، وأحسَّت بيده تمتدُّ باحثة عن يدها، ولمَّا لم تجدها الْتَقت بساقها … «قالت في ضعف: وبعدين يا مصطفى؟
ولكنها تركت ساقها ليده … يمسح عليها، ويثير فيها شيئًا كالكهرباء، تسري حتى تصل إلى رأسها، فتكاد جفونها تسقط فوق عينَيها … كأنها تقاوم مخدرًا» (ص١٢٣). وفي شقته الخاصة «… تعرَّت العروس … وهي لا تنظر إلى المرآة. إنها لا تريد أن تنظر إلى المرآة. وتلتفت حولها، ثم مدَّت يدها وانتزعت من فوق المشجب سترة بيجامته وارتدتها … ووقفت تلهث كأنها تستجمع أنفاسها … ثم مدَّت يدَيها تُساوي بهما خصلات شَعرها دون أن تنظر إلى المرآة … إنها لا تريد أن تنظر إلى المرآة … ونادته … ولمحت خياله يقترب من وراء زجاج الباب السميك … قوامه الممشوق … وعضلاته … ثم لمحت أُكرة الباب وهي تتحرك، إنه يقترب منها … ونظرته تنصبُّ عليها وفيها شقاوة الصبيان … ولكنه يقترب ببطء … اقترب أيضًا … أسرع! وقبل أن يصل إليها … ألقَت بنفسها فوقه … وألقَت بشفتَيها فوق شفتَيه … إنها لم تعُد تستطيع أن تنتظر. قبِّلني … قبِّلني مرَّة أخرى … قبِّلني أكثر … دعني أقبِّلك … لن أكفَّ أبدًا … وأحسَّت بعضلات ذراعَيه يضغطانها بقسوة … أريد مزيدًا من القسوة» (ص١٢٩). وفي مرَّة أخرى نالت منها النشوة حتى خلعت ثوبها وألقَت به من النافذة، ثم خلعت الحذاء وألقَت به أيضًا «وهجم عليها وأمسكها من ذراعَيها في قسوة، وأوقعها على الأرض، وقال وأنفاسه تلفح وجهها: أعمل فيكي إيه يا مجنونة انتي؟
قالت وابتسامتها تحتار أن تستقر، على شفتَيها، أم فوق وجنتَيها، أم في عينَيها: موتني يا مصطفى» (ص١٣٧).
وأعتقد أن هذا القَدْر من النصوص كافٍ تمامًا لإعطاء فكرة واضحة عن الكاتب في التعبير والتفكير، فبينما كنا نستطيع الحصول على أحد وجوه المأساة الاجتماعية في بلادنا، وهو الانهيار التحلُّلي في القِيَم والأخلاقيات عند أبناء وبنات الفئات العليا من المجتمع … جعل الكاتب من هذه المأساة الضارية مَلهاةً رخيصة، بأنْ تتبَّع بطريقة ميكروسكوبية اللحظة الميكانيكية من العلاقة الانحلالية بين مصطفى وشريفة، ولم يتتبَّع بنفس الطريقة جوهر المأساة الكامنة خلف هذه العلاقة.
وهكذا يتحرَّك إحسان في بقية قصص هذه المجموعة الرخيصة — في القيمة الفنية والفكرية لا في سعرها التجاري — فلا تتألَّق بين أيدينا فكرة ناضجة أو صورة عميقة تحلِّل وتكشف. وإنما تعثر على مخلوقات شاذة مثل «وفية» وزوجها وعشيقها الذي يستغل ضعف الشخصية فيهما معًا، فيسطو على الزوجة بالرغم من كراهيتها له، وتدمن الزوجة هذا الاستسلام. يتخصَّص الكاتب تخصُّصًا مذهلًا في تصوير لحظات الاستسلام هذه دون أن نخرج بأية إيماءة أو إيحاءة لِما يريد أن يقوله في غمرة هذه المظاهر الجنسية. وكأني بإحسان في قصصه تلك يريد أن يجمع بين رجل وامرأة على أن يكون هو مرادفًا للشيطان بينهما، ولمجرَّد أن يسجل قهقهات الشيطان والمرأة تخلع ثيابها قطعة قطعة، والقارئ تتمزق أعصابه واحدًا بعد الآخَر. ولهذا يتجاوز الباحث عن الكثير من مقتضيات الدراسة الموضوعية حين يدعو هذا «الجنس» أدبًا. على حين أن الكاتب لم يصنع إلا بيتًا زجاجيًّا مُكوَّنًا من غرفة واحدة للنوم، بها رجل وامرأة وشيطان. وهو يُدير هذا البيت عَبْر آلاف الصفحات على آلاف القرَّاء. فإذا تساءل بعد ذلك: هل أنا صحفي أم أديب؟ أجبنا بارتياح: إنك صنعتَ شيئًا لا هو بالصحافة ولا هو بالأدب، ولا هو بين بين.