حالة الشعب في عهد «إخناتون» وتأثير ديانته في نفوس الشعب
لقد كان من جراء قيام مذهب «إخناتون» أن وقف مجرى سير الحياة الدينية فجأة، وحوِّل إلى اتجاه غريب، على الرغم من قوة اندفاعه التي كانت لا تقاوَم لتؤصل العقائد القديمة في نفوس الشعب عدة آلاف من السنين، فقد خربت أماكنهم الطاهرة، ودنست مزاراتهم المقدسة، وأوصدت معابدهم، وطردت كهنتها، وانمحى ذلك النظام العتيق جملة، وقد كانت الجماعات العظيمة العدد في كل مكان تسير مدفوعة بالغرائز التي كانت مشبعة بها عقولهم منذ قرون يخطئها العد وفق عادات وأخلاق موروثة، فلما ذهبوا لزيارة أماكنهم المقدسة بعد قيام مذهب «إخناتون» وجدوها كأن لم تغن بالأمس، ينعق فيها البوم والغربان، فوقفوا في عرصاتها ذاهلي العقول أمام تلك المعابد الموصدة الأبواب في وجوههم، ولعمري فإن هذه الردهات المحترمة، والقاعات الفسيحة الأرجاء التي تحتويها تلك المعابد القديمة التي كانت تزخر بجماهير الشعب، وتقام فيها الأفراح أيام الأعياد المقدسة في عهد طفولتهم في «أسيوط»، وغيرها — كما فصلنا ذلك — قد أصبحت الآن صامتة خاوية. وهكذا نرى أن الإله «أوزير» الذي كان يعد الملجأ، والمعزي، والصاحب، والمدافع عن الأموات أمام كل خطر قد نُفي من الأرض، ولم يعد في إمكان إنسان أن يذكر اسمه حتى في الأيمان التي كان يعقدها القوم، تلك الأيمان التي كانت قد اختلطت في دمائهم مع لبان أمهاتهم في الرضاعة، فقد كان محظورًا عليهم أن تنبس شفاههم بتلك الأسماء التي تنطلق بها ألسنتهم عفوًا، فكان لا بد ألا يشمل اليمين القديم أمام القاضي في المحكمة إلا اسم «آتون» فقط. وكان كل ذلك في نظر القوم كما لو طُلب الآن إلى رجل من عصرنا أن يعبد الله، ويحلف باسم صنم. ولا بد أن كثيرًا من الكهنة المتذمرين الذين كانوا يكظمون غيظهم الشديد في صدورهم قد مزجوا غيظهم ذلك بغيظ جمٍّ غفير من جماعات بأسرها من التجار الحانقين كالجنازيين الذين لم يعودوا يكسبون عيشهم من بيع فطائر الشعائر الدينية، كما كانوا يفعلون قديمًا خلال أيام الأعياد التي كانت تقام في المعابد. وهكذا كان حنق الصناع الذين لم يعد في مقدورهم الآن بيع تعاويذ الآلهة القدامى عند أبواب المعابد كما كان يحصل قديمًا.
وناهيك بحقد الحفارين والمثَّالين المرتزقة الذين كانوا يصنعون تماثيل الإله «أوزير»، فقد أصبحت مصفوفة مكدسة تحت الأتربة المتراكمة في كثير من المعامل التي أصبح عاليها سافلها، وكذلك الحجارين الذين وجدوا أن ما صنعوه من شواهد قبور مزخرفة بنقوش خالية من كل ذوق نقلوها من كتاب الموتى قد استبعد من مدينة الأموات، ثم الكتَّاب الذين كانت إضماماتهم البردية المخطوطة المنقولة من «كتاب الموتى» تعد في ذلك الوقت لعنة لمن يستعملها؛ لأنها مفعمة بأسماء الآلهة القدامى، أو لأنها كانت تشمل كلمة الآلهة في صيغة الجمع، هذا إلى رجال الكهانة المسرحيين والممثلين الذين طُردوا من تلك الأماكن المقدسة في الأيام التي اعتادوا فيها أن يمثلوا للشعب تمثيلية (موت «أوزير» وبعثه ثانية)، وطوائف الحجاج المتذمرين الذين كانوا يحجون إلى «العرابة المدفونة»، وهم الذين كان من أقدس واجباتهم أن يشتركوا في تلك التمثيلية التي تعبر عن حياة «أوزير» وموته، ثم بعثه من بعد الموت بصفة مؤثرة خلابة، وكذلك الأطباء الذين حُرموا كل أسهم تجارتهم الخاصة بالأحفال السحرية التي كانت تستعمل بنجاح منذ أقدم العهود؛ أي قبل ألفي سنة من العصر الذي نحن بصدده، فقد كان حنقهم وغيظهم شديدًا. ولا يفوتنا ذكر الرعاة الذين أصبحوا لا يجسرون بعد أن يضعوا رغيفًا معه إناء من الماء تحت شجرة راجين بذلك الفرار من غضب الآلهة ساكني الشجرة، وهي التي كان في مقدورها، على حسب الاعتقادات القديمة، أن تنزل المرض بأهل المنزل عند غضبها، وكذلك الفلاحون الذين كانوا يخافون أن ينصبوا صورة ساذجة للإله «أوزير» في الحقل ليطردوا بها الشياطين المؤذية المسببة للجدب والقحط، هذا إلى الأمهات اللائي يدللن أطفالهن عند الشفق، وهن خائفات أن ينطقن بتلك الأسماء المقدسة القديمة، وبالصلوات التي تعلمنها في طفولتهنَّ؛ حتى يبعدن عن أطفالهن شياطين الظلام الراصدة لاختطافهم.
وفي هذا الوسط المظلم الملبَّد بسحب التذمر الخانق ضرب هذا الملك الشاب المدهش هو وطائفة انتخبها من بين بطانته، وحاشيته المحيطة به سرادق مذهبه الجديد في رائعة النهار في هدوء لا شعور معه بذلك الظلام الدامس المتراكم طبقات بعضها فوق بعض، وهو الذي شمل كل ما حوله، غير أنه كان في الوقت نفسه يزداد ظلمة في كل يوم منذرًا بشرٍّ مستطير، ونهاية محتومة؛ لأنها سرادق أقيم على شفا جرف هار.
وإذا نظرنا إلى حركة «إخناتون» وما قام به من انقلاب ديني في ذاته عظيم، على أساس ذلك التذمر الشعبي الذي وصفناه، ثم أضفنا إلى تلك الصورة معارضة الكهانة القديمة التي كانت تقوم في الخفاء، وكانت خطرًا مباشرًا عظيمًا، ومعارضة حزب «آمون» الذي لم يكن قد غُلب على أمره تمامًا، ومعارضة طائفة الجنود الأقوياء الذين كانوا ساخطين على سياسة الملك السلمية في آسيا، وقبضهم على زمام الأمور في داخل البلاد أدركنا شيئًا عن تلك الشخصية القوية التي كان يحملها في نفسه ذلك القائد الروحي الأول في تاريخ الإنسانية بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا المستقاة من المصادر الأصلية المدونة على الآثار.
ولكن الولع بالإسراع في القيام بتطبيق سياسي لكل تلك الآراء الجميلة التي كان يمليها العقل كان خطرًا … فالأفكار لا يمكن أن تُقدر فوق قيمتها بمفردها، أو في حد ذاتها. كما أنه لا يستطيع الإنسان أن يعيش في حدودها أكثر مما يجب. ولكن إذا نقلت تلك الأفكار فُجاءة إلى تجربة سياسية وخبرة حيوية بقصد قلب نظام العالم بما تحويه من الأوامر، فإنها تحدث نتيجة أخرى بالمرة.
والواقع أنه لم يكُن لدى «إخناتون» ماضٍ يسير على هداه مثل الماضي الذي كان خلف الثورة الفرنسية يرجع إليه، بل كان هو نفسه أول ثوري عالمي، وقد كان مقتنعًا في قرارة نفسه تمامًا بأنه في مقدوره أن يضع عالم الديانة، والفكر، والفن، والحياة في قالب جديد بعزم ثابت لا يقهر، وذلك بجعل آرائه ذات تأثير فعلي في الحال بتنفيذها بكل ما أوتي من قوة، ومضاء عزيمة.
وعلى هذا الأساس أقام مدينة «إخناتون» الجميلة، فكانت جزيرة خيالية للمنعمين، ولكن في وسط بحر من التذمر والسخط، بل كانت حلمًا جميلًا مملوءًا بالآمال المحببة لدى عقل غاب عنه تمامًا أن الماضي لا يمكن محوه، وأن تجاهله لا يغني عن الحق شيئًا.
والأمر العجيب أن ظهور مثل هذا الرجل لم يكن إلا في الشرق أولًا، وبخاصة في مصر؛ حيث لم يكن فيها رجل يستطيع نسيان الماضي غير «إخناتون»، على أن أمم البحر الأبيض المتوسط التي كانت مصر تسودها وقتئذ لم تكن أحسن استعدادًا لقبول ديانة دولية أكثر من سادتها المصريين.
ويعيد إلى ذاكرتنا خيال «إخناتون» الدولي بآمال «الإسكندر الأكبر» الذي جاء بعده بألف سنة تقريبًا، ولكنه كان سابقًا لعصره بعدة قرون، على أن الحقيقة التي كانت تحيط به والمركز المهدد الذي دعا حزبه لتبصره يوميًّا قد صور في وصف كتبه «توت عنخ آمون» بعد موته بمدة، فاستمع إليه: «وعندما أشرق جلالته الآن ملكًا كانت معابد الآلهة والإلهات من بداية «إلفنتين» حتى مناقع الدلتا قد أهمل شأنها؛ إذ قد أصبحت محاريبها خاوية، وصارت أراضي تغشاها أعشاب «كات» (؟)، ومعابدهم أصبحت كأن لم تغن بالأمس، وحجراتهم كانت طرقًا معبدة، والبلاد كانت في ارتباك، وهجرت الآلهة الأرض، وإذا أرسل جيش (؟) إلى «زاهي» ليمد من حدود مصر لم ينَل أي نجاح قط؛ وإذا دعا اللهَ إنسان ليطلب إليه حاجة، فإنه لا يأتي إليه بأية حال، وإذا تضرع إنسان لآلهة فإنها كذلك لا تجيب تضرعه بأية حال؛ لأن قلوبهم كانت ضعيفة من نفسها بالغضب؛ فخربوا ما عمل» (راجع الجزء الخامس). وكان أتباع «إخناتون» يدعون في أحوال مثل هذه أن يستمر حكمه حتى تصير البجعة سوداء ويصير الغراب أبيض، ويستنوق الجمل، وإلى أن ترتفع الجبال وتسير، ويصعد الماء إلى التل!
والواقع أن سقوط هذا الثوري العظيم، والمبتكر الفذ يحوطه الغموض التام.
وكانت النتيجة المباشرة لسقوطه — وقد كان ذلك طبعيًّا — هي إعادة عبادة «آمون» على يد خلفه «توت عنخ آمون»، ذلك الشاب الضعيف زوج ابنته «عنخس ان آمون»، ثم إرجاع النظام الديني القديم بأكمله إلى ما كان عليه قبل تولي «إخناتون» عرش الملك.
والبيان الذي فاه به «توت عنخ آمون» عن إعادة عبادة الآلهة الأقدمين يعد إعلانًا هامًّا عن الحالة العقلية والدينية لقادة رجال الأعمال عندما اختفى «إخناتون» من مسرح الحياة؛ إذ يشير «توت عنخ آمون» في لوحته المشهورة لنفسه قائلًا عن الإله «آمون»: «إنه الحاكم الطيب الذي يعمل الأشياء النافعة لوالده «آمون»، ولكل الآلهة، وهو الذي جعل ما خرب صالحًا بمثابة أثر خالد مدى الدهر، وقضى على الأعمال الخاطئة في كل الأرضين، ووطد الحق، وجعل الكذب ممقوتًا في كل البلاد، كما كانت الحال في بادئ الأمر.»
ولم يبقَ حتى الآن شيء من معبد ذلك النور الأبدي، الذي كان يومًا ما ساطعًا مشرقًا إلا دمنه الأساسية، التي تشبه الوشم في اليد. والآن نتساءل: هل بقي شيء آخر من آثار هذا الأثر العقلي، وهل تجرى أقدم ثورة فكرية للعقل الإنساني مجراها دون أن تترك خلفها نتيجة باقية؟
حقًّا إن ثورة «إخناتون» كانت عنيفة إلى أبعد حد في طرقها، ومن أجل ذلك لم يخلد ما أحدثته من انقلاب، فالفن المدهش الذي أحدثته كان مهذبًا أكثر مما كان يلزم في التصور، وقوة النظام؛ ولذلك لم يستمر، ولم يعِش طويلًا جميعه. وقد كشفت لنا مصانع «إخناتون» «بتل العمارنة» حب المفتنين الملكيين المدهش لهذا الفن الذي لقنه لهم هذا الفرعون نفسه، وقد ترك عملهم هذا أثره في فن العصر الذي جاء بعد اختفاء هذا الفرعون، وإن كان فنا النحت والتلوين لم يستردا قط تلك الحرية التامة التي تمتعا بها في عهد «إخناتون»، كما أنهما لم يشعرا ثانية بتلك الحقيقة الدقيقة التي كانت تدب في فن معامل «تل العمارنة» أمثال معمل «تحتمس» وغيره. أما في الأخلاق فلم يعد تعظيم الصدق الذي كان شعار «إخناتون» بتلك الدرجة السامية التي بلغتها في تصور هذا الفرعون الموحد، ولا جدال في أن ميله العاطفي نحو الجمال والخير اللذين شاهدناهما في أعماله الإلهية قد تركا أثرًا؛ فلم يكن من السهل نسيانهما دفعة واحدة، وليس في استطاعتنا أن نشك في أن تلك الأنشودة التي تتحدث عن وحدانية الله قد بقيت موجودة في شكل ما بعد موت «إخناتون»، حتى إنها كانت معروفة بعد موته بقرون عند العبرانيين، وقد استعملها مؤلف المزمار الرابع بعد المائة — كما ذكرنا آنفًا، وبذلك نعلم أن روح «آتون» لم يختفِ دفعة واحدة. وسنذكر فيما يلي برهانًا آخر عن تأثيره.
ومهما يكن من أمر، فإن عنف هجوم «إخناتون» الذي كان ينم عن تعصبه لمذهبه بشدة بالغة على التقاليد الموروثة قد جعل من الطبعي أن ينزل عليه وعلى حركته التي كان يريد بها الإصلاح، الانتقام الجزائي الذي كانت خاتمته الدمار التام لمذهبه، وخراب البلاد في الداخل والخارج. ولذلك لا يمكننا أن نعجب من هبوب تلك العاصفة الهوجاء التي اكتسحت في طريقها على وجه التقريب كل الآثار التي أسسها أقدم باحث عن المثل الأعلى. وليس لدينا في الواقع ما نقصه عنه إلا القليل خلافًا لما أبقته يد التخريب من بقايا مدينة «إخناتون» التي كانت مركزًا منعزلًا للمثل العليا التي لم يدركها غيره، ولم يعرفها إلا بعد مضي قرون عدة، حينما تألف أولئك البدو الذين كانوا إذ ذاك ينزحون إلى أقاليم «إخناتون» الفلسطينية، وكونوا لهم أمَّة كان لها ما لها من الطموح الاجتماعي، والخلقي والديني، وكان من نتائجها ظهور أولئك الرسل العبرانيين، وأصحاب المزامير ليسيروا بالروح والرؤيا اللذين سبق بهما أصحاب الأحلام الاجتماعيون من المصريين القدامى.
وكان من جرَّاء انغماس «إخناتون» في معنويات مذهبه العظيم أن عكف على التأمل والانهماك في الأحلام بقصر الشمس في «إخناتون»، في حين أن «خيتا» أعداء البلاد الجدد، الذين كانوا قد أصبحوا ذوي بأس شديد في غربي آسيا، قد قاموا بالإغارة على دولة مصر الأسيوية، وكذلك الكهنة والجنود من بين شعبه نفسه، قد قوضوا سلطان الأسرة الثامنة عشرة تقويضًا تامًّا، وهي تلك الأسرة التي كانت سيدة الشرق، نحو مائتين وثلاثين عامًا، وبهدم سلطان «إخناتون» بدأت مصر عصرًا جديدًا، ولم يكن لها في تلك الأقاليم إلا سلطان اسمي، ولكن مع ذلك كانت أصداء مذهب «إخناتون» لم تنقطع بعد تجاربه، وكانت علاقته بالمذهب الشمسي الذي كان موطنه الأصلي في «هليوبوليس» لا يزال معترفًا بها اعترافًا غير مباشر؛ وذلك لأن نفس الأنشودة المحتوية على الفوز المفعم بالشماتة الذي أحرزه كهنة «آمون» على مذهب «إخناتون» تنمُّ عن اتصالها بالمذهب الشمسي القديم، وكذلك التعبير الأبوي عن «رع» عندما تسترسل في مديح «آمون»، وتصفه بأنه الراعي الطيب، و«النوتي». وهذه الأفكار كانت قد ظهرت في أثناء الحركة الاجتماعية التي قامت في العهد الإقطاعي المصري، كما سبق ذكره.
ومن ثم نرى أن الجمل الدالة على التوحيد مبعثرة في هذه الأنشودة، وهي بلا شك تتضمن ذلك، وإن كانت دائمًا تشير إلى الآلهة في صيغة الجمع:
ولدينا أنشودة، أو عدة أناشيد للإله «آمون رع» كُتبت بعد عهد «إخناتون»، ولكنا نرى فيها تأثير ديانة هذا المصلح الداعية للتوحيد، وإن كانت باسم «آمون»، وذكرت فيها آلهة أخرى.
وسنذكر هنا أنشودة «آمون» العظمى، ثم نقفوها بأناشيد لهذا الإله نفسه كُشف عنها حديثًا؛ ليرى القارئ مقدار تأثير ديانة «إخناتون» في عقائد القوم بعد القضاء على مذهبه، وإن كنا في الواقع نجد أن بعض الأفكار التي جاءت في هذه القصائد لم تكن من أثر عبادة «إخناتون» مباشرة، بل كانت ترجع إلى عهود أقدم من زمنه، كما شرحت ذلك في كتاب الأدب (ج٢ ص٩٢–٩٤)؛ إذ أثبتنا وجود رواية أخرى لأنشودة «آمون» الكبرى سنذكرها هنا، وهذه الرواية نُقشت على قاعدة تمثال يرجع عهده إلى أواخر عهد الهكسوس. نص قصيدة «آمون رع الكبرى»:
(١) متن الأنشودة «آمون رع»
-
المقطوعة الأولى: (راجع كتاب الأدب المصري القديم جزء ٢ ص٩٤ إلخ).
الحمد لك يا «آمون رع» رب «الكرنك» الذي يسيطر على «طيبة»! ثور أمه، والأول في حقله،٣ واسع الخطى، والأول في مصر العليا، رب أرض «المازوي»،٤ وأمير «بنت» أكبر الأجسام السماوية، وأسنُّ من في الأرض، رب الكائنات الذي يسكن في كل شيء.والوحيد في طبيعته … بين الآلهة، وثور تسعة الآلهة الطيب،٥ ورئيس كل الآلهة.
رب الصدق، ووالد الآلهة الذي خلق بني الإنسان وسوَّى الحيوان.
رب كل الكائنات الذي يخلق شجرة الفاكهة، والذي من عينه خرجت الأعشاب التي تزوِّد الماشية.
وهو الصورة الجميلة التي سواها «بتاح»،٦ والشاب الجميل المحبوب الذي تثني عليه الآلهة، وهو الذي خلق من هم أسفل، ومن هم أعلى.٧والذي يضيء الأرضين، وهو الذي يخترق القبة الزرقاء في سلام، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «رع» المنتصر.٨رئيس رؤساء الأرضين، عظيم القوة، الذي يبعث على الاحترام، والرئيس الذي برأ الأرض قاطبة.
والذي يحسب الخطط أكثر من أي إله آخر، ومن تبتهج الآلهة بجماله، وهو الذي يقدم له الثناء في «البيت العظيم»، والذي ظهر في «بيت النار»٩ أو التقديس.ومن يحب الآلهة شذاه حينما يأتي من بلاد «بنت»، الأمير العظيم الشذي، حينما ينزل من بلاد «ماتو»١٠ الحسن الوجه حينما يأتي من أرض الإله (بلاد بنت)، ومن يسجد عند قدميه الآلهة حينما يعرفون أن جلالته هو سيدهم، وهو رب الخوف العظيم الإرادة، القوي الطلعة، النضر القرابين، وخالق الطعام عندما تهلل لك الناس.يا خالق الآلهة، ورافع السموات، وباسط الأرض.
-
المقطوعة الثانية: أنت يا من استيقظ معافى! يا «مين آمون»، يا رب الأزلية، وخالق
الأبدية! ورب المديح الذي يسيطر على تاسوع الآلهة.١١
صاحب الذيل المستعار، الحسن الوجه، رب التاج «وررت» (أي العظيم)، طويل الريشتين، ومن له شريط جميل، وتاج أبيض عالٍ، ومن على جبينه الصل «محنت»، وثعبانا «بوتو»، ومن شعره ذكر العطر، ومن يجعل التاج المزدوج ولباس الرأس، والتاج الأزرق قوية، الحسن الوجه، الذي يتسلم التاج «آتف»، ومن يحبه تاج الوجه القبلي وتاج الوجه البحري، رب التاج المزدوج الذي يتسلم الصولجان «آمس»، رب جعبة الوثائق، ومالك السوط «نخخ».
الأمير الجميل الذي يظهر بالتاج الأبيض، رب الأشعة، خالق النور الذي يقدم له الآلهة الثناء، والذي يمد يده (أشعة الشمس) لمن يحبه، ومن يحرق أعداءه بالنار، ومن عينه١٢ تقهر الثائرين، وترشق حربتها فيمن ابتلع المحيط السماوي، وتجعل الثعبان (نيك)١٣ يلفظ ما ابتلعه.الحمد لك يا «رع»، يا رب إلهة الصدق (ماعت)، يا من مقصورته خفية، يا رب الآلهة، يأيها الإله «خبر»١٤ في سفينته، والذي يلحظ الكلام، وبه يخلق الإله، أنت يا «آتوم» خالق الإنسانية ومميز أخلاقهم، وبارئ الحياة، والذي فصل الألوان الواحد عن الآخر،١٥ سامع تضرعات من في السجن، الشفيق القلب عندما يناديه إنسان.ومن ينجي الخائف من الظالم، والقاضي بين التعس والقوي.
رب العظمة، ومن فمه السلطة، ومن يأتي النيل الحلو حبًّا فيه، والمحبوب كثيرًا، وعندما يأتي تحيا الناس.
هو الذي يجعل كل العيون تفتح … وكرمه يخلق النور، الآلهة يبتهجون بجماله، وقلوبهم تحيا حينما يشاهدونه.
-
المقطوعة الثالثة: إيه يا «رع» المبجل في الكرنك، ومن يظهر عظيمًا من بيت «بنبن»، يا
صاحب «عين شمس»، يا رب اليوم التاسع من الشهر، ومن يحتفل الناس إكرامًا
له باليوم السادس واليوم السابع من الشهر.
أيها الملك رب كل الآلهة، والصقر في وسط الأفق، سيد بني الإنسان … اسمه مخفي عن أولاده، باسمه «آمون».١٦
الحمد لك يا حسن الحظ … يا رب السرور، القوي في طلعته، رب التاج، السامي الريش، ذا الإكليل الجميل، والتاج الأبيض الطويل.
الآلهة يعشقون التأمل فيك، حينما يكون التاج المزدوج على جبهتك.
حبك منتشر في كل الأرضين، وأشعتك تضيء في العيون.
إنها نفحة للإنسانية عندما تشرق، والوحوش تتباطأ حينما تضيء،١٧ إنك محبوب في السماء الجنوبية، ولطيف في السماء الشمالية، جمالك يأسر القلوب، وحبك يجعل الأذرع متباطئة، وشكلك الجميل يجعل الأيدي ضعيفة، والقلب ينسى حينما ينظر الإنسان إليك.١٨إنك أنت الواحد الأحد الذي خلق كل الكائنات، وإنك الواحد الأحد الذي صنع كل ما يوجد. الناس خُلقوا (خرجوا) من عينه، ومن فمه أتت١٩ الآلهة إلى بارئ الكلأ للماشية، وشجر الفاكهة للإنسان، خالق ما يعيش عليه السمك في النهر، والطيور في القبة الزرقاء، مانح النفس من في البيضة، ومغذي ابن الدودة، صانع ما يحيا به النمل، والدود والذباب أيضًا، صانع ما تحتاج إليه الفيران في أجحارها، ومغذي الطيور على كل شجرة.الحمد لك يا صانع كل هذا، الواحد الأحد فحسب، والممتاز بالأيدي العديدة الذي يقضي الليل ساهرًا باحثًا عن أحسن الأشياء لماشيته٢٠ حينما يكون الناس نيامًا.يا «آمون» الذي يسكن في جميع الأشياء! يا «آتوم»! يا «حور اختي»! احترام لك في كل ما يلفظون به ابتهالًا لك؛ لأنك تتعب نفسك معنا! وخشوع لك لأنك خلقتنا، وكل وحش يقول (؟) الثناء عليك، وكل قفر ارتفاعه السماء، وعرضه الأرض، وعمقه البحر، يقول ابتهالًا بك: الآلهة يخشعون طوعًا لجلالتك، ويتمدحون بقوة خالقهم، ويفرحون حينما يقترب منهم خالقهم، وهم يقولون لك: مرحبًا في سلام، يا والد آباء كل الآلهة، يا من رفعت السموات، وبسطت الأرض، وصنعت كل كائن، وخالق كل ما يوجد.
يأيها الملك رئيس الآلهة، إنا نحترم قوتك لأنك خلقتنا، إنا نصيح فرحًا بك؛ لأنك سويتنا، إنا نقدم الحمد لأنك أجهدت نفسك معنا. الحمد لك يا خالق كل كائن، يا رب الصدق، ووالد الآلهة، بارئ الإنسان، وخالق الحيوان، رب الحب، وموجد زاد وحوش الصحراء.
يا «آمون»، أيها الثور ذو المحيا الجميل،٢١ العزيز في الكرنك، وعظيم الطلعة في بيت «بنبن» المتوج ثانية في «عين شمس»، والذي قد حكم بين الاثنين٢٢ في القاعة العظمى، ورئيس التاسوع الأعظم الواحد الأحد لا غيره، المنقطع النظير، المتربع في «طيبة»، و«الهليو بوليتي»، وأول تاسوعه، والذي يعيش يوميًّا على الصدق.٢٣يا ساكن الأفق، ويا «حور» الشرق!٢٤ والصحراء تُخلق له (تُخرِج له) الفضة والذهب واللازورد الحقيقي حبًّا فيه، والعطر والبخور المخلوطين من بلاد «مازوي»، والعطر الجيد لأنفك، يا حسن الوجه حينما يأتي من بلاد «المازوي»!يا «آمون رع»، يا رب الكرنك المتربع في «طيبة» «الهليو بوليتي» المهيمن على حرسه (؟)!
-
المقطوعة الرابعة: أنت أيها الملك الأحد … بين الآلهة، المتعددة أسماؤها التي لا يعرف
لها عدد، المشرق في الأفق الشرقي، والغائب في الأفق الغربي، المولود
مبكرًا كل صباح، القاهر أعداءه كل يوم.
رب سفينة الليل، وسفينة الصباح٢٧ اللتين تسبحان في «نون» من أجلك في سلام، بحارتك يفرحون حينما يرون كيف هزم عدوك،٢٨ وكيف قطعت أوصاله بالمدية، وقد التهمته النار، وعذبت روحه أكثر من جسمه.
وهذا المارد قد قضي على ذهابه، والآلهة تصيح فرحًا وبحارة «رع» مرتاحة من أجل ذلك.
إن «عين شمس منشرحة»؛ لأن عدو «آتوم» هزم، و«طيبة» مسرورة، و«عين شمس» مبتهجة أيضًا لذلك، و«سيدة الحياة»٢٩ مرحة؛ لأن عدد سيدها قد هزم، وآلهة «بابليون» في ابتهاج، وآلهة «ليتوبوليس»٣٠ يقبِّلون الأرض حينما يرونه، وإنه قوي في سلطانه، وأعظم الآلهة بطشًا، الواحد العادل (؟)، رب «طيبة»، باسمك يا من خلقت العدل أو الحق.يا رب الزاد، وثور الأرزاق باسمك هذا «ثور أمه».
خالق جميع الناس الكائنين، وبارئ كل كائن، باسمك «آتوم خبر»، يأيها الصقر العظيم الذي يجعل الجسم مبتهجًا!٣١ الحسن الوجه، والمُدخل الفرح على الصدر، ذو الشكل اللطيف، والريش السامي … الصلان على جبهته.ومن تسكن قلوب الناس حوله، والذي أذن لبني الإنسان أن يخرجوا منه، ومن يسر الأرضين بطلعته.
الحمد لك يا «آمون رع»، يا رب «الكرنك» الذي تحب مدينة إشراقه.
أما الأناشيد الأخرى للإله «آمون» التي كُشف عنها حديثًا فهي:
(٢) أناشيد للإله «آمون رع»٣٢
«الحمد لك يا «آمون-رع-حور اختي».
الذي تكلم بفمه، ومن ثم خلق بني الإنسان، والآلهة، والماشية، والماعز جميعها، وكل ما يطير وما يحط.
وإنك راعٍ شجاع ترعاهم إلى أبد الآبدين، وبذلك أصبحت الأجسام مملوءة بجمالك، والعيون تبصر بك، وسرى الخوف منك إلى كل الناس، وقلوبهم تتطلع إليك، وإنك طيب في كل زمان، وكل بني الإنسان يعيشون لمشاهدتهم إياك.
وكل إنسان يقول: إننا ملكك؛ يتساوى في ذلك الشجاع والجبان، والغني والفقير بصوت واحد، وهكذا يقول كل شيء، ورقتك في قلوبهم، وكل إنسان يرى جمالك.
ألم تقل الأرامل: «إنك لنا زوج»، والأطفال: «إنك لنا أب وأم»؟ والغني يتفاخر بجمالك، والفقير يتعبد إلى وجهك، والسجين يتطلع إليك، والذي أصابه المرض يناديك.
اسمك سيكون حاميًا لكل وحيد، وصحة وعافية لمن يسبح على المياه، منجيًّا إياه من التمساح، وهو ذكرى نافعة في وقت الشدة، منجيًّا إياه من فم الحمَّى، وكل إنسان يلتجئ إلى حضرتك ليتضرع إليك.
وأذناك مفتوحتان لتسمعا، وتعملا حسب رغبتهم (أي الناس)، يا إلهنا «بتاح» الذي يحب صناعته، والراعي الذي يحب رعيته. حقًّا إن جائزته هي أن يمنح القلب الذي يرتاح إلى الحق دفنًا طيبًا.
وغرامه أن يكون قمرًا في مستهله، يرقص له كل بني الإنسان، والمتكففون يجتمعون في حضرته، وسيكشف خبايا القلوب، والأشياء النامية تتحول شطره لتصير مزدهرة، والزئبق يفرح به.
وغرامه أن يكون ملك الآلهة في «إبت أسوت» (الكرنك)، ومحياه بهي (؟)، ومحراب ريح الشمال ملكه، والنيل تحت أصابعه يأتي من السماء كما أمر حتى يصل إلى الجبال، مقدام في قوته، ضار تحت خاتمه (سيطرته)، وبطشه سيوجه إلى الخبيث للقضاء على العصيان، والإنسان يشرب حسبما أمر، ويأكل الخبز على حسب رغبته الحسنة، والقلوب والأجسام في قبضته، ولا فرح بدونه، والسرور ملكه، والابتهاج لمن في حظوته.
ألم تمضِ اليوم راعيًا لبني الإنسان إلى أن ارتحت في حياتك (غاب كالشمس؟)، دعنا نبتهج بك في الغرب حينما تسلمنا إلى الليل، تعال إلينا في حياة وثبات وقوة حتى تسمع شكايتنا.
من هذه النقطة نجد أن كل مقطوعة تبتدئ بصيغة تعجبية تُكرر غالبًا ثلاث مرات يتخللها نداء. ما أعظم ارتياحك! ما أعظم ارتياحك! يا «آمون» ما أعظم ارتياحك! لقد سرك أن تعمر القطرين، لقد نظمت عليه القوم، وثبت البلاد على حسب أمرك الصائب، إنك واحد راضٍ.
ما أجملك! إنك في سلام؛ لأني أتيت بكل بني الإنسان إلى الوجود، والدنيا هي جزيرتك الجميلة، والشر والعنف قد سقطا.
وعامة القوم وعِليتهم يمدحونك، والماعز والماشية تتطلع إليك، والأشياء الطائرة تنطلق عاليًا نحوك، وكل النباتات النامية تلتفت إليك لجمالك، ولا حياة لمن لا يراك.
ما أشجعك! ما أشجعك! يا إلهنا «رع» ما أشجعك! لقد حكمت العالم السفلي، ووهبت ساكنيه الحياة، واستجبت لشكايات المتعبين فيه.
ما أشجعك! ما أشجعك يا إلهنا يا «رع»! ما أشجعك بإشراقك في الصباح! أنرت المحيط، لقد أيقظت كل الأشياء التي أتت إلى الوجود، ولقد فتحت سبلها بوصفك راعيهم، ولقد بعثتها إلى الحياة مرة ثانية لأنك حاميهم.
ما أشجعك يا إلهنا يا «رع»! أنت يا رب السماء، وأنت أيها الراعي الذي يعرف كيف يكون راعيًا، أليست أذناك تميلان إلى قلوبهم؟ وإرشادك (؟) في كل جسم وبطشك متيقظ لكل سيئ النية، وليس هناك شيء تجهله على الأرض.
ما أقدسك في الغرب! أنت يا من يغني الأبدية، والشكاوى تُجمع إليك؛ أنت يا قاضي الصدق، أنت يأيها الإله العظيم حاكم (البوابة)، يا من تميل إلى من يناديك، وعندما ينبثق فجر النهار يكون قد أفنى الأعداء الناهبين، فلا يجعل لهم وجودًا، وهو يأمر بأن يحكم الصدق في أرض الجبانة.
ما أقدسك في الغرب! أنت أيها الراعي الذي يعرف كيف يكون راعيًا، لقد وضعت السعادة على كل عين، وأعدت قاعاتهم السرية (؟)، وقد صارت قوتك حمايتهم، وأنت الذي عمله لا يخيب قط، وكل الناس الذين استولى عليهم الإغماء تعود إليهم الحياة ثانية عند شروقك.
ما أجمل شروقك يأيها الراعي العظيم! تعالي جميعًا، أيتها الماشية، تأملي إنك تمضين اليوم في المراعي تحت حراسته، وقد أبعد عنك كل أذى، إنه يغيب في سلام إلى أفقه، وأراضيكم …
ما أجمل إشراقك يا «رع»! إنك تجعل اللصوص يرتدون، وهاتان العينان تنظران وتبكيان (؟) … ليل نهار في الأراضي، والأرض الصامتة … صانع الجمال ألم تضئ، وبذلك تنبعث الحياة (؟) …
ما أجمل إشراقك يا «رع»! يأيها الراعي المحبوب! … والماعز، والماشية، والطيور تصيح له … مصر، ونوره الجميل يأتي إلى الوجود (؟).»
والظاهر أن معظم بقية هذه الورقة قد مُزق قصدًا أو اتفاقًا.
والواقع أن هذه الأناشيد في جملتها تشبه أناشيد ورقة «ليدن»؛ إذ نجد في هذه الورقة أن «آمون-رع» قد ذُكر باسمه الشائع هذا مرة واحدة، وإن كان هو الإله الوحيد الذي كان يقصد المؤلف تبجيله، والإشادة به، وقد ذُكر غير مرة باسم «آمون» فحسب، أو باسم «رع».
ولا غرابة في أن نراه يُذكر في بعض الأحيان في أنشودة «ليدن» باسم «حور اختي»، و«آتوم»؛ لأنه كان يمثل إله الشمس، ولكن الذي يلفت النظر هو أنه قد وصف في حالتين بأوصاف الإله «بتاح» بصفة قاطعة.
وهذه المميزات تظهر لنا ثانية في هذه الأناشيد؛ إذ نجد أن اسم «آمون رع» لم يُذكر إلا مرتين، على حين أن الاسم المركب «آمون-رع-آتوم-حور اختي» يظهر في سياق الكلام على أنه يدل على اسم واحد مسيطر؛ وقد سمى هذا الإله «بتاح» عندما نُعت بأنه الصانع العظيم، كما أنه ينعت بالنيل عندما يتخذ صفات الإله «حعبي» (أي النيل)، ولكن على الرغم من كل ذلك فإن أعظم مظهر له هو الشمس؛ إذ إنها إذا غابت انحلت قوى بني الإنسان وماتوا، وإذا أشرقت انتعشت كل المخلوقات. والواقع أن الحياة بدون الشمس المشرقة تصبح مستحيلة، وقد استمرت الصور الخرافية القديمة عن إله الشمس تُذكر في هذه الأنشودة، فهو يسبح في الماء في سفينة، ويرسل لهيبه على الثعبان «أبوبي» عدوه الأكبر الذي يعترض سيره في الماء، هذا إلى أن الإلهة «نوت» ربة الماء تحمل فيه ليلًا، وتلده كل صباح في شكل ثور صغير، ولكن إذا كان له جسم سماوي ظاهر نهارًا، فإنه في أثناء الليل يحكم في العالم السفلي، وهو كذلك يُعد كإله القمر، ويسر سرورًا خاصًّا في أن يظهر نفسه هلالًا، وربما كان ذلك إشارة للإله «خنسو» إله «طيبة» الذي كان يُعد ابن «آمون»، و«موت»، ومنهم جميعًا يتألف ثالوث «طيبة».
ونجد كذلك في هذه الأنشودة إشارة للإلهة «موت» المكملة للثالوث، فهي أم الإله المتلَون كالحرباء (أي المتعدد الصور)، وكذلك نجد في فقرة أن إلهة الصدق قد عدت أمًّا وأختًا له. وقد ذكرنا سابقًا أن الإلهة «نوت» إلهة السماء قد حملت فيه، وقد ذكرت معه عدة آلهة أخرى، غير أنها تلعب دورًا ثانويًّا، وقد جيء بذكرها هنا لتمجيد الإله الأعظم، وقد ذُكر «آمون رع» في هذه الأناشيد بوصفه إلهًا نافعًا، وقد اتصف بأنه «راعٍ طيب» مرارًا وتكرار، وأنه أقرب الأقرباء إلى بني البشر، والحيوان، والنباتات من مخلوقاته.
وهو الذي يحفظ كيان الحياة، ويمد الإنسان بأرزاقه؛ ولذلك تعبده الطبيعة كلها. وهو عدو قاسٍ للثائر والخبيث، وهو يمنح كل من يواليه الفرح والسرور، وهو قاضٍ مسيطر عادل، وأذناه مفتوحتان لتسمعا الشكايات.
على أن أكبر ظاهرة تسترعي النظر في هذه الأنشودة هي التأكيد الذي يظهره بأنه «رب الكون». ولا يغرب عن ذهن أي باحث أن يرى بشكل بارز كثرة ورود التعبيرات: «كل واحد»، و«كل إنسان»، و«كل بني الإنسان».
وكما أنه لا يفرق بين الفقر والغنى، فإنه كذلك يمد سلطانه على الأجانب خارج الحدود المصرية، وقد ذكر أهل البحر الأبيض المتوسط ثلاث مرات.
ولا شك في أننا نشاهد في هذه الأناشيد تأثير فكرة التوحيد التي ظهرت في «تل العمارنة»، ومع أنها أُخمدت بكل شدة وعنف إلا أنها تركت أثرها في أذهان القوم بصفة جلية.
على أنه توجد أنشودة للإله «أوزير» من نفس ذلك العصر مخاطبة له بما يأتي:
وفي كل ذلك نجد روح العناية الإنسانية قد ظهرت مبكرة — كما ذكرنا فيما تقدم — منذ التعليم الاجتماعي في العهد الإقطاعي المصري، يضاف إلى ذلك أن تفضيل المستضعف على المستكبر والمتجبر، والأمر السائد، والمعرفة، وهي الامتيازات الملكية الإلهية، قد عثرنا عليها من قبل في المقالات الاجتماعية التي فاه بها أمثال «أبور»، و«خعخبر رع سنب»، و«نفرروهو»، وكذلك في الوثائق الحكومية، وبخاصة في الدستور الذي وضعه الفرعون للوزير في عهد الأسرة الثانية عشرة، وسار عليه الملوك فيما بعد. والحقيقة أن التعبير عن الإله بأنه هو الأب والأم لمخلوقاته يرجع إلى ما كان عليه الاعتقاد في مذهب «آتون».
ومع أن أمثال هذه الأناشيد لا تزال كذلك تحتفظ في ثناياها بالعقيدة العالمية، وبعدم الالتفات إلى حدود البلاد القومية، وبالنظرة الواسعة البعيدة المرمى، وهي الأشياء التي ذكرناها في تعاليم «إخناتون»، فإنها على الرغم من ذلك تكشف لنا عن ثقة شخصية تدل على طيبة الإله، وهي بذلك برهان هام على طموح الإنسان الشخصي في عون الله ورحمته، ومن ثم تكشف لنا عن بداية العصر الجديد للتدين الانفرادي الذاتي، وهو مناجاة الله مناجاة سامية خالصة تدل على الورع، والخوف منه، والتوسل إليه في كل ما يحيق بالإنسان من ضر.
والواقع أننا عندما ننعم النظر في العقائد البسيطة التي لا تتصل بالكهانة كثيرًا في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر؛ أي في القرنين اللذين أعقبا عصر «إخناتون»، نجد أن ثقة المتعبد في عناية إله الشمس بكل المخلوقات حتى صغيرها قد تطورت إلى روح نقية خالصة، وشعور فياض من الاتصال بالذات الإلهية، وهو الذي ظهرت آثاره من قبل حينما قال «إخناتون» لإلهه: «وإلى الآن فإنك لا زلت في قلبي.»
وعلى ذلك نرى أن نفوذ مذهب «آتون» الباقي، وعقائد العدالة الاجتماعية التي تجلت في العهد الإقطاعي — عندما طالب الشعب بحقوقه — قد سمت وقتئذ بظهورها في أعمق تعبير مؤثر للروح الدينية الورعة التي لم يصل إليها قبل رجال مصر قط، يضاف إلى ذلك أنها على الرغم من تأصلها في تعاليم فئة قليلة محصورة، فإن تلك المعتقدات التي كانت ذات علاقة شخصية وثيقة بين العبد وربه قد صارت آنئذ بمرور القرون منهاجًا بطيئًا متدرِّجًا، منتشرة انتشارًا واسعًا بين الشعب، وكانت النتيجة انبثاق فجر عصر التعبد الانفرادي، والإلهام الباطني بين الله وعامة خلقه، وذلك يعني التحنف والتعبد لاستصلاح النفس والروح، وتحليتهما بالأخلاق الفاضلة عن طريق العبادة، والورع، والزهد، والتنسك، وهو ما يُعرف بالتصوف عندنا الآن.
ومما يؤسف له جد الأسف أن الوثائق التي في أيدينا عن هذا التنسك والتعبد لم نجدها حتى الآن إلا في مكان واحد وهو «طيبة»، ويمكننا أن نتعقب هذا المظهر الجديد من الديانة الحقة في تلك الجهة، ولا يخلو ذلك من فائدة؛ إذ أصبح في استطاعتنا معرفة مدى أرواح عامة الشعب الذين كانوا يملئون الطرقات والأسواق، والذين كانوا يحرثون الحقول، ويزرعونها، ونهضوا بكثير من الصناعات العالمية، وكذلك الذين كانوا يمسكون بدفاتر تدوين الحسابات، ودوَّنوا السجلات الرسمية، أو الذين كانوا يقطعون الأخشاب، ويمتحنون الماء، وغير ذلك.
وهؤلاء هم الرجال والنساء الذين وقع على كواهلهم عبء تلك الحياة المادية الشاق المنهك للقوى في حاضرة البلاد المترامية الأطراف، في خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر قبل الميلاد. فنجد مثلًا أن كاتبًا في إحدى مستودعات الخزانة في جبانة «طيبة» يدعو الإله «آمون» فيقول:
ومن ذلك نفهم أن الإله الذي يوجه عنايته إلى كل شيء حتى المحافظة على العصافير، مثل «إله عيسى»، كان في استطاعة أهل «طيبة» أن يشكوا إليه مصائبهم وهمومهم في حياتهم اليومية؛ واثقين في شفقته وحنانه، وفيض رحمته.
ويشاهَد «نب رع» راكعًا أمام «آمون»، وفوقه النقش التالي:
وفي أسفل اللوحة المتن التالي:
أقامها رسام آمون في «مكان الصدق» «نب رع» المرحوم ابن الرسام في مكان الصدق «باي» المرحوم باسم سيده «آمون»، رب طيبة الذي يأتي عند سماع صوت المتواضع.
وقد وجدت أن رب الآلهة قد أتى مثل النسيم، والرياح الجميلة أمامه بغية أن يشفي «نخت آمون» رسام الإله «آمون» المرحوم ابن رسام «آمون» في مكان الصدق «نب رع» المرحوم، وهو الذي وضعته السيدة «بشد» المرحومة، فيقول:
وهكذا صار إله الشمس، أو «آمون» الذي يقوم مقامه؛ لأنه يسمى كذلك «آمون رع» ملاذ المحزونين، ويسمع الشكوى، ويجيب دعاء من يستغيث به، وهو الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهو الذي يقبل صلاة المصلين، ويمد يده إلى الفقير والمعتر، ويشفي المريض، ويعفو عن المذنب.
والواقع أن العدالة الاجتماعية التي أنتجتها الثورة الاجتماعية في العهد الإقطاعي كانت آنئذ حقًّا يدافع عنه كل فقير أمام الإله الذي صار هو نفسه قاضيًا عادلًا لا يقبل رشوة، رافعًا من شأن الحقير، وحاميًا الفقير، غير باسط يده للغني.
ومن هذا النص نفهم أن كلًّا من الغني والفقير يحيق بهما غضب الإله على السواء إذا وقعت منهما خطيئة.
وكذلك نجد أن اليمين الذي يصدر استخفافًا أو كذبًا يجلب غضب الإله؛ إذ يصيب الحانث المرض، أو العمى، وذلك لا يمكن النجاة منه إلا إذا أتبع الإنسان ذلك بالتوبة والندم، ثم التجأ إلى التذلل والخضوع؛ ليحوز عطف إلهه.
وعلى ظهر نفس اللوحة نقرأ: هنا يبتدئ الاعتراف بقوة «بتاح» القاطن جنوبي جداره من الخادم في «بيت الصدق» في غربي «طيبة»، المسمى «نفرابو» المرحوم، فيقول:
ومما تجدر ملاحظته هنا على الفور المقابلة الظاهرة بين ذلك الاعتراف، وما جاء في «كتاب الموتى» الذي لا يعترف فيه الروح بأي خطيئة، بل يدعي البراءة التامة من كل الآثام الإنسانية، ولكن هذا الموقف الذي يعترف فيه الإنسان بخطيئته مع التذلل والخضوع والمسكنة لأكبر دليل على وجود اتصال بين العبد وربه آناء الليل وأطراف النهار.
وكما أننا نجد العبري التقي يحب بيت المقدس، والمسلم الورع يتجه بقلبه إلى الكعبة بمكة، كذلك كان المصري القديم يولي وجهه شطر مدينة عين شمس العظيمة التي نشأ منها مذهب آبائه منذ أقدم العهود، فاستمع لأحد الأفراد، وهو يقدم صلاته للإله «رع»، موليًّا وجهه شطر عين شمس إذ يقول:
تعالَ إلي يا «رع حور اختي» لترشدني، إنك أنت الفعال، وليس أحد سواك يفعل شيئًا، إنك أنت فحسب الذي يفعل كل شيء.
تعالَ إلي يا «آتوم» … إنك أنت الإله السامي، وإن قلبي يتطلع نحو عين شمس، ونفسي سعيدة ولبي منشرح.
فنجد في تلك الأناشيد القديمة التي كانت في الواقع تتألف من أوصاف ظاهرة، ومقتبسات من الأساطير، ومن إشارات إلى حوادث خرافية عتيقة، وكلها أمور خارجية بالنسبة لحياة المتعبد، إنه كان في مقدور كل إنسان أن يؤدي نفس الصلاة، غير أن هذه الصلاة صارت وقتئذ بمثابة محاسبة باطنية، أي إنها كانت تعبيرًا يقصد به الاتصال المباشر الذاتي بين العبد وربه، وهذا الاتصال هو الذي يرى فيه العبد أن ربه واحد يغذي روحه، كما يغذي الراعي قطعانه، فنجد مثلًا لذلك فيما يأتي: